كيف نفهم عقيدة التقمّص، وما هو مصير الروح بناء على عقيدة التوحيد؟

 

صدى وادي التيم – متفرقات

 

التقمّص هو الولادات المتعددة للروح. القانون الإلهي للتقمّص يعمل انطلاقا من المفهوم القائل إنَّ الروح الفردية للإنسان هي دائمة التطوّر تنشد الكمال وجيل واحد لا يكفيها لتحقيق امنيتها . التقمّص هو الطريق الذي بواسطته تصل النفس إلى هذه الحالة الروحية السامية من التوحيد. ولكن موضوع التقمص يحظى واقعيا باهتمام عالمي، ولأهميته يتعين علينا إجراء تحليل عام مركزين, مبدئيا, على الموضوع من منظور مختلف الثقافات للعودة الى مفهوم الدروز للتقمص باعتباره القاعدة الأساسية لمعتقد التوحيد الروحي.

لقد كان التقمّص ماثلاً دومًا في الجو الفكري العالمي. كثيرون من المتدينين، والفلاسفة, والمفكرين، والحكماء، والشعراء من كل المذاهب والدول والعصور لامسوا موضوع التقمص بطريقة أو بأخرى. فالأديان الشرقية وخاصة البنية الاساسية للنظام الروحي الهندي وشبه القارة الاسيوية ، يشكّل التقمّص جزءا اصيلا من معتقداتها الروحية. وبالرغم من أنَّ المسلمين، والمسيحيين، واليهود لا يعترفون بالتقمّص فان كتبهم الدينية ملئى بالشواهد والاشارات الواضحة التي تحتاج فقط لتفسير موضوعي في جو لا يكون محكوما بالمواقف النهائية او الاحكام المسبقة. في مناسبات عدة فرض على الحركات الباطنية مواجهة المؤسسات الرسمية لعديد من الاديان التي تنتمي اليها. ووُجدت في الديانة الإسلامية مدارس صوفية معروفة جدًّا أنتجت أدبًا روحانيًّا عميقا وجميلاً نال ولايزال اعجاب طبقة المفكرين عالميا. هناك على الاقل اربعة مذاهب اسلامية هي الدرزية، الاسماعيلية-الفاطمية، القرامطة والعلويين، تعترف جميعها, ولو بمفاهيمها الخاصة , بنظرية خلود الروح وانتقالها بعد الموت الى جسم اخر . هناك ايضا رجال رافقوا النبي )صلى( كسلمان الفارسي، وأبو ذر الغفاري وآخرون لهم موقعهم عند الدروز وعند غيرهم من المذاهب الإسلامية. ولهذه المدارس، والطوائف، والشخصيات، القرآن الكريم هوالمرجع الأول والأهم كمصدر للإيمان والوحي.

كثيرون من المتدينين، والمفكّرين المسيحيين الذين استلهموا ايمانهم من الإنجيل وكتاباته المقدّسة، عملوا على مقاربة موضوع التقمّص. انطلقت الديانة المسيحية من فلسطين حيث كانت المجتمعات الآسانية والاغنوصية الذين يعتقدون بالتقمص, يشاركون اليهود المساحات الجغرافية والفكرية والاجتماعية. من جهة اخرى نجد ان عددا من الكهنة الأوائل وآباء الكنيسة الاقدمين امثال جوستين الشهيد (Justino Martir) , كليمان الاسكندرية ( of Alexandria Clement )، اوريجانوس (Origen) وسيناسيوس (Synesius) أسقف بطلمايس ( Ptolemais ) وغيرهم من اصحاب المقامات البارزة في العصور الحديثة امثال هنري مور (Henry More ) في إنكلترا, يعقوب بويهم (Jacob Boehme) من ألمانيا البروتستنتية الذين علّموا الوجود السابق للروح وبعض أشكال التقمّص. وفي حقول الفلسفة والعلم والفكر في العالم المسيحي نجد ان عددا من مشاهير الرجال اعتنق مبدأ التقمّص. نذكر على سبيل المثال جون دالتون Jon Dalton الذي اكتشف نظرية الذرّة، حجر زاوية الفيزياء الحديثة، ديكارت Descartes أبو الفلسفة الحديثة ، باراسلسوس ، Paracelsus أبو الطب الحديث , ليوناردو دافنتشي Leonardo Davinci العالم والرسام الايطالى الكبير مبدع لوحة الموناليزا الشهيرة ، جيوردانو برونو Giordano Bruno الفيلسوف والإنساني الذي مات في المحرقة دفاعا عن أفكاره .الفلاسفة ليبنز Leibniz وسبينوزا Spinoza ، وفرانسيس بايكون Francis Bacon الذي ينسب اليه تأليف مسرحيات شكسبير ، جون ميلتون John Milton أحد اكبر شعراء العالم , غوته Goethe ، الكاتب والفيلسوف الألماني الكبير, بنجمين فرانكلين Benjamin Franklin احد اكبر رجال الدولة ومصمم ومرشد دستور الولايات المتّحدة الاميركية. إدغار ألن بو Edgar Alan Poe أحد اكبر شعراء أميركا, هنري فورد Henry Ford, لورد داودنك Lord Dawding، قائد سلاح الطيران البريطاني اثناء الحرب العالمية الثانية الجنرال باتون General Patton, لويد جورج Lloyd George ، وليم جايمس Williiam James, الروائية الشهيرة ماري كوريلي Marei Corelli, وولت دسني Walt Disney جبران خليل جبران، والكثير من الشخصيات التاريخية البارزة .

لنا في العهد القديم مراجع واشارات عن مفهوم التقمص ولكن الكابلا (Kabbalah) لها في عقيدة التقمص موضوعها المركزي. والهازيدية (Hassidism) هي ايضا حركة صوفية معاصرة داخل الدين اليهودي. والاغنوصية ظهرت قبل المسيح، وكذلك الآسانية وهما حركتان باطنيّتان غير يهوديتان عاشت ضمن مجتمعات منظّمة في فلسطين لها كتبها وطقوسها، والتقمّص معتقدها الأساسي، ومنطقيًّا يمكننا الاعتقاد أنَّ هذه الحركات والمدارس الصوفية كان لها تأثيرها على الدين اليهودي وبناءا على هذه المراجع الدينية يمكننا القول أنَّ فكرة التقمّص لها حضورها في الديانات المعروفة وبالتالي لاتتعارض مع ما ورد في كتبها المقدسة. يقول جديس ماكغريغورGeddes Macgreger ان الأديان الثلاثة “:تبنّت مفهوم القيامة او البعث (resurrection ) لأنَّ كلمة تقمّص غير واردة حرفيًّا في التوراة، وغير موجودة ايضا في اللغة العبرية القديمة والتعبير الموجود في الآرامية الذي يشير الى الحياة بعد الموت ترجم الي كلمة احياء او قيامة. ولكن مفهوم التقمّص موجود في العهد القديم، وواضح في العهد الجديد بواسطة العقيدة الباطنية المرتبطة بالكتب الدينية للديانتين“. واستنادًا الى رأي الكاتب ماكغريغور Macrgregor أنَّ فكرة التقمّص” اختفت رسميًّا وظاهريًّا من الفكر المسيحي عندما أعلن قسطنطين المسيحية دينًا رسميًّا للإمبراطورية الرومانية، إثر السنودس والمجمع الخامس الذي عقد في القرن السادس الميلادي، وقد تشكّلت حملة ضدَّ ما يسمّى بالهراطقة لأنَّ أفكارهم لا تتماشى تمامًا مع التفسير الكنسي للإنجيل “ . ومع مرور الزمن وتطور المجتمع ومعه الكنيسة, واجواء الحريات الذي يهيمن على المجتمع في الوقت الحاضر ، جعل من التقمص عقيدة مقبولة من عدد كبير من البشر وهذا العدد يزداد باضطراد خاصة بين الشباب، وهذا ما أكّدته الدراسات الأخيرة لسنة 2003 من قِبَل منظّمة أونتاريو الاستشارية للتسامح الديني (Ontario Consultants on Religious Tolerance). حيث بدا أنَّ ما يتجاوز ال 27 بالمئة من العالم الغربي يقبل الان مفهوم التقمص. هذه النسبة ترتفع الى 40 بالمئة بين اولائك الذين هم دون الثلاثين وتهبط الى 14 بالمئة عند الذين هم فوق الرابعة والستين.

التقمّص نظرية جدلية كونها ليست بعقيدة دغمائية ولانها ربما لا تنتمي حصريّا الى حضارة أو دين معيّن. هناك مجتمعات تقبّلتها وتبنّتها واخرى رفضتها او لم تعيرها الانتباه الكافي. معظم الذين يؤمنون بالتقمص ولدوا ونشأوا في بيئات تتبنى هذه العقيدة وتؤمن بها كالدروز مثلا . عدد كبير من الناس لهم اختبارهم الشخصي الذي ولّد لهم قناعاتهم ثم ايمانهم بصحة العقيدة. وغيرهم بنى قناعاته على اسس الدراسة والتأمل ومراقبة أحوال الناس ومسلكيتهم، والاستنتاج المنطقي المأخوذ من هذه التجربة. وبالرغم من الصعوبة في تقديم البراهين العلمية لاثبات عقيدة التقمّص – كما هي الصعوبة في برهان وتعليل العديد من الظواهر ـ فمن الصعب ان نجد مفكرا جدّيا قام برفض الفكرة وفي نفس الوقت قدّم نظرية واقعية اخرى كبديل لها. وبعض المدارس العلمية والفلسفية لم تتقبّل نظرية التقمّص لأنَّ مفكّريها يشكّون اصلا او ينكرون وجود الروح. أحيانًا تُقبل الأفكار او تُرفض فقط لانتسابها إلى سلالات أو طوائف او معتقدات اوفلسفات معينة , كما قد تناقض الفكرة أو يتم تجاهلها ليس لتباين في وجهات النظر بل لعدم اخذ الوقت الكافي لدراستها بطريقة منهجية. ومن ابرز وجوه معتقد التقمّص أنه لم يختف من المجتمعات التي لم تأخذ به، بل صمد حتى في كثير من المجتمات المناهضة له لكونه يحتوي على التعريف الاكثر وضوحا وترابطا لمصير الروح بعد الموت.

التقمّص ليس بموضوع مستقل، أو عقيدة روحية بحد ذاته بل جزء أساسي من حكمة اصيلة تتضمّن مفاهيم روحانية أخرى ترتبط بها , منها قانون الثواب والعقاب, قانون الخلق والتكوين والمقام الذي يشغله العقل الكلي في هذه الحالة; وهنا نقصد بالتحديد علاقة الكائن البشري كجسم وروح وعقل بالاله الخالق. كل هذه الحقائق الباطنية مجتمعة تشكّل العقيدة الروحانية للتوحيد.

أهمية التقمّص هي بملامسته المباشرة لموضوع الروح, العنصر الاساسي للحياة, وبارتباطه بماهية الروح من حيث اصلها وتطورها ومصيرها. فتطور الروح الذاتية لا يمكن ان يكون مادة للدراسة او الاختبار بمعزل عن سياقه في المدى الوجودي، كون الوعي الإنساني بإمكانه تناول وتسجيل وتقييم هذه السلوكيات، والتأثير عليها. مما يعني أنَّ كل ما قيل عن الروح لا يمكنه ان يكوّن اعتقادا او ايمانا ان لم تكن هذه الحقائق في حدود قدرة الانسان الاستيعابية او الادراكية.

هذه القدرة الادراكية وحالة الوعي التي تولدها لها ارتباطها القوي بتطور الروح الذاتية, وكون هذا الادراك هو نتيجة الوجود الحسي فلا وجود لاي تطور روحي للذات خارج الوجود المادي للانسان. هذا هو المفهوم الدرزي للتقمص وهذا يعني الولادة الفورية بعد الموت الذي نسميه انتقال. فالروح بدون الاختبار الدنيوي لا يمكنها اكتساب العناصر الأساسية لتطوّرها. يرفض الدروز مفهوم التناسخ للنفس، لأنَّ نظريات كهذه ترى أنَّ المستوى التطوّري للروح يمكن أن يعلو وينحدر بحسب المسلكية على وجه البسيطة وهذا يعني الدوران في حلقة مقفلة وديناميكية الروح لا تتجانس مع هذا المفهوم ، بينما الحقيقة هي ان طريق الروح هو تتطوري تصاعدي نحو الكمال، ويستحيل عليها الانعكاس والتراجع . ومن الخطأ الاعتقاد أنَّ روح المجرم أو الشرير قد تتقمّص في مخلوق أدنى , كحيوان مثلاً، فتلك فكرة مناقضة أساسًا لعقيدة التوحيد. وما يسمى بالقصاص الالهي, كما سنرى في فصل الثواب والعقاب, ليس عمل انتقامي بل اصلاحي و ترشيدي ، والحيوان لا يعي خطأه ولا ضرورة اصلاحه ولا الطريقة الى ذلك.

قانون التقمّص سوية مع قانون الثواب والعقاب شأنهما تصحيح مسار حياة الإنسان، وتأكيد العدالة الألهية وتفعيل التطوّر. القول بانتهاء الحياة في جهنم أو الجنّة يناقض مفهوم التقمّص . فالإلوهية هي التسامح والعدالة والتفهم لواقع الانسان, لأنَّ اقتراف الخطيئة يعود للجهل أكثر منه لنزعة الشر، والشر في غالبية الحالات مصدره الجهل ايضآ. والعدل الالهي يمنح الانسان, بواسطة قانوني التقمص والثواب والعقاب, فرصة ثانية او اكثر ليتعلم من اخطائه , ويصححها ويأخذ من ذلك الامثولة. فالذين يعتقدون بمفهوم التقمص يؤمنون ان الذي يخلّص الانسان هي اعماله وافكاره ونواياه وهنا على الارض وليس المخلّص. المخلص أو النبي هو من يعلّم القيم, الروحية منها والاجتماعية ، ويوحي بالمثل، ويدل إلى الطريق، وعلى الإنسان إنجاز ما تبقّى وعلى عمله يحاكم.

التقمّص هو احدى اهم الاسس التي ترتكز عليها عقيدة التوحيد الدرزية، وخصصت الكتب التوحيدية رسالة كاملة لهذا الموضوع وهي ” الرسالة الدامغة” رقم 15 .ونحن في هذا الجزء من العالم أول من تبنّى، وصان، ودافع عن فكرة التقمّص، وها هو عالم اليوم ملتفت إلى موضوع التقمّص ومهتم في تقييمه اكثر من اي وقت مضى.

التقمّص كما قلنا سابقا ليس عقيدة بحد ذاته بل احد مكونات معتقد اوسع واشمل هو العرفان التوحيدي. قانون الثواب والعقاب هو الجزء الاخر وبين الاثنين يتحدد ويتوضح طريق التوحيد. في غياب قانون الثواب والعقاب لا يمكن للنفس البشرية أن تتطوّر، وبالنتيجة لا يكون لقانون التقمّص اي معنى. ولنفس السبب لامعنى لقانون الثواب والعقاب بدون قانون التقمص. ولادة واحدة نهايتها الجنّة أو النار ليست شاهدا على العدالة الإلهية. عندما نطرح موضوع التقمص يحضر تلقائيا قانون الثواب والعقاب وهذين الموضوعين يجب طرحمها بطريقة متلازمة. الترابط بين الموضوعين يستحق فصلاً خاصًّا وسيتم عرضه بعد تحديد قانون الثواب والعقاب.

المصدر : رياض حسن – فنزويلا – تجمع الموحدين الدروز

إيضاح من كاتب المقال : قمنا بتأليف كتاب الدروز والدرزية في ثلاث لغات نُشر ووزع دون مقابل وليس معروضا في المكاتب . وهو كتاب موجه إلى اجيال الاغتراب بنوع خاص ولكل طالب للمعرفة ، ويحتوي على ما يجب معرفته عن المذهب . ويتعذر علينا ارساله في الوقت الحاضر لذلك اخترنا تقديمه فصلا فصلا الى الجميع كي نساعد على تطوير وتغذية العمل والسلوك الروحي وتعزيز روحية الانتماء للهوية التوحيدية الدرزية.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى