“عن أحد أعرق مشايخ الموحّدين في لبنان” .. الشيخ أبو حسن حلاوي و قصصه التي تُقاربُ المُعجزات
كتب الإعلامي سامي كليب : “منذ ربيعِ شبابِ جيلي، كنّا نسمعُ عن شيخٍ جليلٍ في جبال لُبنان أكرمه الله بأن زرع في قلبه الإيمان منذ طفولته، وكافأه في حياته المديدة حيث عاش 103 أعوام، بأن وضع فيه شيئا من سرّه، ظهر في عدد من المكرمات التي عرفها من عاصره، ورواها من عرفه، وحفظها من خلفه. فصار من أولئك الرجال الذي كرّسوا حياتهم لعبادة الله، ولحثِّ عبادِه على الخير فكانوا رجالاً ” صّدّقوا ما عاهدوا الله عليه…فأقاموا على عبادته وطاعته مجاهدين أنفسهم النقية في سبيل رضاه، ناهين جوارحهم الطّاهرة وقلوبهم التقية عن تعدّي حدوده، فتميّزوا بين خلقه منائرَ، تدلُّ على رفعة شأنهم “.
كانت قلوبُنا الفتيّة تُصدّق كثيرا مما قيل عن مكرماته، وعقوُلنا المتمرّدة تحاول أن تشكك بكل ما قيل في سبيل اليقين أو التصحيح. لكن أخبار الشيخ وسيرته و” معجزاته” صارت في جبالنا الجميلة الهانئة بسحر خالِقها، حكايا كلّ بيت في ليالي الشتاء المُثلجة وسهرات صيفه المُقمرة، حتى كاد كلُّ بيت يضع صورته في صدره، أو يحفظُ شيئا مما خطّته يداه.
هو الشيخ أبو حسن عارف حلاوي، ولد عام 1899 في الباروك في جبال الشوف حيث الثلجُ يكلّل شجر الأرز شتاء، وحيثُ شجرُ الأرز يهدي ظلاله للراغبين بشيء من متعة الطبيعة صيفا. ورحل عن هذه الدُنيا في العام 2003 تاركا خلفه مآثر من صدقٍ وتواضع وصوفية وإيمان، وخير وصفاء وعرفان.
ومن على هذا العمر المديد، عرفت حياة الشيخ كلّ شؤون وشجون لبنان من عهود العثمانيين والفرنسيين والحروب والاجتياحات والويلات وانتهت في عام اجتياح أميركا وبريطانيا للعراق. فكان بين النائبة والمصيبة، يزرع الطمأنينة في نفوس مَن حوله، ويساهم في تهدئة مخاوف الناس، ويهدّئ الجوارح النازعة صوب الحرب، ويجلس على الأرض بثيابه البيضاء الناصعة ولحيته الناصعة وقلبه المُحب وعينيه اللتين تشعّان نورا وصدقا وصفاء، يستقبل الزوار، فيسمع كثيرا ويقول قليلا، وفي القليل مما يقوله ينثر الحكمةَ والصبرَ والمعرفة.
لم يترك الشيخ أبو حسن عارف حلاوي، مذكّراتٍ ولا كُتُبا، وإنما حفظ مريدوه وأحبابُه الكثير من أقواله، حتى جاء الشيخ المُثقف والورع سُلطان القنطار، ليجمع كل الأخبار والوثائق والقصاصات في كتاب صدر قبل 3 سنوات بعنوان :” العارف بالله، الشيخ أبو حسن عارف حلاوي، سيرة حياته” وذهب ريعُ الكتاب الى “مدرسة الإشراق” في المتن، والتي تنثرُ التربية والعلم ورفعة الأخلاق والإيمان.
يقول المؤلف :” ان الطفل عارف ظهرت عليه علامات النجابة والفطانة ودقة المُلاحظة منذ سنيه الأولى، وكذلك تمييزه الدقيق بين أمور الحلال والحرام، وقد روت أحدى شقيقاته أنها ذات يوم، وهي عائدة الى البيت، وقبل وصولها بقليل، تناولت من مكان قرب الطريق قضيبا، وحملته معها الى البيت، وحين رآها أخوها عارف، ولم يكن قد تجاوز بعد الثالثة من عمره، راح يبكي ويتكلم بكلام غير واضح، فظنّت أنه خائف منها أن تضربه، لكن بكاءه كان في الواقع بسبب تناول شقيقته لشيء ليس لها الحق فيه، فطلبت الوالدة من ابنتها إعادة القضيب الى مكانٍ ليتوقّف البكاء” .
بدأ الشيخ عارف مسلكَه الدينيَ التوحيديَّ على نحو قاسٍ، في المأكل والمشرب والمنامة، حيث كان ينامُ منذ شبابه واضعا رأسه على حجر بدلا من المخدّة، وكان كثير الصمت دائم التفكير والتأمل بأحوال الدنيا وما بعدها، واذا تكلّم فيختار من الكلام خيره وقليله، واذا مشى يغضّ بصره مُطرقا رأسه في الأرض، وفي فترة قصيرة جدا، أصبح الشيخ عارف حديث الناس في قريته والقرى المجاورة، وبات في مصاف المشايخ الأوائل في الشوف وباقي المناطق.
وعلى عادة مشايخ التوحيد الورعين الصادقين العرفانيين المؤمنين بأن الحياة مجرّد عبور الى عالم أرحب وأن الجسد مجرد قميص يتبدل مع كل عصر لتبقى الروح أساسا، فهو تزوّج دون أي علاقة غير أخوية مع زوجته الشيخة زهر ولم ينجب أولادا. واتخذ من الكتابة والنسخ حرفةً ليعيش، تاركا لعمّه والد زوجته الشيخ الجليل أبي حسيب أسعد الصايغ، الاهتمام بشؤون الناس، حتى وافت المنيّةُ عمه في السنوات الأولى للحرب الأهلية ، فأكمل المهمّة، وراح ينشر دعوات التآلف والمحبة بين أبناء الجبل من موحدين دروز ومسيحيين.
من الروايات المُحقّقة التي نقلها الكاتب وتناقلها الناس طويلا:
في أثناء الاجتياح الإسرائيلي للبنان وحصار الجبل، لم يغادر الشيح عارف منزله لعام كامل، وتعرّضت بلدة معصريتي الشوفية التي يقيم فيها للقصف العنيف حيث سقطت عليها 600 قذيفة، لكن المفاجأة ان أحدا من أبناء القرية لم يُصب بأي أذى، وهم يعتقدون ويؤمنون بأن “بركة” الشيخ أنقذتهم، وفي أحد أيام الحصار جاءه ضابط إسرائيلي طالبا اعتقال أحد شباب القرية، فرفض الشيخ، والحّ الضابط وتحدّاه بنبرة قاسية، فاكتفى الشيخ عارف بالقول :” روح الله لا يوفقك” ، وما ان خرج الضابط من عنده حتى انقلبت به سيارته وأصيب بجروح خطيرة، فروى لزميله الإسرائيلي الحكاية قائلا :” إن في معصريتي شيخا اسمه أبو حسن عارف، إيّاك أن يغضب منك فيكون مصيرُك مثلي” .
كثيرون يتناقلون هذه الحكاية والمئات غيرها عن الشيخ الذي زاره معظم السياسيين اللبنانيين، ويُحكى أنه حين زاره العماد إميل لحود في مقرّه، قال له :” عساك ستنتقل من قيادة الجيش الى قيادة البلاد” وبعد فترة أصبح لحود بالفعل رئيسا للجمهورية اللبنانية وأرسل له عقيلته شاكرا ، كذلك زاره رئيس الوزراء الراحل الشهيد رفيق الحريري، ونائب رئيس مجلس النواب إيلي الفرزلي الذي يروي أنه حين زار الشيخ في المُستشفى للاطمئنان على صحته رأى نورا يشع من داخل الغرفة، وقد ظنّه نورا طبيعيا مُتسلّلا من خارج الغرفة، لكن دهشته كانت كبيرة حين تبين له ان النوافذ جميعها كانت مُغلقة وان مصدر النور كان وجه الشيخ.
أقوالٌ كان الشيخ أبو حسن عارف دائم تردادها وهي ليست جميعها منه :
مّن لم يُعدُّ البلاءَ نعمةً فليس بحكيم
من خاف الله تعالى دلّه الخوفُ على كلّ شيء
من خاف من الله تعالى خاف منه كلُّ شيء، ومن لم يَخَف من الله تعالى خاف من كلّ شيء
الذي في قلبه حقيقة أذا أخطأ يندم ويخاف، والذي قلبه فارغ من الحقيقة لا يشعر بشيء
إذا سمعتَ كلمةَ سوء فأمِتها في قلبِك قبل أن تصيرَ جمرةً فتحرقك
حسن الخلق يُذيبُ الخطايا كما تُذيبُ الشمسُ الجليدَ
من أساء اليّ عاملته بخمسة: الأوّلة لا أرد عليه، والثانية لا أحقد عليه، والثالثة لا أسيء اليه والرابعة لا أطالبه يوم العرض عليه، والخامسة لا أدخل الجنّة الاّ به إن استطعت.
كان الشيخ أبو حسن عارف حلاوي، تقيّاً ورعا صادقا بإيمانه ومع جميع الناس، زاهداً بالدنيا ومجدها، حافظا لإخوانه واللسان، مُحافظا على البشر والحجر والشجر والطبيعة من مُنطلق حفظ أمانة الله، فلو غسل يديه لا يستخدم الا قليلا جدا من الماء، ولو سُئل عن ذلك وفي بلدته مياه غزيرة ووفيرة، قال:” أنا مُطالبٌ فقط بالماء الذي استخدمه” .
في هذه الأيام التي يسمّيها الموحّدون الدروز المسلمون ب ” عشور العيد” أي الأيام العشرة التي تسبق عيد الأضحى، يزور كثير من الناس ضريح الشيخ أبو حسن عارف حلاوي للحصول على بركة روحه الطاهرة، وذكر مآثره الحميدة، ومحاولة التشبّه بشيء من سيرته الناصعة، رحمه الله.
كتاب ” العارف بالله” فُسحةٌ من طمأنينة الروح، وصفاء الوجدان، وراحة القلب، في هذا العالم الذي صار الإيمانُ فيه مُصطنعا ككل شيء، فتصارع الناس على الكتب السماوية وباسمها حتى نسوا مقصدها الذي هو خالق كل شيء.
بقلم سامي كليب