هل يُمكن للبشر الاستغناء عن الدّين؟
وهذه نقطة جوهريّة كانت محلّ فهم عميق حتّى من قبل أعتى الكتّاب الاختزاليّين على غرار فرويد، حين قام، بدلاً من وصف الدين بأنّه “عُصاب كوني”، أي باعتباره اضطراباً فرديّاً مضخّماً إلى مستوى البشريّة، بتعريف العُصاب الوسواسي بأنّه “دين مشوّه”. الدين كما بيّنه مؤسّسو الإناسة، ولخّصه عالم الاجتماع اميل دوركهايم، “نظام ممنوعات وطقوس جماعيّة، تستدعي فصلاً حادّاً بين الشؤون الدنيويّة والشؤون المقدّسة”. وفي القرن التاسع عشر اتّفق الفلاسفة والمؤرّخون وروّاد علم الإناسة أو مؤسّسوهما على إعادة الاعتبار للديني، “إن لم يكن عمليّاً، فعلى الأقلّ موضوعًا يستحقّ التفكير وليس شيئًا يجب مُحاربته وتصنيفه في خانة الخرافات. فغدا الدين حتّى عند من يعتبره وهماً، وهماً طبيعيّاً ومستداماً، وليس مجرّد ظاهرة عارضة لا واقع موضوعي لها”.
ويسأل لُوسيان سكوبلا من أين جاء هذا التغيير في المنظور، وإذا جاز التعبير، هذه البصيرة المشتركة، التي أعقبت العمى العامّ لعصر الأنوار؟ ويجيب: “لا شكّ في أنّه من الثورة نفسها، حين خذلت بعض المفاهيم المختزلة للعلاقات الاجتماعيّة وكشفت عن تمفصل غير متوقّع بين السياسي والديني”. وكما سيقول المنظّر ألكسيس دو توكفيل، لاحقاً، فقد قامت تلك الثورة السياسيّة على طريقة الثورات الدينيّة، ويمكننا أن نضيف، ومتبنيّة الأشكال الأصليّة للقرابين في كلّ دين…
وسواء قاموا بتفسير تاريخ البشريّة بمصطلحات “التقدّم” مثلما فعل هيغل وماركس أو كومت، أو بمصطلحات “الانحطاط” مثلما فعل نيتشه، فإنّ فلاسفة القرن التاسع عشر يعترفون، طوعاً أو كرهاً، بـ”المكانة البارزة للظّواهر الدينيّة”. فماركس نفسه لم يكن أقلّ قسوة على الماديّة المبتذلة منه على المثاليّة الهيغليّة. ومن خلال قلب الجدليّة كي تقف على قدميها، ارتفع ماركس بالدّين إلى مستوى “البنية الفوقيّة، لكنّه اعترف له مع ذلك بوظيفة خاصّة”. أمّا نيتشه، فهو “لا يحلّل الديني بمصطلحات درجة الوعي، بل بمصطلحات علاقات القوّة، وتبدو له المسيحيّة مبشّرة بالمساواة أكثر منها بالحرّية”. لقد رأى نيتشه بوضوح “أنّ العالم الحديث قد شكّلته المسيحيّة، وأنّه عصيّ على الفهم من دون القيم المسيحيّة التي تُشكّل الأُسس التي يقوم عليها، حتّى ولو كان الخاضعون لها يتظاهرون بتجاهلها أو إنكارها”. وكما سيقول أيضاً جلبير تشيسترتون إنّ “كلّ شيء في العالم الحديث هو من أصل مسيحي، كلّ شيء، حتى ما يبدو الأكثر معاداة للمسيحيّة.(…) ويمكننا القول حقّاً بأنّه من أصل وثني، وهو المسيحيّة”.
إنّ هذه الحُدُوس القويّة، معروضة بشكل أوسع عند أكبر الكتّاب الكلاسيكيّين. فهذا توكفيل يُلاحظ أنّ الكنيسة من خلال أسلوبها في التوظيف، ساهمت بشكل حاسم في إقامة مجتمع المساواة. يتعامل توكفيل مع الدين كخير حيوي للمجتمع وللمواطن كإنسان، وليس مشكلة سياسية يجب حلها أو احتواؤها. وفي الواقع تبدو بعض الفلسفات نوعاً من “أديان جديدة”. فحين كتب الاقتصادي جوزيف شومبيتر، عن ماركس، عنون فصله الأول “ماركس النبي”، ولم يكن لـ”ماركس عالم الاجتماع” و”ماركس عالم الاقتصاد” الحقّ في الظهور إلاّ في الفصول التالية. ذلك أنّه قبل أن تكون نظريّة علميّة، فإنّ “الماركسيّة دين”. فالشيوعيّة، بحسب لُوسيان سكوبلا، تجمع بالفعل بين الآمال الدنيويّة للخلاص اليهودي، ولاهوت الخلاص المسيحي. فهي تُنصّب البروليتاريا، كما يُقال، مسيحاً للعالم الحديث، بل إنّ النصوص التي يقوم فيها ماركس بتحليل علمي للدّين “لا تخلو من نبرة دينيّة، من حيث أنّها تُعطي الإنسان الأمل في تحقيق الاكتفاء الذاتي الإلهي بأن يُصبح شمس ذاته، ولم يدرك ماركس أنّه يؤسّس ديناً جديداً، وقد نجح في ذلك بقدر ما اكتفى بإلباس ثياب جديدة لمضمون ديني تقليدي”. (استطراداً، في أبسط الأمور كثر من اليساريين كانوا ينظرون الى غيفارا في غابات بوليفيا كقديس، ويقارنون بين صورته ميتاً او قتيلاً مع صورة المسيح نازلاً عن الصليب، حتى فريدريك إنجلز نفسه وصف كتاب “رأس المال” مجازاً بأنه “إنجيل الطبقة العاملة”)…
ونيتشه لم يباشر نسابة الظاهرة الدينيّة فحسب، بل قدّم نفسه على أنّه “نبيّ دين الإنسان الخارق الذي يمثّل هكذا تكلّم زرادشت، وقد كُتب بأسلوب آيات الكتاب المقدّس، الكتاب المقدّس الجديد”. أمّا فرويد، فقد كان يعتقد أنّه قدّم اكتشافاً يُماثل اكتشافات كوبرنيكوس وداروين، وأنّه اخترع علاجاً قادراً على “تخليص البشر من الوهم الديني وعلاجاته الوهميّة”. “لقد أعطى التحليل النفسي أملاً جديداً في الخلاص، يُواسي البشر في مآسيهم الفرديّة، مثلما تُواسيهم الماركسيّة في شرورهم الجماعيّة”، كما يقول عالم الاجتماع ارنست غلنر.
لم يحتج رُوّاد الإناسة، وهم أكثر استبصاراً من الفلاسفة، إلى خلق أشكال جديدة من الدين لإبراز القيمة الاجتماعيّة للظواهر الدينيّة. يقتبس سكوبلا مقطعاً لدوركهايم يقول فيه: “يتضمّن الدين في داخله منذ البداية، لكن في حالة غائمة، جميع العناصر التي ولّدت من خلال انفصالها وتحدّدها وتآلفها بعضها مع بعض، بألف طريقة وطريقة، مختلف مظاهر الحياة الجماعيّة. فمن الخرافات والأساطير خرج العلم والشعر، ومن الزخرفة الدينيّة والطقوس التعبديّة جاءت الفنون التشكيليّة، ووُلد القانون والأخلاق من الممارسات الطقوسيّة. ولا يمكننا أن نفهم تمثّلنا للعالم، وتصوّراتنا الفلسفيّة حول الروح والخلود والحياة، إذا لم نعرف المعتقدات الدينيّة التي كانت أنموذجها الأوّل. لقد بدأت الأبوّة باعتبارها رابطة دينيّة في أساسها، والعقاب، والعقود، والهبة، والولاء، هي تحوّلات للأضحية التكفيريّة، والتعاقديّة، والتشاركيّة، والشرفيّة، إلخ. وأقصى ما يمكن أن نسأل بشأنه هو ما إذا كان التنظيم الاقتصادي استثناءً ومستمدّاً من مصدر آخر؛ وعلى الرغم من أننّا لا نظنّ هذا، فإنّنا نُوافق على أنّ المسألة تستحقّ بعض التحفّظ”. ويطرح السؤال الآتي: “بما أنّ الدين كان رحم الرابطة الاجتماعيّة، فهل يكون أيضاً العمود الفقري لأيّ مجتمع مستدام؟ وينتقل من نقد رؤية فلاسفة الأنوار للدين بوصفه دجلاً ووهماً سيموت بفعل تقدّم العقل، إلى نقد الرؤية الماركسيّة التي ترى أنّه وسيلة هيمنة طبقيّة”، ليقوم بعدها بتحليل القسر الديني بوصفه نتاج عمليّة تشكّل وانتظام للمجتمعات البشريّة، منفصلة إلى حدّ كبير عن الأفراد الفاعلين فيها. وهي رؤية دوركهايم التي ينتصر لها لُوسيان سكوبلا في مقاله أو كراسه، ويُبيّن مدى رجاحتها. ويخلص سكوبلا إلى أنّ الديني قد يدخل في أزمة، لكنّها أيضاً أزمة المجتمع الذي يضمن الديني تماسكه، وهذا القانون له من القسريّة ما لجميع القوانين الأخرى للطّبيعة، ولكونه مستقلاًّ عن جميع الإرادات، فهو أكبر مبرّر للموقف الديني وأكبر ضامن لاستمراره.
ثمة جوانب عديدة كان يمكن التطرق اليها في موضوع الأديان وتشعباتها، خصوصاً في زمن السينما والاستهلاك واقتصاد الشركات وعالم الماك. أقرب نموذج حين كتب ادغار موران عن نجوم السينما، بدوا لنا من خلال مقاربته كأنهم “أنبياء العصور الجديدة”، اذ لم يعد نجوم السينما في نظر موران، مجرد أشخاص عاديين، بل أنصاف آلهة (من جيمس دين إلى مارلين مونرو)، مخلوقات تدفعنا إلى الحلم عن طريق الاستعراض السينمائي كأساطير حديثة.
وعلى الهامش، حين كتب التونسي فتحي المسكيني مقدمة كتاب “الدين في حدود مجرد العقل” لإيمانويل كانط، قال إنّ أصل حاجة البشر إلى الدّين لا يكمن في أيّ نوع من العبوديّة، بل في قدرتهم الرّائعة على الحريّة، وبالتّحديد حريّة المصير، حريّة اقتراح غاية نهاية لوجودهم على الأرض، تليق بعقولهم، ويسأل: لكن لماذا يحتاج البشر إلى هذا النّوع من الاحترام الأعظم؟ ويجيب نقلاً عن كانط – لأنّ “كلّ شيء، حتّى أكثر الأشياء جلالة، إنّما يصغر بين أيدي بني الإنسان، متى ما أخذوا يطبّقون فكرته في استعمالاتهم” العادية. ينبغي إذن أن يكون ثمّة شيء على الإنسان أن “يقدّسه” حتى لا يتحوّل وجوده اليومي إلى آلية كسولة بلا هدف… والله أعلم.
المصدر : المدن – (*) ترجمةمحمّدالحاجسالم، ونشر في موقع مؤمنون بلا حدود، وموقع أكاديميا.