«سفراء بعلبك» على قارعة الذاكرة
احتضنت قلعة بعلبك ومحيطها الكثير من البعلبكيين، حتى أضحت لهم مرفأً اقتصادياً لا مثيل له. كان ذلك قبل الحرب الأهلية، عقود وسنوات كان خلالها «سفراء» المدينة بوجوههم البشوشة أول ما يستقبل الزائر. في الفترة الأخيرة خيّمت سحابة سوداء في سماء بعلبك، ذهب السيّاح والزوار إلى مكان آخر. لكن ذاكرة السفراء لم تفرغ من الصور والحكايا
من هم «سفراء بعلبك»؟ إنهم أصحاب مهن متنوّعة ترتبط كلها بالترويج للسياحة حول القلعة، منهم من توظّف في القلعة ومنهم من أبحر في محيطها بمهن حرة مختلفة كبائع التحف والسبحات والكتب السياحية والتاريخية، وبائع الزهور المتجوّل، والجَمّال، وأصحاب عربات الخيل، والنحّات …. اقتبسوا اللغات من السيّاح واكتسبوها من المحادثات والاحتكاك بهم، حتى غدوا خبراء في الأشكال وجنسيات الزوّار، وصارت لهم لغة خاصة، مطعّمة بمفردات وتركيبات لغوية مما حفظوه من السيّاح الأجانب.
رحل الكثير منهم، ومن بقي آثر البقاء ليس بعيداً عن القلعة رافضاً أن يعلن موت السياحة في المدينة… من بقي لا يوافق على خواء القلعة من روادها.
«البساطة واللياقة هما العنوان الرئيس للتعاطي مع السائح» هكذا يستهلّ علي العوطة (63 عاماً) حديثه، هو الموظف الرسمي على مكتب دخول القلعة يقول: «كنا سبعة موظفين بمثابة سفراء للبنان في القلعة وما بقي أحد غيري من الرعيل القديم».
قضى العوطة 45 عاماً على باب هياكل بعلبك يستقبل سائحاً ويودّع آخر من كل شرائح المجتمع: رؤساء ووزراء وملوك وأبناء الشرائح الاجتماعية المختلفة، يتحدث الإنكليزية والفرنسية بطلاقة. يصف التغيير الذي طرأ على نوعية العمل كالآتي: «منذ 35 عاماً بدأت نوعية العمل تتغير، فالإدارات كانت صارمة، رحل الموظفون أصحاب الابتسامة وذوو الخبرة، وقد كانوا بمثابة سفراء، كل شيء تبدّل …».
يتذكّر العوطة الزيارة الشهيرة التي قام بها الرئيس كميل شمعون إلى بعلبك، كان ذلك في الخمسينيات من القرن الماضي، انهمك الموظفون والموجودون قرب القلعة باستقباله ولم ينتبه أحد إلى أنه قد يطلب شرحاً عن الآثار ، لكنّ العوطة استدرك الأمر و«أنقذ الموقف»، ويروي «يومذاك كان الرئيس مسروراً جداً، وبعدما أنهيت الشروح له ولضيوفه عانقني وأعطاني بطاقة، وطلب مني أن أتصل بالقصر الجمهوري إذا ما كنت في حاجة إلى أي شيء». عمل العوطة بأمانة، فكان كثيرون من الزوار يتركون أمتعتهم من كاميرات ثمينة وحقائب وأحياناً مجوهرات تسقط منهم سهواً، حرص عليها جميعها ووضعها في صندوق للأمانات مما دفع بإحدى السائحات البورجوازيات من الجنسية الإيطالية إلى العودة إلى بعلبك والسؤال عن أغراضها التي أضاعتها لتجدها جميعها عند العوطة في القلعة محفوظة كما هي. سُرّت كثيراً وما زالت تدعوه إلى زيارة إيطاليا.
يتذكر المختار عصام ياغي طريق الذهاب إلى المدرسة الذي كان بجانب القلعة، ويقول «كنا نلتقي في طريقنا إلى المدرسة بشباب يتعاطون مع السيّاح ويبيعونهم قطعاً شرقية، بعضهم ما زال على قيد الحياة وآخرون رحلوا، أذكر منهم خليل القرصيفي، وأحمد الخطاب جمعة، وإبراهيم الجمال، ومصطفى حيدر، وخالد زعيم، وخالد الشياح، وممدوح ياغي»، إضافةً الى النحات المرحوم موسى منهل الذي خلت مهنته من وريث على باب القلعة، ويقول من عاصره «كان السائح يقف أمامه وقتاً قصيراً فينحت على الحجر صورة الوجه بسرعة ودقة، إضافةً الى أعمال أخرى».
كان أشقاء المختار يرغمونه على العمل معهم داخل القلعة، حيث يقتنون «بوفيه» للمأكولات والمشروبات حتى أحب هذا العمل وأنشأ محلاً للشرقيات، ويتذكّر: «كان الناس يأتون بأعداد كبيرة لزيارة بعلبك وآثارها، وفي أيام الثلج كانوا يأتون عبر مرجعيون نظراً لكثافة الثلج على طريق ظهر البيدر ، لا شيء كان يكبح رغباتهم في رؤية المدينة». ويتحدث المختار أيضاً عن أحلى الأيام التي كان يتوّجها الفنان شوشو بزيارته القلعة، ويحيي فيها حفلات لم تغب عنها الفرق الفولكلورية ووديع الصافي وملحم بركات. كان البائعون يقفزون من على السور ليبيعوا المصنوعات السياحية، ويشاهدوا الحفلات «إذا نجوا من ملاحقة الدرك آنذاك»، ويضيف ياغي «كل شباب بعلبك كانوا يعملون في هذا المرفأ على عكس هذه الأيام». انعكست الحفلات والسياحة في بعلبك علاقات اجتماعية مميّزة مع الزوار، ويلفت ياغي إلى أنه في الستينيات أتت الفنانة ماريا كلاس لإحياء حفلة هنا، وأعجبت بشخصية أحد وجهاء المدينة أبو عقيد الطقش وأصبحت تزوره دائماً».
في حكايا «سفراء بعلبك» الكثير من القصص المشوّقة، والمضحكة، فيها أيضاً شيء من «شيطنة» الصغار وألاعيبهم، كما تكشف هذه القصص عن ذكاء وقدرة على التعامل مع السائح وفهم عقليته.
كان أحمد جمعة يبلغ من العمر 7 سنوات عندما هرب من دروس الخجى (الكُتّاب) المحاذي للقلعة، وراح يقطف الورود ويقدّمها إلى السيّاح في ساحة القلعة فيبادلونه بالمال. جمعة المولود عام 1945 بلغ عمره المهني 55 عاماً، وكأي خبير في ميدان معين طوّر أساليب عمله، ويقول: «عندما كنت في السابعة لم أكتفِ بقطف الورود بل كنت أُحضر جَدياً صغيراً وأحتضنه وأسير به بين السيّاح، فيتهافتون عليّ ليلتقطوا لي صوراً مقابل مبلغ من المال». تحوّل جمعة فيما بعد إلى بائع للكتب السياحية التي تتحدث عن تاريخية بعلبك، كما كان يبيع الأشغال اليدوية. صادق الكثير من السياح وكان يقضي سهراته مع الفرق العالمية الأجنبية «عندما كان أعضاؤها يبيتون في أوتيل بالميرا»، ويتحدث جمعة مطوّلاً عن كبار وعمالقة من راقصي الباليه العالميين وعن أم كلثوم، فيقول «عندما كانت تغني فإنّ الأعمدة كانت تنحني وتتمايل لضخامة صوتها». ويتذكر أيضاً أن «رؤساء وأمراء وملوكاً أتوا إلى بعلبك … كان تلامذة المدارس بالمئات يخرجون لاستقبالهم وهم يحملون الورود والأعلام اللبنانية مرحبين بالضيوف». ويرى جمعة نفسه من «الشقايا»، فهو كان يقفز من على السور ويبيع السياح ما يشاء لكن الحظ لم يحالفه في أحد الأيام فطارده الدرك في القلعة حيث اضطر إلى القفز إلى البساتين المجاورة ولم يصب بأذى، ويقول: «وقت اللي كان في سياحة، كنا نشتاق للراحة، أمّا اليوم، فقلة السيّاح جلبت لي الروماتيزم والديسك».
في بعلبك، ثمة أشخاص امتهنوا بعد انتهاء الحرب الأهلية بيع النحاسيات والكتب التاريخية السياحية والسبحات والأشغال اليدوية، عدّوا أنفسهم حديثين نسبياً مقارنةً بأسلافهم. عدد كبير منهم لم يدخل المدارس، ومن تعلّم منهم أنهى المرحلة الإبتدائية بالكاد. قست على هؤلاء ظروف الحياة، يتحدثون لغات تشبه الإنكليزية والفرنسية والألمانية …إلى حدٍّ ما، فهم لشدة تعلقهم بمهنتهم ونجاحها يضطرون إلى التحدّث بلغات مختلفة لكون الزبون أجنبياً. يلتقطون الألفاظ من السائح بعفوية مطلقة وتعلق في ذاكرتهم من أول مرة دون أن تخضع لأي تعديل أو تصحيح. القلعة بالنسبة إلى هؤلاء مدرسة تلقّوا فيها دروس الاستمرارية والتشبّث بالعيش. وجعلتهم ينفتحون على ثقافات العالم، في الوقت الذي أُغلقت في وجوههم كل أبواب الرزق وسبله.
علي عثمان (1956) بدأ في التسعينيات ببيع السبحات والأشغال اليدوية، البائع الماراتوني المتجوّل يعدّ نفسه «بياعاً سياسياً» ويقول: «أنا أجعل الزبون يشتري مني بالكلام الحلو والمعاملة اللطيفة»، له 4 أولاد ولا يرغب أن يرثوا منه مهنته لأنها متعبة وغير مجدية ومردودها قليل. يطمح إلى أن يلتحق أبناؤه بالجامعات لكي يحصلوا على وظيفة بـ«معاش ثابت».
خيبة أخرى
لم تعد الحركة السياحية في بعلبك بعد انتهاء الحرب الأهلية إلى سابق عهدها. التشنجات السياسية والانقسامات والصور النمطية والأحكام المسبقة التي يصدرها اللبنانيون في حق بعضهم، كلها أمور ساهمت في قلة عدد الزوار، ولما عادت مهرجانات بعلبك الدولية عادت الحياة إلى محيط القلعة. نشطت ذاكرة البعلبكيين، فراحوا يحنون لأيام العز والمجد، يوم كان أشهر فناني الوطن العربي والعالم يحلّون ضيوفاً بين أعمدة معابد القلعة. ثمة إحساس كبير بالفرح كان يمكن المرء أن يلمسه وهو يحدثهم. حول سوق القلعة انتشر قبيل أمسيات المهرجان بائعو التذكارات والسبحات والمأكولات، وليل بعلبك ينبض بنشاط ناسها وبالزوار من لبنان والدول العربية.
والعام الماضي على رغم العدوان الإسرائيلي الذي منع عرض مسرحية فيروز «صح النوم» إلاّ أن الكراسي المخصصة للجمهور لم تُرفع، بل ظلّت شاهدة على تمسّك المدينة وأبنائها بمهرجاناتهم، تأكيداً لحبّهم للترفيه والسياح والفنون.
هذا العام كانت خيبة أهالي المدينة كبيرة، إذ زاد من حزنهم خبر إلغاء دورة هذا العام من المهرجانات. وكانت اللجنة المنظمة قد أعلنت أنها لم تلغ الدورة بشكل نهائي، لكن بعض العروض قد قُدّمت في بيروت.
لا أحد من العالم العربي أو الغربي سيملأ فضاء المدينة غناء… إنه السكون، الصمت وحده سيخيم على أمسيات بعلبك، هذه هي حال المدينة الباحثة عن الفرح، وما على بائعي «الأنتيكا» أو بالأصح سفراء بعلبك سوى أن ينتظروا صيفاً جديداً يعيد الفن إلى مدينته.
الجيل الجديد عند باب القلعة
في بعلبك، يلتقي المرء بعدد كبير من الشباب (دون الأربعين عاماً) الذين يعملون على بيع الأغراض التذكارية.
حسين الجمال (34 عاماً) يبيع النحاسيات منذ عشرين عاماً، ويقول «حتى وظيفة شوفير (سائق) بلدية لم أحصل عليها». زميله محمود جمعة ( 34 عاماً) متزوج، ويقول «بالأول كانت الحال مستورة، أمّا الآن فإنني أستدين لكي أعلّم أولادي» ففي ظل احتضار السياحة في بعلبك يؤكد «سنصبر حتى تنتعش السياحة من جديد في بعلبك، فتنعكس حيوية على الدورة الاقتصادية ويبدو أنها لن تعود».
أمّا بسام الجمال (33 عاماً)، فيصرّ على الاستمرار في مهنته (الجمّال) حتى وإن غاب السيّاح عن بعلبك «لأنه لا بديل لدينا… ننتظر أن يأتي الفرج، أنا عازب وما أحصل عليه أصرفه في لحظة».
أجمع السفراء الجدد للمدينة على أنهم كانوا في الأعوام الماضية يجنون ما يكفيهم للعيش. أمّا الآن، وفي ظل الضائقة الاقتصادية وغياب فرص العمل في بعلبك، فهم مضطرون إلى الاستمرار في مهنتهم وإن رأوا أنّها «أصبحت كالتسلية، نأتي يومياً حيث يتسلّى بعضنا مع بعض، وعندما تقارب الساعة الثانية ظهراً نعود أدراجنا إلى منازلنا، فيما كنا سابقاً نبقى حتى الثامنة ليلاً ولا وقت لدينا للتحدث معاً».