ثمَّة نبيه بري … وثمة آخرون!

 

هكذا هو نبيه بري. لا يؤخذ إلا دفعة واحدة: كبير المشرّعين وحامل المطرقة والخطيب المفوه والأديب البديع والساحر اللمّاح والمقدام الشجاع والصلب العنيد والسهل الممتنع. أجمل ما فيه أنه مدهش. وسر دهشته ينصهر تمامًا في علة وجوده. هو الخلاّق المبتكر المتخصص في الرسم والحفر ومزج الألوان. وهو الصابر الحكيم والثائر المباغت والبراغماتي السلس. متوقد الذكاء وفائق البصيرة. يداعب السياسة بين راحتيه، فتصير طرية شهية أو قاسية شقية. لكنه بين هذا وذاك يحن أبدًا إلى خبزه الأول، وإلى تلك الصورة الأعمق في ذاكرته. هناك حيث امتطى رشاشًا وراح يهرول نحو كوكبة من الرجال الرجال الذين زرعوا قاماتهم فوق الزفت المحروق وهم يُشعلون دبابات الميركافا عند مثلث خلدة وعلى تخوم بيروت.

شكّل نبيه بري ولا يزال ركن الزاوية وقطب الرحى في كل المعادلات السياسية. صنع صورته على سجية بركان لا يهدأ وزلزال لا يستكين. ثم استحال شخصية منمقة كاملة الأوصاف. يدوّر الزوايا. يُرتب الفوضى. يُخبئ الأرانب في جيب قميصه، فيصنع من الركام انتصارًا. ومن الحرب سلامًا. ومن الكلمة معولاً يبحث فيه عن تسوية أو اشتباك. لا بأس عنده. المهم أنه قادر وأنه فاعل. والحكاية بعدذاك لزوم ما لا يلزم.
في شتاء العمر، يتربع نبيه بري فوق جبل من التجارب. عرف لبنان بحرفيته ودقائقه وتفاصيله. أتقن مكامن ضعفه وقوته. وأدرك منذ نعومة أظافره أن نظامه البائس لا يحتمل الرمادية أو الدلع، وأن المكتسبات فيه لا تؤخذ بالتمني أو بحسن النيات. قاتل في الحرب كما ينبغي أن يقاتل، وحضر في السلم كما يحضر كبار رجالات السلام، ثم حط رحاله في صلب التركيبة العميقة، هناك حيث جسّد على الدوام تلك المعادلة الرشيقة، والتي بدا عبرها صلبًا لا يُكسر ولينًا لا يُعصر.
استطاعت الأزمة السورية أن تُشكل نقطة الفصل والاختبار والمفترق الأكثر حساسية وخطورة في تاريخه السياسي والشخصي والوطني، وذلك استنادًا إلى طبيعة الصراع الذي راح يتخذ بعدًا مذهبيًا شديد الدقة والتعقيد، مع ما يعنيه ذلك من انعكاس طبيعي على الساحة اللبنانية بشقيّها السني والشيعي، لا سيما عقب انخراط حزب الله العسكري إلى جانب النظام، بوجه كثرة كاثرة من الوجدان السني الذي تعاطى مع المتحركات السورية باعتبارها جزءًا مؤلمًا من جرحه المفتوح. ويُحسب هنا للرجل أنه آثر عدم الانغماس في مستنقع الفتنة والاقتتال، ورفض الانجراف نحو لعبة الدم، وأكد بالفعل والممارسة ما ظل يردده على مدى عقود حول هويته وهواه ومنتهاه.
هناك أحداث وملفات كثيرة ستظل محط نقاش واختلاف أو خلاف مع نبيه بري، لكن هناك أيضًا مروحة كبيرة جدًا من المشتركات العميقة التي شكلت ولا تزال نقطة تقاطع والتصاق مع لبنانيتنا المتجذرة وعروبتنا المجردة، وإن كنا نتفق معه في السياسة أو نختلف، لا بد أن نعترف بأنه كان وسيبقى واحدًا من أكثر السياسيين جدلاً ودهاءً وقدرةً على الفعل وعلى المبادرة، وهذا ما تجلى في مكوكية تحركاته الأخيرة، حيث بدا وكأنه المرجعية الرسمية الوحيدة التي تمتلك زمام الأمور، من ملف ترسيم الحدود وقضية قبرشمون إلى ضبط الإيقاع والتوازنات وعقد المصالحات وتشريع الأبواب أمام تغيير قانون الانتخاب، ما أعطى انطباعًا واضحًا وأكيدًا ومتجددًا حول محورية دوره وأهمية حضوره في أي معادلة سياسية أو وطنية، بعيدًا من هجمة الطامحين وضجيج المتضررين ووهم شذاذ الآفاق.
على عتبة أسابيع قليلة من الذكرى الواحدة والأربعين لخطف الإمام موسى الصدر، يقف نبيه بري وهو بكامل أناقته السياسية وحيويته الوطنية، تمامًا كما لو أنه يؤدي قسطه المستدام للعُلا، فيما يترك الإنصاف للتاريخ، الذي سيكتب يومًا أنه تقدم كل الصفوف في زمن الكبار، أما في زماننا هذا، زمن البؤس، ثمة نبيه بري وثمة آخرون.

“ليبانون ديبايت” – قاسم يوسف

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!