عن الصحافة وشهدائها.. الأموات والأحياء
لم يكن الدفاع عن حرية الصحافة أكثر الحاحاً مما هو عليه اليوم، فحرية التعبير حق إنساني أساسي، والصحافة الحرّة إحدى أدوات هذا الحق في عالم مليء بالحقائق المشوهة والأخبار المزيفة. وفوق ذلك تتزايد عمليات استهداف الصحافيين، وقوانين الرقابة، والمحاكمات والتهديدات بما يجعل من حرية التعبير في خطر.
الواقع أن الديموقراطية توأم الحرية، وهما أساسٌ في الإعلام وظيفةً ودوراً، بما أنهما يعنيان إرادة دائمةً للتجدد والإصلاح والتقدم والمشاركة، من خلال الحوار وتبادل الآراء والنقد الهادف من دون اعتبارات مسبقة وحسابات ظرفية. بهذا المعنى، يكون الاحتفال بذكرى شهداء الصحافة في كل عام مناسبة للتذكير بأن جوهر رسالة الصحافة إنما هي التعبير عن إرادة المجتمع وطموحه، وفتح الباب أمام التنوع والاختلاف في التوجهات والآراء السياسية والاقتصادية والثقافية التي تمثّل أساس مشروعية أي حكم ونظام، وقوة أي مجتمع وشعب، ذلك أن وظيفة الصحافة الأولى هي توسيع دوائر الحوار وحلقات النقاش والتفكير السياسي.
في لبنان، يبدو التاريخ يعيد نفسه، فكما عوقبوا بالشنق مطلع القرن العشرين، واجه صحافيون كثراً منذ ذلك الوقت عمليات الاغتيال والتصفية، فيما تعاني المهنة والعاملون فيها من كل أصناف المضايقات والمحاصرة والتعثرات المالية. تبدو الصحافة وكأنها تواجه عوارض احتضار، والأزمة التي تواجهها قد تكون الأخطر والأكبر عبر تاريخها وتتمثل بإغلاق عدد من كبريات الصحف اليومية، فيما تنازع الأخرى للبقاء، ما انعكس تشريداً لعشرات الزملاء الذين وجدوا فجأة أن مستقبلهم وعائلاتهم ومستقبل المهنة ككل في مهب المجهول.
الأمر ليس تفصيلاً، فما حصل مع “الصياد” و”البلد” و”المستقبل” و”الاتحاد” و”السفير” و”البيرق” و”الكفاح العربي”، يعكس أزمة الصحافة ككل، بوصفها مؤشراً لوعي الشعوب وعلامة على تفاعلها مع القضايا الكبرى ومعياراً لثقافتها وحيويتها، ويطرح فوق ذلك أسئلة مصيرية عن مستقبل المهنة، ومعها مستقبل الوعي وصناعة الرأي العام، وأيضاً مستقبل لبنان الذي عرف تاريخياً بصحافته الحرّة وصحافييه المتميزين.
يمكن الحديث عن أزمة صحافة، ورقية ومرئية، تتعلق بأسباب اقتصادية ومالية وإعلانية، وعن عصر جديد من الإعلام الرقمي والالكتروني بات يتصدر المشهد لأكثر من اعتبارٍ وسببٍ، وراحَ يهددُ عرش السلطة الرابعة، لكن كل ذلك لا يلغي من أهمية التفكير في الخروج من أزمة ذات شقين تهدد الصحافة والإعلام وتضعه أمام المجهول: الأول الاختفاء والانكفاء التدريجي للصحافة المكتوبة شيئاً فشيئاً عن المشهد الإعلامي اللبناني.
والشق الثاني: تكاثر ظواهر التهريج والعري والنميمة والخفّة والتسطيح والافتراء التي تسمى زوراً إعلاماً، وتملأ الشاشات ملوثة عقول المشاهدين من دون استئذان بعبقريات “المحللين” و”الخبراء” والعرافين والدجالين. إن التفكير في هذه الأزمات لا يساهم في تحديد الخلل الحاصل فحسب، بل يستشرف آفاقاً للحلول وولادة لشكل جديد من الصحافة الحرة، الحارسة للحقيقة، والحاملة لهموم المجتمع، والراعية لفكره ومفكريه بعيداً عن الاستبداد والابتزاز والتسطيح.
في يوم شهداء الصحافة اللبنانية، من “لبنان 24″ تحية إلى فيليب وفريد الخازنوالشيخ أحمد طبارة ورفاقهم (1916)، وإلى نسيب المتني (1958)، وكامل مروة(1966)، والنقيب رياض طه وسليم اللوزي (1980)، وإلى سمير قصير وجبران تويني (2005) وإلى لائحة شرف طويلة من ضحايا المهنة ولو من دون موت أو اغتيال. من تضحياتهم نستلهم بأن على الإعلام مراجعة مدى التزامه برسالته، إذ لا قيمة ولا وزن ولا مصداقية لرأي يظن صاحبه أن الاعتراض على كل شيء فضيلة الفضائل، أو يظن أن السكوت عن انتهاك السيادة وتعميم الفساد وتغطية السرقات حرية!! في مجتمع سياسي ديموقراطي تعددي كلبنان يتركز جزء من مسؤولية الإقرار بالمشتركات ومراكمتها على وسائل الإعلام التي تجد وظيفتها الأولى الاسهام بتوسيع دوائر الحوار، وفي مقاربة الأحداث بموضوعية ودقّة ومصداقية وأمانة، وقبل ذلك في رؤية المشكلات، واجتراح الحلول بروح من الاعتدال والوسطية، واستلهام القيم الوطنية والإرث الميثاقي العريق بين اللبنانيين، وهي القيم التي مات لأجلها وبسبب منها شهداء كبار من الصحافيين فخلّد التاريخ أسماءهم.