العدالة الدولية في وجه العقوبات الأميركية على موظفي المحكمة الجنائية الدولية بقلم الرائد الدكتور رواد سليقه

          

صدى وادي التيم – من الصحافة اللبنانية

 

لم يكن ينقص مسيرة العدالة الدولية التي تعمل المحكمة الجنائية الدولية على إرسائها وتحقيقها سوى العقوبات الأميركية الأخيرة على كبار موظفيها.

ففي خطوة غير مسبوقة أصدرت ادارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب في 2 ايلول 2020 عقوبات على المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية القاضية “فاتو بنسودة” ورئيس قسم الاختصاص، والتكامل، والتعاون في مكتب الادعاء السيد فاكسيو موتشو تشوكو.

وقد أتى هذا القرار تفعيلاً للقرار التنفيذي السابق الصادر عن إدارة ترامب في 11/06/2020 والذي أعلن  فيه حالة طوارئ وطنية وأجاز تجميد الأصول وفرض حظر سفر عائلي ضدّ بعض مسؤولي المحكمة الجنائية الدولية.

  • خلفية هذا القرار

إنّ الادارة الاميركية التي قاطعت مسيرة العدالة الدولية بعدم توقيعها على بروتوكول روما عام 1998 الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية برعاية الأمم المتحدة و التي باشرت عملها منذ 1 تموز عام 2002 وإنضم إليها حتى تاريخه 123 دولة منها دولة فلسطين عام 2015 (أي حوالي ثلثي أعضاء الامم المتحدة) وتختص بالنظر بأشد الجرائم خطورة وهي جرائم الحرب والجرائم ضد الانسانية وجرائم الابادة الجماعية وجرائم العدوان التي ترتكب بعد سريان نظام المحكمة عام 2002 قد أتى قرارها نتيجة التحقيقات التي تقوم بها المدعية العامة للمحكمة الجنائية الدولية بعد المعطيات التي وردت اليها حول ارتكاب جرائم حرب في افغانستان وفلسطين من قبل أشخاص اميركيين واسرائليين.

وحجة الادارة الاميركية  أن المحكمة الجنائية الدولية غير مختصة بالنظر بأي انتهاكات للقانون الدولي ( أي ارتكاب جرائم حرب وغيرها) من قبل مواطنين أميركيين واسرائيليين كون أميركا واسرائيل غير موقعتان على بروتوكول روما المنشأ للمحكمة.

الّا أن المحكمة الدولية ترد بأنها تختص بالنظر في الجرائم الأشد خطورة المذكورة أعلاه التي ترتكب من مختلف الأشخاص على أرض الدول الموقعة على بروتوكول روما منها افغانستان وفلسطين.

  • كيفية احالة الجرائم على المحكمة الجنائية الدولية

إن المحكمة الجنائية الدولية تنظر في الجرائم الأشد خطورة المذكورة آنفأً في ثلاث حالات:

1- بناء على طلب دولة عضو في نظام المحكمة

2- بناء على إحالة مجلس الأمن الدولي قضية ما على المحكمة الجنائية الدولية

3- بناء على مباشرة المدعي العام للمحكمة التحقيق في معطيات تصل اليه حول ارتكاب أي من الجرائم المذكورة أعلاه اذا لم تجرِ السلطات الوطنية مكان ارتكاب أي من هذه الجرائم التحقيق بالموضوع أو لم تكن قادرة على النظر فيها.

ووفقاً لمنظمة هيومن رايتس واتش HRW أن الحكومة الأفغانية طلبت من المدعي العام لدى المحكمة الجنائية الدولية إرجاء تحقيقها مؤكدة على قدرتها القيام باجراءات وطنية ذات مصداقية لا سيما فيما خص كبار المسؤولين المدنيين والعسكريين الأميركيين الذين يمكن أن يتحملوا مسؤولية السماح بالتعذيب الموثق جيداً (من قبل هذه المنظمة) وغيرها من ضروب المعاملة السيئة للمحتجزين في سياق النزاع مع أفغانستان أو لعدم معاقبة مرتكبي هذه الانتهاكات امام محاكم الولايات المتحدة الأميركية.

  • تداعيات القرار

إن من شأن هذه العقوبات بعد إقرارها التأثير القوي على المستهدفين فيها حيث سيمنعون من الوصول إلى أصولهم في الولايات المتحدة الأميركية وسيمنعون أيضا من التعاملات التجارية والمالية مع الأشخاص الأميركيين بما في ذلك البنوك والشركات كما تؤثر العقوبات الأميركية سلباً على البنوك الغير أميركية وشركات أخرى خارج الولاية القضائية الأميركية والتي تخشى الوصول الى النظام المصرفي الأميركي اذا لم تساعد هذه الأطراف التجارية الولايات المتحدة في تصدير اجراءات العقوبات بفعالية.

وفقاً لهيومن رايتس واتش أيضا  إن الأمر التنفيذي الصادر عن رئيس ترامب في حزيران الماضي لم يصمم لترهيب مسؤولي المحكمة والموظفين المشاركين في تحقيقات المحكمة بل ايضا لتجميد التعاون الأوسع مع المحكمة الجنائية الدولية.

 

  • ردود الفعل على القرار الأميركي

قال ريتشارد ديكار مدير برنامج العدالة الدولية في هيومان رايتس واتش “إن الاستخدام الملتوي للعقوبات من قبل الرئيس ترامب وهي عقوبات مصممة  لتفرض على الارهابيين وكبار تجار المخدرات المزعومين وليس ضد المدعين العامين الساعين الى تحقيق العدالة على الجرائم الدولية الجسيمة وبالتالي هذا القرار هو بمثابة امعان في التقاعس الأميركي عن مقاضاة التعذيب. ويضيف ان إثارة حالة طوارئ وطنية من قبل الادارة الأميركية لمعاقبة المدعين العامين في قضايا جرائم الحرب تظهر تجاهلاً تاماً للضحايا

وردا على أمر الرئيس الأميركي دونالد ترامب أصدرت 67 دولة من الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية ومنهم حلفاء للولايات المتحدة بياناً مشتركاً يعبر عن دعمها الثابت للمحكمة الجنائية الدولية كمؤسسة قضائية مستقلة ومحايدة. وقد رافق ذلك تصريحات من الاتحاد الأوروبي ورئيس جمعية الدول الأطراف في المحكمة والمنظمات الغير حكومية في الولايات المتحدة الأميركية والعالم تعلن فيها  تأييدهم على دعمهم الكامل للمحكمة الجنائية الدولية.

  • العدالة المستقلة والكاملة

في عالم يسوده حكم الأقوياء على الضعفاء وتحكمه شريعة الغاب بين البشر دون أي حسيب أو رقيب جاءت المحكمة الجنائية الدولية لتكون الملاذ الأخير للعدالة الدولية ويلجأ اليها المستضعفون دولاً وأشخاصاً لتعويضهم عن الجرائم الدولية الخطيرة التي يرتكبها المجرمون سواء أكانت منظمات ارهابية كداعش والقاعدة والنصرة وغيرها أو أكانوا أشخاص عسكريين خرجوا عن قواعد القانون الدولي الانساني في التعامل في اوقات الحروب والنزاعات المسلحة مما يقتضي تدخل المحكمة الجنائية الدولية كسلطة قضائية دولية مستقلة لتضع حداً لذلك وتعاقب من خرج عن قواعد القانون الدولي الانساني ليكونون عبرة لمن تسول له نفسه ارتكاب مثل هذه الجرائم.

ومن وجهة نظرنا نؤكد ،

أولا:

بالنسبة للتحقيقات التي تجريها المحكمة الجنائية الدولية في أفغانستان هي محقة كون أفغانستان موقعة على بروتوكول روما ومنضمّة للمحكمة الدولية مما يمنح المحكمة سلطة النظر في الجرائم الخطيرة المرتكبة على أرضها من قبل أي شخص سواء كانت جنسية بلده موقعة أو غير موقعة على بروتوكول روما . كما أن الظروف الأمنية السائدة في أفغانستان واشتداد النزاع مع حركة طالبان تؤكدان عدم قدرة السلطات القضائية الأفغانية التحقيق في ارتكاب قواتها المسلحة أو العناصر الاميركية جرائم ضدّ الانسانية أو جرائم حرب أو حتى تورط عناصر طالبان أيضا في جرائم ضدّ الإنسانية تجاه العناصر الحكومية أو تجاه الأسرى من القوات الأميركية وغيرها.

ثانياً:

بالنسبة للتحقيقات التي تجريها المحكمة في فلسطين ، وتشمل انشاء مستوطنات في الضفة الغربية لأن القانون الدولي الانساني يحظّر نقل مدنيين الى الأراضي المحتلة وجرائم الحرب المرتكبة من قبل الجيش الاسرائيلي في الحرب على غزة عام 2014  هي في محلها القانوني كون دولة فلسطين انضمت الى بروتوكول روما عام 2015 وقد وقّعت الحكومة الفلسطينية وثيقة انضمامها الى المحكمة الجنائية الدولية لدى الأمانة العامة للامم المتحدة في 2 كانون الثاني 2015 ودخلت معاهدة المحكمة حيّز التنفيذ لدى فلسطين في 01/04/2015 ولاسيما مع عدم قدرة السلطات الفلسطينية على اتخاذ الاجراءات القضائية اللازمة نظراً للأمر الواقع ووجود الاحتلال الاسرائيلي لأراضيها مع العلم أن اسرائيل غير موقعة على بروتوكول روما وليست عضوا في المحكمة الجنائية الدولية.

في الخلاصة وبناءً على ما تم بحثه،

يجب على الدول الأعضاء في المحكمة الجنائية الدولية الوقوف صفّاً واحداً في وجه كافة التهديدات التي تعيق سير العدالة الدولية وتحصين المحكمة الجنائية الدولية والعمل على دعم كافة التحقيقات  التي يقوم بها المدعي العام لدى المحكمة في مواجهة الضغوط الأميركية المخزية والا ستفقد دورها وهيبتها كسلطة قضائية دولية محايدة أنشأت من قبل المجتمع الدولي بعد مسيرة طويلة من المعاناة بسبب ارتكاب جرائم جسيمة وضد الانسانية  لاسيما التي وقعت في منتصف التسعينات في راوندا ويوغوسلافيا السابقة، وقد أظهرت المحكمة للعالم صوابيّة انشائها بعد المباشرة في النظر في العديد من الجرائم الجسيمة التي ارتكبت في القارة الأفريقية لا سيما في اقليم دارفور واصدار مذكرة توقيف بحق الرئيس السوداني السابق عمر البشير الذي يخضع للمحاكمة حاليا أمام القضاء السوداني وما يؤكد على دورها القوي تسلمت المحكمة الجنائية الدولية في 09/06/2020 زعيم ميليشيا الجنجويد “علي كوشيب” ذو السمعة السيئة والمتهم باغتصاب ومهاجمة وقتل المدنيين في إقليم دارفور عام 2006  ”

 

في الختام

  “نعم لعدالة دولية محايدة وغير مسيّسة ولا تخضع لأهواء وسياسات الدول الكبيرة على حساب الدول الضعيفة والفقيرة”

بيروت في 7/9/2020

الرائد الدكتور رواد سليقه

“استاذ مادة الارهاب والعدالة الدولية في الجامعة الاسلامية

المصدر : مجلة الامن العام – العدد 85

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!