التحرش والاغتصاب ومسألة اللباس
كتب الصحافي معتز الخطيب في الجزيرة عن وجهة نظره عن العنف أو الاعتداء الجنسيّ بأنه موضوعٌ شديد الحساسيّة والتعقيد، بدءًا من تحديد المفهوم ومشمولاته وأشكاله، مرورًا بتشخيص أسبابه وكيفيّة تحليله، وصولاً إلى الإجراءات اللازمة لمعالجته اجتماعيًّا وأخلاقيًّا وقانونيًّا ونفسيًّا، ويكاد ينصرف الجدل الدائر حاليًّا حول التحرّش الجنسيّ إلى التركيز فقط على أسبابه والطرف أو الأطراف التي تستحقّ اللوم عليه. يعالج هذا المقال تعقيدات الاعتداء الجنسيّ والمداخل المتعدّدة لفهمه، ثم يفكّك الربط بين التحرّش واللباس من الناحية الأخلاقيّة، ويوضّح أنّ هذه الظاهرة ليست حديثة، وكيف كانت المعالجة الفقهيّة لها.
وإذا كان ثمّة من يربط بين لباس المرأة ووقوع التحرّش، ويكاد يجعل منه ظاهرة تَسِم مجتمعات الكشف خاصة، فإنّ في المقابل ثمّة من يرى في التحرش انعكاسًا للكبت الجنسيّ، وكأنه ظاهرة شرقيّة أو تخصّ المجتمعات المسلمة، وقد يقفز ثالث إلى القول: إنَّ هذه الظاهرة حديثة، وحداثتها ستقودُنا إلى مسارين أو تصوّرين متغايرين: يتبنّى أولهما سرديّة محافظة تَردُّ الإشكال إلى نمط الحياة الحديثة كالاختلاط، خروج المرأة إلى العمل، تقنيات اللباس، السينما، الإعلام، صناعة الجنس، تسليع المرأة…، في حين ينطلق ثانيهما من منجزات الحركة النسويّة وحقوق المرأة في السيطرة على جسدها واستقلاليّتها، ومن ثمّ يتفرّع عن هذا: السؤالُ عمّا إذا كان الفقه الإسلاميّ قد عرف مثل هذه المفاهيم الغربيّة الحديثة حول العنف الجنسيّ والاغتصاب، وكأنّ فكرة حماية المرأة من الاعتداء الجنسيّ من منجزات الحركة النسويّة الحديثة.
لكنّ المتتبّع للكتابات الإنجليزيّة حول العنف الجنسي (Sexual Violence) يجد كتبًا موسّعة ومتنوّعة عن هذا الموضوع بل إنّ بعض دور النشر الأجنبيّة قد أصدرت دليلًا متخصّصًا (Handbook)، كالدليل الذي أصدرته (راوتليدج) وحرّره كلٌّ من جنيفر براون وساندرا وولكليت. يضع هذا الكتاب العنف الجنسيّ ضمن سياق واسع يشمل الحرب والنزاع بين الأشخاص، ويغطّي مظاهر متعدِّدة للعنف الجنسيّ، تشمل التحرّش الجنسيّ والتسلُّط والاغتصاب والقتل بالإضافة إلى العنف المنزلي والضغط من أجل ممارسة الجنس.
وإذا كان مجمل النقاش الدائر اليوم يكاد يختزِل التحرّشَ في الصلة المُفتَرَضة بين اللباس والتحرّش، فإنّ التحدي الرئيس الذي تطرحه مقدّمة هذا الكتاب هو البحث عن إطار تحليلي شامل لفهم تعقيدات موضوع العنف الجنسي ليس لأنّ الظاهرة معقّدة فقط، بل أيضًا لأنّ أيّ تغيير على صعيد الممارسة والسياسات والتشريعات يتطلب فهمًا عميقًا للظاهرة، بما في ذلك فهم الآليات الاجتماعيّة والنفسيّة التي تدعم العنف الجنسيّ لدى الأفراد.
في النصِّ القرآني نجد إحالة إلى ظاهرة التحرّش في قوله تعالى: “فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا”. والمرض هنا “تَشَوُّفُ الفجور، وهو الفِسْقُ والغَزَلُ”
هناك قائمة طويلة من الأعمال البحثيّة التي تتناول العنف الجنسي من زوايا نظر مختلفة: تاريخيّة وأدبيّة وثقافيّة وقانونيّة، أذكر على سبيل المثال العناوين الآتية التي اطّلعت عليها: “العنف الجنسي في العالمين اليوناني والروماني” لكارين إف. بيرس، و”العنف الجنسي ضد النساء اليهوديات خلال المحرقة” لراشيل سيدل وسونيا هيدجيبث، و”أدب الحرية الجنسية والعنف الجنسي منذ الستينيات” لباميلا بارنيت، و”المرأة والحرب والعنف الجنسي” لسابين هيرشاور، و”سياسة العنف الجنسي: الاغتصاب والهوية والنسوية” لأليسون هيليكون، و”بلاغة العنف الجنسي في الأدب والثقافة الأمريكية بين 1790-1990″ لسابين سيلكه وتدرس فيه كيف تتحدّث الثقافة الأمريكيّة عن العنف الجنسيّ، وتشرح لماذا صار موضوع الاغتصاب مهمًّا في القرن العشرين.
تُوْقِفنا هذه الكتابات وغيرها على حجم المفارقة بين النقاش الدائر اليوم الذي يكاد يختزِل المشكلة في ثنائيّة التحرّش واللباس أو في التلازم بينهما، وبين الانشغالات البحثيّة التي تحاول فهم موضوع معقّد كهذا بطريقة علميّة. فالاعتداءات الجنسيّة المتنوعة لا يمكن فهمها -بعمق- إلا باستخدام مداخل مختلفة، بعضها اجتماعيّ يتَّصل بالمكانة والدور الذي يشغله الجنس في المجتمع، وبعضها نفسيّ يتَّصل بتحديد الأشكال المختلفة للسلوك العنيف جنسيًّا. ومن اللافت في “دليل العنف الجنسي” الذي أصدرته راوتليدج، أنّه خصّص فصلًا لبحث العنف من منظورٍ نفسيٍّ عياديّ تمّ فيه الجمع بين الضحية والمُعتدي في مكان واحد، لمحاولة فهم أسباب العنف وعواقبه، وهو ما يُظهِر حجم الارتجال أو السطحيّة في ثنائيّة اللباس والتحرّش لدينا.
ربما يقفز بعضهم ويبني على الأعمال السابقة أنّ العنف الجنسيّ إجمالًا ظاهرة غربيّة حديثة لكن يبدِّد هذا الوهم أنّ المسألة مرتبطة بالجنس نفسه وبالوظائف التي يؤدِّيها اجتماعيًّا وسياسيًّا وثقافيًّا، وفي النصِّ القرآني نجد إحالة إلى ظاهرة التحرّش في قوله تعالى: “فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا”. والمرض هنا “تَشَوُّفُ الفجور، وهو الفِسْقُ والغَزَلُ”، وهو تفسيرٌ مرويٌّ عن عِكْرِمة مولى ابن عباس (ت 105 للهجرة)، وقد ردّ أبو عبد الله القرطبي (ت 671 للهجرة) قول من قال: إنّ المرض هنا هو النفاق، وقال عن تفسير عكرمة: “وهذا أَصْوَب”. ومن طريف ما يذكره الإمام فخر الدين الرازي (ت 606 للهجرة) في سياق ورود الأمر القرآنيّ للنساء بإدناء الجلابيب أنّه “كان في الجاهلية تخرج الحرة والأَمَة مكشوفاتٍ يتبعهن الزناة وتقع التهم”.
وإذا كنا نستشهد بهذا لإثبات قِدَم الظاهرة، وأنّها كانت موجودة في المجتمع النبوي بغضِّ النظر عن حجم انتشارها، فإنّ ذلك لا يعني وجود صلةٍ بين الأمر بارتداء الجلباب وبين التحرّش بالنساء لأنّ التعليل القرآني للبس الجلباب هو “ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعرْفَنَ فَلَا يُؤْذَيْن”، وهو خطابٌ موجه إلى الحرائر حتى لا يختلطن بالإماء في ذلك الزمن؛ أي: إنه جاء خطابًا لصيانة رتبة الحرية (المقابلة لرتبة الرّقّ) ما يعني أنّ الشهوة نفسها لم تكن موضوع التَّجَلْبُب ولا سببًا له، بل كان الهدف صيانةَ الرتبة الاجتماعية، فالمعرفة هنا (أدنى أن يُعرفنَ) هي معرفة بالصفة لا بالشخص (وهي أن يُعرف أنّ المرأة حرة لا أمَة)، وإلّا فالشهوة والطمع ممّن في قلبه مرض يوجد في الإماء كما يوجد في الحرائر، إذا كان محرّكه الشهوة والرغبة. ففكرة التمييز بين الإماء والحرائر في ذلك المجتمع قائمة على عرف اجتماعيّ قديم يقيم للحرائر وزنًا وحُرمة، والفسَّاق يعرفون أنّ التعرض للحرائر له عواقب ومسؤوليات تردعهم عن التعرض لهنّ، وليس معنى ذلك أنّ تعرّض الفسّاق للإماء جائز، بل هو حرام؛ لأنّ القرآن يصف هؤلاء المتحرشين أنفسهم بأنّ في قلوبهم مرضًا.
ومن اللافت أنّ الشيخ محمد الأمين الشنقيطي (ت 1974) رحمه الله- قرّر في تفسيره أن لا تلازم بين الجلباب ودفع ضرر التحرش من حيث المبدأ، ولذلك تمّ التفريق بين الإماء والحرائر فقال: “ودفع ضرر الفسّاق عن الإماء لازمٌ، وله أسباب أخرُ ليس منها إدناء الجلابيب”. وإذا كان الجلباب تاريخيًّا يدفع الأذى عن الحرائر لأسباب ترجع إلى العرف الاجتماعيّ حينها، فإنّ واقعنا يُثبت أنّ الجلباب لم يعد يدفع أذى المتحرشين عن الحرائر أيضًا؛ لأنّنا أمام ظاهرة مركّبة.
تعكس التفسيرات المختلفة للاعتداء الجنسيّ تصوراتٍ كبرى تمسّ موضوع المرأة ككلّ وتصوّراتنا حولها، وهذا هو الموضوع المركزيّ الذي يتمّ الصراع عليه من خلال التحرّش وغيره، فالتحرّش أحد تفاصيل المشهد، وليس هو المشهد. فالجنس وعلاقاته تختزن معاني عديدة وتتمظهر فيه أمراض وعلل متنوعة، فهو وسيلة لعناوين تبدأ بالمتعة ولا تقف عندها، إذ يعكس -أيضًا- علاقات القوة وصراع الأفكار والتوجهات، والاستبداد السياسيّ يرافقه استبداد دينيّ واجتماعيّ؛ لأنّ منظومة الاستبداد تستقي من منظومة قيم واحدة.
وهذا الربط بين اللباس وبين التحرّش له سلفٌ قديمٌ؛ نجده لدى اللغويّ والمفسِّر أبي حيّان الأندلسي الذي عاش معظم حياته في القاهرة (ت 745 للهجرة) هربًا من اضطهاد السلطان الأندلسيّ، إذ يقول أبو حيان: “ذلك أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ: لِتَسَتُّرِهِنَّ بالعِفَّة، فلا يُتَعَرَّضُ لهن، ولا يُلْقَيْنَ بما يَكْرَهْنَ؛ لأن المرأة إذا كانت في غاية التَّسَتُّرِ والانضمام، لم يُقْدَمْ عليها؛ بخلاف المُتَبَرِّجة؛ فإنها مَطْمُوعٌ فيها”. وإذا كانت الأعراف الاجتماعيّة التي تفصلنا عن أبي حيّان قد انقلبت وتغيّرت، فإنّ شهاب الدين الآلوسي (ت 1854) القريب من زمننا التقط أساس الفكرة، فعقّب على أبي حيان قائلاً: “هو تفسيرٌ مبنيٌّ على رأيه في النساء”؛ أي: إنّ الآلوسي أدرك أنّ أصل النقاش هو الموقف من المرأة لا من اللباس والتحرّش فقط.
فالمرأة وما يتّصل بها بات اليوم ميدانًا يصطرع الجميع على من يحكمُه ويتحكّم فيه تحت لافتات عديدة: سلفيّة ونسويّة وتنويريّة وإصلاحيّة أي: إنّه يعكس علاقات القوة وفرض السيطرة، وهنا قد يعني خطاب (الحجاب والتحرش) استثمار تهديد اجتماعي قائم لفرض تحيّزات وقناعات معيّنة على المجال العامّ تحت طائلة التهديد أي: إنَّ المقدرة الإقناعيّة تتراجع لصالح القوة والسلطة القائمة على التهديد والتخويف، وهي التقنيات نفسها التي تستخدمها السلطة السياسيّة لتطويع الجميع وقهرهم أي: إنّ كلّ طرف في هذا المشهد يسعى للتحكم بما يستطيع على طريقته الخاصّة، في مسلسل قائم على القمع والترهيب وانعدام الأمن النفسيّ بكلّ معانيه، حيث يتحوّل المجال العامّ إلى ساحة مستباحة.
وبعيدًا عن علاقات السلطة والصراع، لا يقوم هذا الربط بين التحرّش واللباس على أيِّ أساسٍ علميّ أو منطقيّ أو فقهيّ، فهذا الربط يتصوّر أنّ المسألة برمّتها قائمة على فكرة “النظر” و”الإثارة”، ثمّ ينتهي كلّ شيء بمجرد حجب الرؤية، فهو لا يتصوّر تعقيدات الاعتداء الجنسيّ بدرجاته المختلفة (ما بين اللفظ والنظر والفعل)، فعلى مستوى الفرد هو فكرة وخيال ودوافع متنوّعة (شخصيّ واجتماعيّ ونفسيّ وسلطويّ…).
إنّ الربط الآليّ بين النظر والإثارة من جهة، والتحرّش من جهة أخرى يُحوّل المُتحرِّش إلى حيوان تحركه غريزته لأنَّه يغدو كما لو كان غير قادر على التحكّم بنفسه، ومن ثمَّ فإنّ اللوم يقع على من يمر أمامه، ثمَّ إنّه لا يمكن تبرير فعل شخص بفعل شخص آخر لمجرد تصادفهما في الزمان لأنّ لكلِّ فعل مساره وتقويمه الخاصّ في حالة عدم وجود رابط منطقيّ بين الفعلين، والرابط هنا يجب أن يكون على سبيل التواصل المباشر الذي يتحقّق فيه التراضي بين طرفين: مرسل ومستقبل.
ففي حالة الربط بين اللباس والتحرش ننسِب للمُتَحَرَّش بها فعلاً وتواصلاً مُشَفَّرًا (ضمنيًّا) يتسبَّب في فعل المُتحرِّش الذي يكون استجابة لذلك الفعل الضمنيّ المفتَرَض أي: إنّنا نجعل من مجرد خروج المرأة من بيتها فعل تواصل جنسيِّ ونجعل من فعل المتحرش انفعالاً! هكذا يتواطأ من يربط بين اللباس والتحرّش مع المتحرِّش نفسه من عدة أوجه: في افتراض وجود هذه الرسالة الضمنيّة من المرأة أوَّلًا، وفي تبرير فعل المتحرش بأنّه مجرد انفعال ناتج عن فعل المرأة ثانيًا، وفي تحميل المُعتدَى عليها اللوم النفسيّ الذي سيضاعِف من ألمها (ألم اللوم وألم الاعتداء) ثالثًا. وسيقود هذا إلى الخوف من البوح وعدم فضح المتحرِّش ممّا يعني سيادة القهر والظلم في المجتمع وفرض إرادة أهل اللباس المحتشم، وأهل التحرش على باقي الفئات، رغم أنّ التنوع في اللباس مسألة ثقافيّة قديمة في مجتمعاتنا وتاريخنا كله نظرًا لتنوع عقائد وأديان أهل هذه المنطقة.
كان يمكن تَفَهُّم مثل هذا الربط بين الفعل والانفعال فيما لو كانا ينتميان إلى سياقٍ تواصليّ واحد (وهذا معنى التفاعل ويجب أن يكون من طرفين)، أمّا أن يتمّ هذا الربط بين عابر سبيل وقاطع طريق أو عابر سبيل آخر من دون أن يكون هناك أيُّ فعل تواصليِّ (مباشر أو غير مباشر) فهذا لا يستقيم إطلاقًا، ويجعل مثل هذا الربط اعتباطيًّا وتبريرًا محضًا لمثل هذه الاعتداءات الجنسيّة.
إنّ الربط بين اللباس والتحرّش لا يعكس فقط خللًا في فهم تعقيدات الظاهرة وفي التقويم الأخلاقي لها؛ بل يعكس أيضًا حجم السطحيّة في التعاطي معها، إذ إنّ اللباس لن يحل الإشكال أصلًا، وثمَّة مخاوف من أن يتّخذ التحرّش الجنسيّ أشكالًا أخطر من الألفاظ واللمس، وأن ننتقل إلى شيوع الاغتصاب -وهو واقع فعلًا- وإن لم يتحوّل إلى ظاهرة.
أجمع العلماء على أنّ على المستكرِه المغتصِب الحدَّ إن شهدت البيِّنة عليه بما يوجب الحدَّ، أو أقر بذلك. فإن لم يكن: فعليه العقوبةُ، ولا عقوبةَ عليها إذا صحّ أنّه استكرهها وغلبها على نفسها.
وبالعودة إلى السؤال المشار إليه في مقدّمة هذا المقال عمّا إذا كان الفقه الإسلاميّ الكلاسيكيّ قد عالج مسائل العنف الجنسيّ والاغتصاب، فالإجابة هي نعم، ورغم أنّ الموسوعة الفقهيّة الكويتيّة لم تخصِّص مادة للاغتصاب، فإنّ الفقهاء وخاصة المالكيّة-قد تحدّثوا عنه بلفظه، أمّا فقهاء الحنفيّة، فيتحدّثون عن اغتصاب الأموال أصالة، لكنّهم يعدون منه أشكال الاغتصاب الأخرى ومنها اغتصاب الأعراض على المعنى المجازيّ.
تحدث الإمام مالك (ت 179 للهجرة) عن مسألة غَصب العبد من الحرّة أو الأمَة أَنْفُسَهُنَّ، وأفرد أبو بكر ابن عاصم القيسيّ الغرناطيّ (ت 829 للهجرة) فصلًا خاصًّا بعنوان “الاغتصاب” في منظومته التي سماها “تحفة الحكَّام في نكت العقود والأحكام”. وتحدث فقهاء آخرون عن عموم الإكراه على الجنس (حتى في إطار الزوجيّة) كما لو أكره زوجته الصائمة على الممارسة، وبحثوا فيما يترتّب على ذلك (كالقضاء والكفارة والإثم وعدمه)؛ لكنّ ابن عبد البر (ت 461 للهجرة) لخّص لنا الموقف من الاغتصاب قائلا: “وقد أجمع العلماء على أنّ على المستكرِه المغتصِب الحدَّ إن شهدت البيِّنة عليه بما يوجب الحدَّ، أو أقر بذلك. فإن لم يكن: فعليه العقوبةُ، ولا عقوبةَ عليها؛ إذا صحّ أنّه استكرهها وغلبها على نفسها”، وهو هنا يأخذنا إلى مناقشة درجات الاعتداء على المرأة (الفعل الجنسيّ الكامل أو ما هو دونه)، وكذلك الإجراءات الخاصّة بالقضاء وكيفيّة إثبات الاغتصاب أو ما هو دونه، ومن الواضح أنّ العقوبة تجب على المعتدي بحسب جرمه، فإن اغتصب فعليه الحدّ، وإن تحرّش فقط فعليه العقوبة التقديريّة (التعزير)، ويختلف الفقهاء في الحدّ الأقصى الذي يمكن للتعزير أن يصله، وقد أجاز بعضهم للتعزير -من حيث الأصل- أن يصل إلى القتل.
أمّا الإمام أبو بكر ابن العربي القاضي المالكيّ (ت 543 للهجرة)، فينقلنا إلى مستوى آخر وأشد من أشكال الاعتداء، وهو أنّ الاغتصاب إن وقع باستعمال القوة والمجاهرة (كالخطف واستعمال السلاح) دخلَ في حد الحِرَابة، وقال: “الحرابة في الفروج أفحش منها في الأموال”، وحدّ الحِرابة معروفٌ بشدّته وقسوته.
فالنقاش الفقهيّ حول الاعتداء الجنسيّ يدور على مسألتين مركزيّتين: أولاهما: حقوق الله وحقوق العباد، ففي حالة الزنا بالتراضي بين الطرفين تقع المسألة في دائرة انتهاك حقوق الله تعالى، وفي حالة الاغتصاب تنتقل المسألة إلى دائرتين: حق الله تعالى وحق الآدميّ الذي وقع عليه الاعتداء، فلا يُسقِط أحد الحقّين الحقّ الآخر، ثمّ خاض الفقهاء في العقوبة الزائدة عن حدّ الزنا في الاغتصاب لأنّ حدّ الزنا واقعٌ لحقّ الله، فيكون النقاش دائرا حول حقّ المغتَصَبة أو المغتَصَب، وهل هناك عقوبة تعزيزيّة جسديّة أو ماليّة؟ والمسألة الثانية: تختصّ بالتحقق من فعل الإكراه نفسه والإجراءات اللازمة للتثبّت من ذلك من الناحية القضائيّة، والله أعلم.