لماذا “انقلب” جنبلاط على دياب وحكومته ؟!
منذ ولادة حكومة حسّان دياب، بقي موقف رئيس “الحزب التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط منها “ضبابياً”، أو ربما “متأرجحاً” بين الموالاة والمعارضة، حتى قيل إنّ “البيك” هو الذي حال دون “تماسك” جبهة المعارضة، على تنوّع مكوّناتها المفترضة، تماماً كما كان خلف إنهاء “14 آذار” سابقاً.
كثيرةٌ هي الشواهد على ذلك، من “تطوّع” الرجل لتأمين نصاب الجلسات “المفصليّة” للحكومة في البرلمان، من الموازنة إلى الثقة، بعيداً عن “شعبويّة” نظرائه في المعارضة، وصولاً إلى “التطبيع الكامل” مع الحكومة، بعنوان منحها “فرصة”، باعتبار أنّ وجودها يبقى أفضل من الفراغ، على حدّ قوله.
وإذا كان كثيرون ربطوا هذه الفرصة بحضور جنبلاط، بشكلٍ أو بآخر، في الحكومة، مع اعتبار البعض أنّ وزيرة الإعلام منال عبد الصمد مثلاً محسوبة عليه، لا على “خصمه” النائب طلال أرسلان، فإنّ شيئاً ما تغيّر على خطّ العلاقة خلال الساعات الماضية، ودفع “البيك” إلى التصويب المباشر على الحكومة ورئيسها.
فما سرّ “الانقلاب الجنبلاطيّ” على دياب وحكومته؟ وهل يضع حداً لضبابيّة الموقف “الاشتراكيّ” أخيراً؟!.
“تمييز” غير مُوفّق؟!
ليس سرّاً أنّ معركة جنبلاط مع “العهد”، ممثّلاً بكلٍّ من رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس “التيار الوطني الحر” جبران باسيل، سابقةٌ للحكومة ودهاليزها، بل سابقةٌ لطرح اسم حسّان دياب رئيساً للحكومة، وبالتالي سابقةٌ بطبيعة الحال لتغييب “الاشتراكي” للمرّة الأولى ربما عن حكومات ما بعد الطائف.
ولعلّ من يذكر “كواليس” الحكومة السابقة مثلاً يدرك هذا الواقع جيّداً، خصوصاً أنّ “المساكنة” بين الجانبيْن لم تنجح في “ترطيب” الأجواء التي يغلب عليها “النفور” بينهما، والتي لا تعود فقط إلى تاريخ الانتخابات الرئاسية، التي صوّت فيها “الاشتراكيون” لعون على مضض، ولكن إلى تاريخ عودة عون من منفاه الباريسيّ، يوم تحدّث جنبلاط جهاراً عن “التسونامي الآتي”، في إشارةٍ غير ودّية إلى “الجنرال”.
ويمكن القول إنّ هذه العلاقة “تفجّرت” إبان الحكومة السابقة برئاسة سعد الحريري، على وقع الخلاف المتفاقم بين جنبلاط وأرسلان، بدفعٍ مباشرٍ من باسيل، وفق رؤية “الاشتراكيين” على الأقلّ، وهي كادت تطيح بالحكومة عن بكرة أبيها، وتأخذ في طريقها علاقاتٍ تاريخيّة على غرار العلاقة بين جنبلاط وآل الحريري، لولا المصالحات “الشكليّة” التي حصلت، ولم يُكتَب لها الصمود لفترةٍ طويلةٍ من الزمن.
وإذا كانت هذه التجربة، معطوفةً على “ثورة” اللبنانيين التي حاول “الاشتراكيّون” التسلّل إليها، بشكلٍ أو بآخر، هي التي دفعتهم إلى “تغييب” أنفسهم عن الحكومة، في مفارقةٍ لا تشبه المسار الذي اتّبعوه منذ الطائف، فإنّ المقرّبين من جنبلاط يقولون إنّ “الفرصة” التي منحها إلى حكومة دياب، على رغم الملابسات التي أحاطت بطريقة تشكيلها، انطلقت من عدة معطيات، قد يكون أهمّها “التمييز” بين دياب، الذي أصرّ على أنّه جاء من “رحم الثورة”، وبين عون وباسيل، وهو “تمييزٌ” لم يكن موفّقاً، على حدّ ما يقولون.
الفرصة انتهت!
بالنسبة إلى “الاشتراكيّين”، فإنّ هذا “التمييز” الذي أفضى إلى منح جنبلاط “فرصة” للحكومة، لتحقيق وعودها الفضفاضة الكثيرة، جاء انطلاقاً من “حساسيّة” المرحلة التي أبصرت فيها الحكومة النور، وفداحة التحدّيات الملقاة على عاتقها، وقبل ذلك، انطلاقاً من قناعته الراسخة بأنّ وجود حكومة يبقى أفضل من الفراغ، وهو ما تكرّس أصلاً بالمواجهة مع فيروس “كورونا”، والتي لا يمكن لأحد تخيّل معالمها لو فُرِضت على لبنان، في زمن فراغٍ، أو تصريف أعمالٍ، أثبتت التجربة الحديثة أنّه لا يعني سوى الفراغ.
بيد أنّ هذه “الفرصة” انتهت، وهو كلامٌ لا يحتاج المقرّبون من جنبلاط لتأكيده، باعتبار أنّ “البيك” ثبّته بتصريحاته الأخيرة، والتي هاجم فيها رئيس الحكومة بشكلٍ عنيفٍ ومباشر، وصولاً إلى حدّ وصفه بـ”الحَقود” و”الموظّف” وغير ذلك من النعوت التي قد لا تكون لائقة في الأعراف السياسيّة والدبلوماسيّة، ما دفع كثيرين إلى التساؤل عن “السرّ” خلف هذه “الانعطافة الجنبلاطية” إزاء الحكومة.
ينفي “الاشتراكيون” أن تكون “انعطافة”، باعتبار أنّ جنبلاط لم يكن في صفّ السلطة، وانقلب فجأة عليها، وانتقل إلى صفوف المعارضة، بل إنّه أعلن منذ اليوم الأول معارضته للحكومة، لكنّه اختار نهج المعارضة “البنّاءة” بعيداً عن الأحكام المُسبقة، وعملاً بمقولة “الامتحان الذي يُكرم عنده المرء أو يُهان”. ويرى هؤلاء أنّ الحكومة “أهانت” نفسها بنفسها عند هذا الامتحان، فبعد مرور ثلاثة أشهر على ولادتها، لم تستطِع أن تحقّق إنجازاً وحيداً يُذكَر، بل إنّها لم تقدّم حتى الآن خطّة اقتصاديّة متكاملة، مكتفية بتسريب “مسودّة” لا تبشّر بالخير، قبل أن “تتنصّل” منها، فور جسّها “نبض” الناس الرافض لها بالمُطلَق.
لكن، أبعد من غياب “الإنجازات”، يختزل الهجوم على دياب، مقاربة جنبلاط لأداء الأخير في الأيام الماضية، خصوصاً لجهة انتقاله من سياسة “الدفاع عن النفس” إلى “الهجوم”، ومحاولته “قمع” الأصوات المُعارِضة لحكومته، بالقول إنّ من يعترضون هم الذين أوصلوا البلاد إلى الواقع الحاليّ، وكأنّه يقول إنّ “المعارضة ممنوعة”، وهو ما لا يمكن أن يكون مسموحاً في زمن “الثورة”، العائدة حتماً بعد زوال “كورونا”. ولعلّ زيارة دياب إلى رئيس الحكومة الأسبق سليم الحص لا تبدو “بريئة”، في أعين “الاشتراكي”، نظراً لكمّ “الاستعراض” الذي حملته، والمُوجَّه بشكلٍ خاص ضدّ الحريري، ما يوحي بأنّ دياب اختار الدخول إلى “النادي السياسي” من الباب العريض، ومن زاوية “النكايات” قبل أيّ شيءٍ آخر.
بيد أنّ أكثر ما استفزّ جنبلاط في أداء دياب خلال الأيام الماضية، أنه رأى فيه “ظِلّ” الوزير جبران باسيل، وكأنّه تبنّى أطروحته بحرفيّتها، وهو ما بدا جلياً في “التطابق” بين كلمته وكلمة رئيس الجمهورية قبل يومين، علماً أنّ “البيك” يحيل السائلين إلى “الخلافات” التي باتت ظاهرة للعيان، من داخل الحكومة، وإلى التصريحات الواضحة لرئيس تيار “المردة” سليمان فرنجية، مثلاً، والتي “تفضح” التنسيق الثنائيّ بين دياب وباسيل، فضلاً عن “الشكاوى” المتكرّرة من رئيس مجلس النواب نبيه بري، والذي يتمسّك جنبلاط بـ”صداقته” حتى الرمق الأخير، رغم كلّ شيء.
القطبة المخفيّة…
تبقى القطبة المخفيّة، برأي كثيرين، خلف موقف جنبلاط من الحكومة وغيرها، تكمن في “حصّته” منها، خصوصاً أنّ الرجل اعتاد على أن تكون له “حصّة الأسد”.
يؤكد ذلك دخول الرجل في مشاوراتٍ جانبيّة، أقرّ بها، حول المشاركة، ولو “المستترة”، في الحكومة التي رفع لواء معارضتها قبل تشكيلها، فضلاً عن دخوله من جديد في مشاوراتٍ جانبيّةٍ أخرى، حول “حصّته” من التعيينات التي تزمع الحكومة تشكيلها، واشتمامه رائحة “نكاياتٍ” تسعى الحكومة لتكريسها بشكلٍ أو بآخر.
هذه القطبة المخفيّة هي “بيت القصيد”، برأي خصوم “البيك”، وليست الخطّة الاقتصاديّة، ولا ودائع الناس التي باتت اليوم بنظره “مقدّسة”، بعدما نصّب نفسه سابقاً “محامي الدفاع” عن المصارف، بدليل تفرّده مثلاً بمواجهة تظاهرة “التيار الوطني الحر” أمام مصرف لبنان، قافزاً بذلك فوق “وجع” الناس، المحرومين من حقّهم بالحصول على أموالهم.
وقد يكون هذا هو “الامتحان الحقيقي” الذي ستُكرَم الحكومة أو تُهان على أساسه، فإما تستمرّ “المحاصصة”، كما يريدها “البيك” وأصدقاؤه في الطبقة السياسيّة،وهو المُرجَّح، وإما يبدأ التغيير الفعليّ والحقيقيّ…