من قتل الرائد جاد نمر؟ إختفى هاتفه… وحاسوبه كان مفتوحاً عند الباب

 

صدى وادي التيم – من الصحافة اللبنانية/

 

#العدالةلجاد #العدالةللقمان #العدالةلجو #العدالةلمنير #العدالةلضحاياالمرفأ… وتكرج الهاشتاغات التي تطالب بالعدالة لرجالٍ ونساء أشداء، أقوياء، شجعان، كانوا يحلمون وفي لحظة، في أقل من لحظة، راحوا في جرائم لم تنكشف خيوطها العنكبوتية. الرائد جاد نمر مضى على اكتشافه ميتاً في منزله في بلونة 40 يوماً. أيامٌ يفترض أن تكون كافية لالتقاطِ خيوط ما حصل. فهل ننساه كما سواه؟ هل نطوي صفحته ونتابع في انتظار أن يحين أوان صدور قرار تصفية سواه؟ أفلا يحقّ لنا بعد أربعين يوماً على رحيل الرائد أن نسأل: من قتل إبن المؤسسة العسكرية جاد نمر؟

لا، لم ننسَ هذا الإسم. لم ننسَ وجه الرائد الباسم، الشجاع، الذي انتشر فور اكتشاف جثته وغاب اسمه، بعد حين، وكأن لا أحد قد مات. فهل أصبح الموت سهلاً أم أن من يغدرون باتوا أقوى؟

في جلّ الديب، حيث تناول آخر غداء مع أسرته، نهار الأحد في 14 آذار، إلتقينا بوالديه المفجوعين أنطوان وأمال وبشقيقه هادي. هنا جلس. هنا إبتسم. هنا تناول قهوته وتسامر مع شقيقيه هادي وربيع وضحكوا كثيراً. فربيع، الشقيق الأكبر، هو طبيب جراح يعمل في كبريات مستشفيات نيويورك وكان قد وصل للتوّ، نهار الجمعة، في 12 آذار، الى لبنان. وكانت البلاد “لوك داون”. إستقبله جاد في المطار وصعدا الى الجبل، الى بيت العيلة في بلدة حيداب – جزين. بيت نمر من هناك. أما الوالدة فمن آل أبو جودة من جل الديب. وبين حيداب والذوق (حيث سكنت العائلة) وجل الديب، كبرت العائلة والأولاد.

الأم الثكلى تتكئ على كرسيها وتناجي إبنها الأصغر، الرائد جاد، المؤطر في صورة. نراها تبتسم له حيناً لتعود وتغضب منه لتعود من جديد وتدعو مرددة: “يا ضيعانك يا قلبي يا صغير البيت”. هي موجوعة كثيراً كثيراً وتقول: “لم أرد أن يدخل الى الجيش. قلبي كان “ينقزني” دائماً. لكنه خيّرني بين دخوله الى المؤسسة العسكرية أو الهجرة فاخترت بالطبع أن يبقى هنا. وليتني ودعته مهاجراً لا قتيلاً”.

نُصغي الى الوالدة المفجوعة. نُصغي الى الشقيق الذي خسر من كان يناديه كلما قال “آخ”. يدخل الأب. عيناه متورمتان. يقترب ويتمتم بضع كلمات لخّصت كل ما يشعر به: “كنت فرحاً جداً به. “كنت شايف حالي”. حقق حلمي حين أصبح رائداً لكنه مضى. إنتهى الحلم”. يا لوجعِهِ.

كلام كثير وتفاصيل كثيرة تُحكى في البيت الحزين. في الصدارة شهادة قائد كتيبة تسلمها الرائد نمر قبل شهر من رحيله وفيها: إن قائد كلية فؤاد شهاب للقيادة والأركان يمنح الرائد جاد نمر شهادة قائد كتيبة بتقدير جيّد جداً نتيجة لنجاحه في الدورة الرابعة والخمسين المتبعة ما بين آب 2020 وكانون الثاني 2021. كان فرحاً بهذه الشهادة.

قيل أن الرائد إنتحر. وقيل ان هناك أسباباً شخصية. ونعته قيادة الجيش وقالت: قُتل. ولم نفهم لا أكثر ولا أقل. فلنبدأ من مقولة: قُتل. فلماذا يُقتل؟ هل هناك من كان يُضمر له شراً؟ هل هناك من أراد تصفيته جسدياً من أجل إخفاء معلومات ما؟ هل صحيح أنه حارب الإرهاب واستبسل وهؤلاء أناس لا ينامون على ضيم؟

يتحدثون في بيت عائلة الرائد عن “ابنهم، الشاب، الذي كان يعاني من مشاكل في البصر ويضع نظارات، ما أدى الى رسوبه في أول دورة تقدم إليها الى المدرسة الحربية. ذهب واجرى عملية “لايزر” ونزع النظارات وعاد وتقدم الى الدورة التي تلت. وحصل على معدل يزيد عن 13 . حصل ذلك العام 2003. ويوم نجح طار فرحاً وحين وصل الى البيت قال لوالدته ممازحاً: نادني حضرة الكابتن. أجابته: مبروك يا إمي. ومن يومها وقلبها “ينقزها”. دخل الى المدرسة الحربية. انطلقت الثورة في العام 2005. وفي العام 2006 كان موعد تخرجه فوقعت حرب تموز وأرجئ التخرج وظلّ يُرجأ لتتالي الأحداث الى حين أصبحت دورته الوحيدة في الجمهورية اللبنانية التي لم يجر لها حفل تخرج. شارك في دورة في الولايات المتحدة الأميركية وأتى الثالث في دورته”. أمال، الوالدة، تتمهل هنا في حديثها مرددة: “إبني حارب الإرهاب ولا أبرئ هؤلاء أبداً. يقولون لي هناك من هم أقوى منه فأجيبهم الأقوياء يتمتعون بحماية أشدّ”.

فما حال الرائد نمر مع الإرهاب؟ يجيبون في البيت: “هو شارك في أحداث نهر البارد في العام 2007. هو رفيق النقيب الشهيد روي أبو غزالة الذي ذبحه الإرهابيون هناك. وهو أصيب في تلك الأحداث وحصل على وسام الجرحى. “كتر خير الله ظمط” يومها. وشُكّل الى الحدود اللبنانية- السورية في فوج الحدود المشتركة على الحدود الشمالية. وواجه هناك أيضاً الارهاب. وأرسل أيضاً الى عرسال وقبض على أحد كبار الإرهابيين هناك عند نقطة وادي حمير السوري عماد جمعة ونقله بنفسه الى وزارة الدفاع. وعاد وشارك في المعارك التي جرت هناك. كان دائماً مشروع شهيد”.

تتحدث الوالدة عن قلبِها الذي كان دائماً يُنبئها ان ولدها في خطر. وان له خصوماً دائمين. تقول هذا ثم تسكت كي لا يجرّ الكلام كلاماً. ثم انتقل الى مخيم عين الحلوة. وكم سمعته يقول في الآونة الأخيرة: ليتهم ينقلونني الى الحرس الجمهوري كي أرتاح.

هو يتمتع بشخصية هادئة. هو عسكري الصفات “لابستو الصفات العسكرية لبساً” لا يتكلم كثيراً. لكنه كان سريع الإستيعاب ويفهم “على الطاير”. فهل شعر أهله في آخر لقاء لهم معه يوم الأحد في 14 آذار أنه قلق من شيء ما؟ يجيبون: “لا، كان يتمتع بسلام داخلي. ووالدته قالت: جاد لم يكن يتابع الأخبار. أنا أتابعها وأحلل أكثر منه. كل همّه كان القيام بمهامه على أتمّ وجه. وكان جدّ صبور. ويرفض استخدام بزته وموقعه لأي “غاية شخصية”. وهناك أمور كثيرة، عن مساعدات كان يقوم بها الى كل من احتاجها، عرفناها عنه بعدما مات”.

ماذا عن علاقتِهِ بزوجته ميشيل غالب؟ هل كانا منفصلين؟ لا، لم يكونا كذلك لكن كانت هناك بعض التفاصيل الصغيرة. وابنته الوحيدة غبريال (4 سنوات) كانت روحه

اليوم الأسود

لماذا قُتل؟ وهل ظهر أيّ جديد في قضيته؟ يجيب شقيقه: “هناك شرّ كبير وحقد غريب في ما حصل له”. فلنبدأ منذ البداية. ماذا حصل بعد أن غادر “غداء العيلة” ذاك الأحد وصعد الى منزله في بلونة؟ يومها تناول مع شقيقيه هادي وربيع واخواله وخالاته ووالديه “المشاوي” التي يُحب. وأخذ حقيبته التي فيها ثياب الخدمة وصعد نحو الساعة السابعة والنصف مساء الى بلونة من أجل إنهاء تركيب الإنترنت في البيت. يقع منزله في حيّ راق في بلونة، بالقرب من كاتدرائية الروم الأرثوذكس هناك، على مقربة من قصر جان عبيد. والمبنى الذي يسكن فيه مؤلف من بلوكين: واحد على الطريق والثاني مطل على الحرش، وهو في الثاني، تحت الطريق. هنا تتذكر والدته حادثة: أضاع جاد قبل أسبوع كل مفاتيحه. بحث عنها كثيراً عبثاً. وبعد يومين عاد ورآها في حقيبته”.

فهل سرق أحدهم المفاتيح وصبّ على مفتاح البيت وأعادها؟ سؤالٌ لا يسقطه أهل البيت.

في اليوم التالي اتصلوا كان يفترض أن يلتحق باكراً في المركز الذي عُيّن فيه حديثاً للتدريب على مكافحة الإرهاب والتزوير “مركز تدريب الأفواج” في مطار رياق. وهو، طوال حياته العسكرية (18 عاماً) لم يتأخر. دقوا من المركز يسألون عنه. فصعد شقيقه الى المنزل قلقاً من ان يكون قد “زحط” في الحمام. هذا ما توقعه. وطوال الطريق استمرّ يدق على هاتفه بلا إجابة. وحين وصل الى مرآب المنزل رأى سيارته مركونة. نظر فيها فرأى الحقيبة التي فيها ثيابه العسكرية موجودة. صعد الى المنزل. دقّ كثيراً على الباب ولم يُفتح له. دقّ الى بيت أهل زوجته القريب من المكان فأتت مع والدها (وهو العميد المتقاعد في الجيش اللبناني جيلبير غالب) ليأتيا بالمفتاح. وحين وصلا وفتحا الباب دخل ثلاثتهم. وأول ما فعله هادي هو الدخول الى الحمام فلربما كان بالفعل قد “زحط” جاد. وكانت الساعة تناهز الحادية عشرة ظهراً. لم يكن هناك ما يوحي عن وجود شيء غريب سوى بعض الأغراض المركونة عند المدخل وحاسوبه مفتوح موجود على الأرض، جانب الباب. نظروا نحو الصالون لا أحد. دخلوا الى غرفة النوم فوجدوه مستلقياً عند حافة السرير وعلى رأسه وسادة بيضاء. فصرخ العميد المتقاعد بهادي كي لا يُمسك أي شيء لكن هادي رفع الوسادة فوجد نقطتين سوداوين على جبينه وبعض الدماء حول عنقه. أما الوسادة فلم تكن ملطخة بالدماء. كانت موضوعة على وجهه فقط. كان جاد ميتاً. كان جاد قد قُتل.

لا أحد يقتل نفسه برصاصتين ثم يضع وسادة على وجهه. ولم يكن في الغرفة أي مسدس. وهاتف الرائد وحده فُقد من المنزل ولا شيء آخر. كان جاد لا يزال بالثياب التي صعد بها من جل الديب. سروال بيج وقميص بذات اللون. وحذاؤه كان لا يزال في قدميه. لحظاتٌ جدّ قاسية يتذكرها هادي لأول مرة أمام والديه، محاولاً أن يشيح نظره عنهما كي لا يشاهدا دموعاً انهمرت من جديد.

وبدأت الشائعات. وصلت القوى الأمنية، المخابرات والشرطة العسكرية والأدلة الجنائية… وتسرّب الخبر قبل أن يعرف أمال وأنطوان أن ابنهما قد مات.

ها قد مرّ 40 يوماً على الحادثة. التحقيقات يُقال لا تزال على قدم وساق وتشهد تقدماً. هذا ما يسمعه الأهل الذين لا يريدون لقضيّة جاد أن تنتهي الى لا شيء. يريدون كل الحقيقة. فجاد لم ينتحر. جاد ليس من نوع الأشخاص الذين ينتحرون. وكل التفاصيل تشي أنه قُتل. جاد شهيد آخر مظلوم لأن قاتليه فعلوا فعلتهم بإتقانٍ.

جاد لن يعود، لكنه لن يكون مرتاحاً في مماته إذا لم تظهر حقيقة موته، وأهله لن يبرد وجعهم الى حين إكتشاف القتلة. ويقول شقيقه هادي: نحن جماعة نحارب الشرّ بالخير. ولن نكلّ بعد أربعين جاد الى حين إكتشاف حقيقة من قتل شقيقي الرائد في الجيش اللبناني. جاد قُتل. غُدر في منزله. وهو قويّ البنية جداً ولا يمكن ان يستسلم الى قاتليه من دون صراع. فكيف قتل من دون أن تحدث جلبة في المنزل؟ أسئلة أسئلة تنتظر أجوبة من تحقيق يأمل كل من عرف جاد أو سمع بجاد أن يظهر. والسؤال الآخر، من أخفى هاتف جاد؟ ولماذا حاسوبه كان مفتوحاً ملقياً على الأرض عند الباب؟

خاله جورج ابو جوده الذي كان يجلب له صباحاً منقوشة بالجبنة، كما يحب، يجزم بحيادية جاد نمر الذي لا يميّز بين لون وعرق ودين. وعلى جبينه لم يكن سوى شرف تضحية ووفاء. فمن اخترق هذا الجبين برصاصتين؟ أسئلة كثيرة تنتظر أجوبة.

نوال نصر-نداء الوطن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!