لبنان على شفا.. الإفلاس
يواجه لبنان أزمة مالية غير مسبوقة، وما كان يتردد همسا بات اليوم محور كل الهواجس السياسية والاقتصادية. مصادر مالية ونقدية ومصرفية واسعة الاطلاع اكدت لـ القبس ان الدولة على شفا الافلاس، وهي الآن في فترة «الريبة»، وتعريفها قانونيا «الفترة الواقعة بين تاريخ التوقف عن الدفع وتاريخ صدور حكم الإفلاس». فالدين العام 86 مليار دولار، ونسبته إلى الناتج %150، وهي ثاني أعلى نسبة في العالم، ونسبة خدمة الدين %52 وهي الأعلى في العالم. يقول الخبير الاقتصادي د. حسن خليل في حديث خاص لـ القبس ان الدين العام «المستشري كالسرطان» خرج عن السيطرة، وما تعلنه الحكومة ليس صحيحا، جازما بان الدين يفوق المئة مليار ونسبته الى الناتج %200، مستغربا تحذير رئيس الحكومة من سيناريو يوناني. لأن الوضع المالي اللبناني، برأي خليل، اسوأ باضعاف مما كانت عليه اليونان عندما انهارت. ومصادر أخرى اكدت ان مصرف لبنان يجمل الارقام احيانا، لكنه بدأ «يتعب» من الهندسات المالية غير المجدية. بالاضافة الى خدمة الدين فان رواتب 300 الف موظف في القطاع العام تساوي 110 الى %120 من جميع جبايات الدولة وإيراداتها. ويضاف الى ذلك عبء 38 مليار دولار اهدرت على مؤسسة كهرباء لبنان من دون الحصول على تغذية متواصلة. وفيما الحديث يدور عن خفض الرواتب يرى خبراء اقتصاديون ان هذا المقترح له تأثير سلبي على الاقتصاد والشارع، كما ان سيناريو خفض قيمة العملة مطروح الان على نطاق ضيق لكنه ايضا سيئ للغاية بالنسبة لعموم الشعب اللبناني، علما بأن هناك الآن سوقاً سوداء لصرف الدولار تعتبر في بداياتها والمصارف تتشدد في السحوبات والتحويلات على نحو غير مسبوق. ومن مؤشرات ما قبل الانهيار الارتفاع المطرد للفوائد ما يزيد عبء الميزانية ويفاقم عجزها في ظل فساد بالمليارات بدأ يتحدث عنه من هم في السلطة بعدما كان حديث الخبراء والناس فقط. لا صوت يعلو فوق صوت خفض العجز المالي ومكافحة الهدر والفساد في لبنان، الذي يواجه أزمة مالية لا سابق لها. وما كان يتردد همساً عن خشية من انزلاق البلاد إلى ازمة اقتصادية خطيرة – يتجنب البعض استخدام مصطلح افلاس- بات اليوم محور التحرك السياسي والاقتصادي. فمنذ عام 2005 دأب رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي النائب السابق وليد جنبلاط، وأمام كل منعطف سياسي خطير، إطلاق سؤاله الشهير: إلى أين؟. واليوم يستحضر اللبنانيون بسوادهم الأعظم سؤال جنبلاط «إلى أين؟»، ليس بفعل التحذيرات والأرقام، التي يطلقها سياسيون واقتصاديون وتبدو أحياناً عصية على الفهم فحسب، بل نتيجة واقعهم المعيوش في ظل مؤشرات خطيرة دفعت ببعض الشركات إلى الاقفال وطرد موظفيها، وببعضها الآخر الى تأخير دفع الرواتب. الأزمات السياسية المتناسلة التي عاشها لبنان منذ انتهاء الحرب الاهلية ظلت الى حد بعيد محكومة بتوازنات تمنع غلبة فريق سياسي على آخر، إلا أن الأزمة الاقتصادية الحالية غير المسبوقة لن تقتصر على فريق دون سواه، وهو ما يفسر الانخراط الجماعي لكل الكتل والأحزاب في الحرب على الفساد، وفي تقديم مقترحاتها للإسهام في تخفيض العجز المالي، ذلك ان مراكب السياسة كثيرة، اما مركب الاقتصاد فيتسع للجميع.. «إن غرق فلن يسلم أحد». لقد تفاقم الدين العام وأرقامه المعلنة غير واقعية. شارفت الخزينة على الإفلاس، وما زال القائمون على الدولة يسيئون أمانة المودعين لتمويل عجز الموازنة كما فعلوا منذ 25 سنة، وهم الآن يستبيحون الودائع من أجل تمويل ميزان المدفوعات. الدولة القائمة استباحت الحرمات، أذلّت المواطن وابتزته، حقّرت المناصب النيابية والوزارية، حالفت الصحافة، وأفسدت الإدارة العامة. الدولة القائمة دمّرت الاقتصاد في كل مرافقه، زراعة وصناعة وخدمات، فارتفعت البطالة وبات لبنان في حالة كارثية. في مقاربته لحال لبنان المالية والاقتصادية، يعتبر حقوقي لبناني ان الدولة اللبنانية هي الآن في فترة الريبة، وتعريفها قانونيا هي «الفترة الواقعة بين التاريخ الذي تحدده المحكمة للوقوف عن الدفع وتاريخ صدور حكم الإفلاس». الحركتان التجارية والسياحية تراجعتا بشكل كبير في لبنان إجراءات موجعة بدت الحكومة اللبنانية منذ تشكيلها كأنها تسابق الوقت لاقرار سلة إصلاحات تلبي رغبات المجتمع الدولي وتسهم في انقاذ وضع البلد الذي بات كأنه على شفا الافلاس، بعد سنوات من الانكار، وانصب اهتمام القوى السياسية والهيئات النقابية والاقتصادية على مناقشة خفض عجز الموازنة من %11.5 إلى %9 بحيث لا يتجاوز 5.5 مليارات دولار، وسط بروز تيارين الاول يريد لهذا الخفض أن يتم على حساب موظفي القطاع العام والانفاق الاستثماري والتشغيلي للدولة، مع عدم المس بأرباح المصارف وكبار المودعين المتأتية من خدمة الدين العام. والثاني يتجه الى تحميل القطاع المصرفي جزءًا من مسؤولية انقاذ البلاد من ازمتها. وقد ظهر هذا التعارض داخل تكتل لبنان القوي نفسه إذ أيد وزير الخارجية جبران باسيل الاتجاه الأول، في حين عارضه النائب شامل روكز الذي رفض المسَّ برواتب موظفي الدولة. ومهد رئيس الحكومة اللبنانية سعد الحريري لسياسة التقشُّف بإعلانه أن ثمة اجراءات موجعة يجب اتخاذها من اجل تفادي السيناريو اليوناني «الافلاس»، مؤكدا أن لبنان «سيواجه كارثة إذا لم تقر الحكومة موازنة قد تكون الأكثر تقشفاً في تاريخ البلاد». هذه الإجراءات المؤلمة وغير الشعبية، لم يتم التوافق عليها حتى الآن برغم الاجتماعات المالية المتكررة للحريري وممثلي الكتل النيابية، غير ان وزير المال علي حسن خليل أعدّ مشروعاً يتضمّن تخفيضات تتعلق برواتب موظفي القطاع العام بدءاً من السقوف الوسطى وصولاً الى رواتب كبار الموظفين في الهيئات والمؤسسات ومصرف لبنان وغيرها، من دون ادراجها ضمن خانة المس بالرواتب والأجور، بل بضرورة خفض كل التقديمات الإضافية (تعويضات نهاية الخدمة، الراتب التقاعدي، المنح التعليمية، والبدلات). وإلى جانب هذه الخطوة اذا ما تمت، ثمة توجّهٌ للمصارف بالاكتتاب بفوائد صفر في المئة. ورغم التعتيم الكبير على هذه الإجراءات الموجعة حتى الآن، بدأ موظفو القطاع العام، لا سيما العسكريون المتقاعدون، المتخوفون من أن يأتي خفض عجز الموازنة على حسابهم بسلسلة اعتصامات وتحركات في الشارع. لكنّ السؤال هل تكفي هذه الخطوة لإصلاح الخلل في المالية العامة؟ وما تداعيات هكذا قرار على الوضع الاقتصادي العام؟! وفقاً لعدد من الخبراء الاقتصاديين سيترك خفض الرواتب تأثيراً سلبيا في الاقتصاد، يتمثل خصوصاً باستعادة حقوق مكتسبة من الموظفين الذين عمد بعضهم إلى الاستدانة على أساس رواتب معيّنة وقاموا بمخططات طويلة الأمد مرتكزة إلى رواتبهم الجديدة. خطوات بديلة يعتبر الاقتصادي لويس حبيقة أنه يمكن للحكومة أن تلجأ الى خطوات تفي بالغرض المطلوب من خلال خفض الإنفاق من دون أن تحدث أيّ خضة في البلد مثل: وقف تمويل الجمعيات الخيرية الوهمية، وقف إيجارات مباني الدولة غير ذات الجدوى وغالبيتها تذهب كتنفيعات، خفض رواتب السياسيين ومنافعهم، إعادة النظر بالرواتب الكبيرة والمضخّمة، إعادة النظر بالتدابير الاستثنائية والمكافآت، وإعادة النظر برواتب الهيئات الناظمة، فهل يُعقل أن يتقاضى رئيس الهيئة الناظمة لهيئة البترول 25 مليوناً في حين أنّ الهيئة لم تبدأ عملها بعد؟ واضافة الى هذه الإجراءات ينادي خبراء اقتصاديون بإيقاف مزاريب الهدر الكثيرة التي تحرم الخزينة من إيرادات مهمة، منها التهرّب الضريبي الذي يحرم الخزينة حوالي 4 مليارات دولار، والتهرّب من الرسوم الجمركية والضريبة على القيمة المضافة، التهرّب من التخمين العقاري والتوظيف العشوائي، وغيرها الكثير. د. حسن خليل واقع بالغ السوء «لبنان بمعنى الافلاس التجاري غير مفلس لكنَّ ماليته في واقع بالغ السوء. فهو لا يزال بعد 25 سنة يعتمد على الودائع في المصارف لتمويل ادارة الدولة»، يقول الخبير الاقتصادي د. حسن خليل الذي يحذر منذ أشهر من سيناريو كارثي مقبل عليه لبنان. وفي حديث خاص لـ القبس يوضح خليل أن الخطة الإنقاذية المطلوبة غير ممكنة الا بتعاون كل الكتل والاحزاب لأن الدين العام «المستشري كالسرطان» خرج عن السيطرة. مضيفًا أن الشرط الاول لقيامة لبنان هو أن يستيقظ اللبنانيون من سباتهم الغارقين فيه منذ 30 عاماً. ويرى خليل ان ما تعلنه الحكومة بالنسبة الى أرقام الدين العام أي 86 مليار دولار ليس صحيحاً، جازماً انه يفوق المئة مليار اذا احتسبنا كل المتأخرات والمترتبات على الدولة. يستغرب خليل من تحذير رئيس الحكومة من سيناريو يوناني. فمهمته ليست التحذير وهو على الارجح لا يعلم حقيقة ما حدث في اليونان الذي احتفى العالم بوزير ماليتها لتحمله المسؤولية، فيما نحن لا نزال نتدارس الاجراءات التقشُّفية. ويتابع خليل أن سياسة التقشُّف التي اتبعتها اليونان وحتى بيعها لبعض الجزر لم تكن هي المنقذة علماً ان الوضع المالي اللبناني هو اسوأ بأضعاف عما كانت عليه اليونان عندما انهارت. من دون أن ننسى ان اليونان هي جزء من الاتحاد الاوروبي وعندها حد ادنى من الاقتصاد، اما لبنان فيتركز اقتصاده على طبع كتلة نقدية ورقية وهمية من دون مرجعية اقتصادية ويعيش على دعوة مغتربيه لتحويل اموالهم الى لبنان. ويتابع «نحن نعيش في قلعة من رمل قد تنهار عند اول زخة مطر». نتيجة ذلك، يرى خليل ان اي اجراءات تقشفية من دون حكومة شجاعة تواجه بالدرجة الاولى الدين العام وتعمل على تخفيضه، وتوقف مزاريب الهدر بالدولة من اوجيرو الى الاتصالات الى مجالس الانماء والاعمار الى الاشغال، ستكون بمنزلة مسارا ترقيعيا وليس خطة انقاذية جذرية. نداء إلى المسؤولين الماليين وتوجه خليل بنداء الى كل من رئيسي الجمهورية والحكومة وإلى وزير المالية وحاكم مصرف لبنان ليضربوا بيدهم على الطاولة. فقد يكون تقييم وزير المالية للوضع الاقتصادي صحيحاً لكنه على رأس الوزارة منذ خمس سنوات، فهل ننتظر خمس سنوات اخرى ليكتشف ان خدمة الدين العام مع رواتب واجور التقاعد اصبحت تعادل 110 الى 120 في المئة من كل جبايات الدولة، يتساءل خليل. اما وزير المال فيدعوه الى إجراء نقلة نوعية في مقاربته للامور، فحركة أمل التي ينتمي اليها الوزير كان لها دور لا يستهان به في التوظيف العشوائي في السنوات الاخيرة كما ان الموازنات كلها اقرت في المجلس النيابي وهي التي اوصلتنا الى 120 مليار دولار ديناً. وقال خليل: «يدعون ان نسبة الدين على الناتج القومي هي 150 في المئة، وانا اعلم أنها تتتخطى الـ200 في المئة، ما يجعلها اعلى نسبة في العالم، ومن المعيب مقارنتنا باليابان التي تتخطى ارقامنا». وإلى حاكم المصرف المركزي يقول خليل لم تعد تنفع المكابرة، مؤكداً حرصه على البنك المركزي والقطاع المصرفي اللذين يعتبرهما خط الدفاع الأخير للأمن المالي والاجتماعي. إعادة النظر بالسياسة المتبعة سياسة الفوائد هي الركيزة الاساسية اليوم للاقتصاد والمطلوب قرارات شجاعة «عدم اجبار المصارف على وضع فائدة صفر في المئة على مبالغ بالمليارات لأن هذا الاجراء قد ينفع لسنة واحدة لكن ماذا بعد؟ هل سيطلب من المصارف ايقاف دفع الفوائد للمودعين وتسليف الدولة صفراً في المئة؟ يجزم خليل أن لبنان آخر جرعة أكسجين لديه هي المحافظة على الثقة التي يتمتع بها لمنع خروج الودائع منه. وزير المالية يفضح المستور كشف وزير المال علي حسن خليل قبل أيام حقائق ترقى إلى مرتبة الفضائح عن رواتب خيالية في القطاع العام التي وضعها في خانة الهدر، منها على سبيل المثال أن بعض موظفي الفئة الأولى (مديرين عامين) في إدارات الدولة يتقاضون رواتب وتعويضات واستفادات تصل إلى حدود الـ50 مليون ليرة شهرياً (10 آلاف دينار كويتي). ومما كشفه أيضاً أن كل مدير عام يتقاضى ثمن كل اجتماع لجنة يشارك فيها، رغم أن حضور الاجتماعات من مهامه. وتطرق وزير المال أيضاً إلى رواتب النواب، فكشف أن بعضهم يتقاضى أكثر من راتب من الدولة، راتبهم من النيابة، وراتبهم التقاعدي من المؤسسات العسكرية، (مثلاً اللواء جميل السيد والجنرال شامل روكز يتقاضيان راتباً تقاعدياً، وراتباً بصفتهما نائبين). ويعتبر راتب النائب اللبناني من الأعلى في العالم قياساً بالحد الأدنى للأجور، فيما يصل مجمل رواتب الرؤساء والنواب السابقين إلى 58 مليار ليرة سنوياً. 120 موظفاً ويتقاضى 120 موظفاً رواتب تفوق رواتب النواب، ويُعتبر حاكم مصرف لبنان الموظف الذي يتقاضى أعلى راتب، يبلغ شهريا 26 ألفاً و600 دولار أميركي، كما أن سنته المالية 16 شهراً.
القبس