“الغضب الكبير” وقع… فإلى أين يتّجه لبنان؟
يسند ميلاد أبو ملهب، بظهره، تمثال رياض الصلح. لم نجده، أمس، يلبس «حفاضه» الشهير، ولم يكن «بابا نويل» أيضاً، بل كان بثياب عاديّة يتأمّل وجوه الحاضرين. ما إن سمع عن تظاهرات حتى ترك قبّ الياس، في البقاع، وهرول نحو وسط بيروت. هو يُحبّ التظاهرات أكثر مِمّا يُحب وزير الاتصالات محمد شقير الشوكولاته. أبو ملهب ينظر، مِن زاويته، إلى الهاتفين في الساحة. يُراقب أوشامهم ويسمع شعاراتهم: «شياح، غبيري، باسيل على…»، وهكذا. يَضحك. يُراهن صاحب اللحية الكثّة البيضاء على أنّ الجميع، بعد ساعات، سوف يُغادر المكان، لن يناموا هنا، «سترون كيف أنّ الجميع سوف يُشنهق». ثلاث فتيات يقفن على بعد أمتار. يقلن إنّهن سمعن عن تظاهرة في منطقة الحمرا أيضاً. لا يبدو أن الأجواء هنا تُناسبهم. يقال لهن: نعم. تقول إحداهن: «صبايا، خلينا نطلب «أوبر» ونروح على الحمرا». هذا هو وسط البلد، البلد، كلّ البلد الذي اهتز نتيجة الرسوم والضرائب التي أقرّتها الحكومة.
تأتي المراسلة التلفزيونيّة وتبدأ «النطنطة». يُفتح الهواء. تتزايد أعداد المعتصمين. هناك مَن يشتم، هناك مَن يمزح ويضحك، هناك مَن يُراقب، هناك عناصر القوى الأمنيّة يُراقبون. أحدهم يصرخ: «ثورة ثورة ثورة». تبدأ الهتافات. تبتعد المُراسِلة فتتضاءل أعداد الحاضرين، تعود لاحقاً، فتعود وتمتلئ الساحة. سيبقى لغزاً كيف تبدأ هذه النوعيّة مِن التظاهرات في لبنان، وكيف تنتهي. منتصف الليل أصبح قريباً. تقاطع بشارة الخوري يُقطع. تظاهرة في منطقة المشرّفيّة، في الضاحية الجنوبيّة لبيروت، وأخرى على بعد مئات الأمتار عند تقاطع كنيسة مار مخايل. هناك قطعت الطرقات بحاويات النفايات وبالإطارات المشتعلة. طريق المطار قُطِع أيضاً. ما حصل في النبطيّة كان لافتاً، غضب عارم وقطع للطرقات، وهجوم على بيوت بعض النواب والمسؤولين. طبعاً كان هناك، أمس، مَن يتحدّث عن «التوقيت». هذا صنف مِن الناس يعنيه «التوقيت» كثيراً، فلو حصل أي شيء، في أي توقيت، فلا بدّ مِن «قطبة مخفيّة». هناك مَن يُحرّك الشارع كرسائل سياسيّة لخصومه، هذا قيل أمس أيضاً، وهكذا. كلّ هذا يُمكن أن يكون صحيحاً، ويُمكن العكس، ويمكن كل تلك الأشياء أن تختلط بالوقود الأبدي: المتعبون الذين لم يحرّكهم إلا تعبهم. فجأة، تمرّ سيارة الوزير أكرم شهيب في وسط بيروت. يعرفه المتظاهرون. يقطعون طريقه: «حرامي حرامي». ينزل مرافقه المسلح، يطلق النار مِن رشاشه الحربي، يخلع أحد المتظاهرين قميصه ويقف فوق السيارة. يُعطي صدره للمسلح، يقول له أطلق النار، ويُصرّ على الأمر. الموت كالحياة عند هذا الغاضب. لا يفعلها إلا شخص ميّت أصلاً. يفعلها متظاهر آخر. هذا مشهد يمكن أن يتمدّد. كثيرون لديهم هذا الاستعداد – الموت.
الأرض جاهزة في لبنان للغضب. لا تحتاج إلى تحريك كثير. رُصدت أمس اعتصامات وقطع للطرقات في قرى نائية، في الجنوب والشمال والبقاع والجبل وكلّ لبنان. هؤلاء لا تصوّرهم وسائل الإعلام، ولم يُنقل تحرّكهم على الهواء مباشرة، هم يعلمون ذلك، ومع ذلك تظاهروا وقطعوا الطريق على… أنفسهم. أحد الشبان، ليل أمس، وقف قرب مراسل تلفزيوني أثناء النقل المباشر، ثم رمى بين رجليه «فرقيعة». بعد «النقزة» اشتعل الهتاف. تسأل المراسلة، في مكان آخر، أحد الغاضبين المرحين: وزير الاتصالات تراجع عن إقرار الرسم المالي على استخدام «الواتساب»… هل ستبقى هنا؟ ردّ عليها: «(…) (…) الوزير». هناك «غاضب» يعتب على الجميع لأنّهم قال «غنم» وهم الذين انتخبوا هذه الطبقة السياسيّة. هذا صنف رائج مِن الغاضبين، يتشدّق بهذه المقولة الأسطوريّة، علماً أنّه هو نفسه يكون مِن أكثر المتحمّسين في كل انتخابات… وينتخب. بالمناسبة، ماذا لو أن الشعب، كلّه، وهذه فرضية مستحيلة، قرّر ألا يشارك في الانتخابات، ما الذي سوف يحصل؟ في لبنان، سوف يفوز الذين فازوا أنفسهم، الذين يفوزون دائماً، ولو بالتزكية، ولو فقط بأصواتهم هم لأنفسهم وأصوات عائلاتهم وسائر أفراد «المافيا».
يوم أمس، وبعد انفجار «خبريّة» الرسوم والضرائب الجديدة، راح السياسيّون، من مختلف الجهات، يتنصّلون مِن مسؤولية إقرار الرسوم والضرائب. كلّهم مشاركون في الحكومة، الحكومة صاحبة القرار، وكلّهم يتنصّلون منها. المركب يغرق، وها هي ملامح القفز مِنه بدأت بالظهور. قناة «المنار» كانت تنقل أمس، على غير عادتها، الاحتجاجات مباشرة على الهواء. هذا مؤشر لافت. وسائل إعلام إسرائيليّة، مثل «يديعوت احرونوت» و«معاريف»، تحدّثت في أخبار عاجلة عن تظاهرات في لبنان «ضد الحكومة والفساد». صور رئيس الحكومة سعد الحريري تُنزع في طرابلس. حصل هذا سابقاً. الهتاف ضدّ الجميع. لقد سرق الذين حكموا لبنان، أقله منذ «الطائف» إلى اليوم، الكثير الكثير. لو سرقوا أقل لكان الوضع اختلف. لقد سرقوا بجنون. كانوا مثل «البكتيريا الغبيّة». يُقال إنّ «البكتيريا الذكيّة» تأكل مِن الجسد، تأخذ حاجتها، ولكنّها لا تفني الجسد تماماً، لا تقتله، تعرف بطريقة ما أنّ نهايته هي نهايتها. سياسيو لبنان كانوا «جراثيم غبية.
ذات يوم، خالف مدير شركة «نوكيا» قانون السير في فنلندا، بلده، فغرّمته المحكمة مبلغ 116 ألف يورو. مبلغ كبير جدّاً صح؟ ذلك لأنه ثرّي جداً. هذا ما ينص عليه القانون هناك. لا يُعقل أن تكون غرامة مخالفته كغرامة مخالفة الفقير. هناك الغرامة تُربط بمكتب الدخل والضرائب. يوجد شي شبيه مِن هذا في سويسرا، ودول «اقتصاد حرّ» أخرى. ألا يُمكن لشيء مِن هذا أن يُغير وجه لبنان اقتصاديّاً؟ هناك مَن طالب بذلك سابقاً هنا، لكن عبثاً. في آخر ضرائب ورسوم طاولت التبغ في لبنان، أثناء نقاش قانون سلسلة الرتب والرواتب، زاد سعر السجائر وزاد السعر أيضاً، بالمقدار عينه، على السيجار. علبة السجائر وثمنها 3 دولارات مثلاً تتساوى بقيمة الزيادة مع السيجار الذي يكون سعر 100 دولار مثلاً. اليوم أقرّت زيادة أخرى على السجائر، ولكن هذه المرّة لم يتحدّث أحد عن السيجار. بقي على سعره.
المركب يغرق. على جميع القوى السياسية أن يعترفوا أنهم لا يملكون حلولاً. الأخطر، وهذا ما لا يُصارح الناس به، أنّ الجميع لا يملكون تصوّرات اقتصاديّة شاملة للبلاد. لا يملكون الفكرة. جلّ ما يحصل، وسوف يحصل، إنّما هو اجتهادات. انفعالات آنيّة. ردود أفعال. أين المفرّ؟ لم يعد العالم رحباً. لم تعد الدول ترحب بنا. البقاء هنا قدر أكثرنا. هيا نغني معاً: سوف نبقى هنا، كي… الله أعلم.