لبنانيّو فنزويلا… أين يقفون مما يجري في البلد الذي احتضنهم منذ أكثر من 150 عاماً؟
تفصل كراكاس عن بيروت مسافة 10452 كلم مسطح… في رمزية أشعرت اللبنانيين المتواجدين في فنزويلا منذ 157 سنة أنهم لم يغادروا بلدهم الصغير أبداً، حتى أنهم تفاعلوا وانغمسوا و عاشوا شؤون فنزويلا وشجونها، وذادوا عنها و انبروا للدفاع عن مصالحها في كثير من محطات تاريخها الطويل، كما لو أنهم أحفاد سيمون بوليفر، محررها، وفرانسيسكو دي ميراندا، ملهمها.
إحدى أهم تلك المحطات التاريخية، هي صباح الثالث والعشرين من كانون الثاني لعام 1958، عندما أسقطت المظاهرات الشعبية المتكررة نظام الحكم العسكري المتطرف، بقيادة الجنرال ماركو بيريس هيمينيس .
يومها، لعبت بعض العائلات اللبنانية أدواراً رائدة في ذلك الحدث الجلل في حياة فنزويلا. فمنهم من اصطفّ مع المعارضة الشعبية ضد النظام، كعائلة “ضو” من بدادون و”ضاهر” و”حبيقة” من بسكنتا، ومنهم من آثر البقاء داعماً للنظام كعائلة “هوا” من ساحل كسروان وعائلة “السوقي” من الشوف، في مشهدية تظهر مدى تفاعل اللبنانيين و انغماسهم – كلٌّ بحسب قناعاته – في حياة بلدان غربتهم.
ها هو التاريخ يعيد نفسه، وها هم اللبنانيون يظهرون أيضاً وأيضاً على طرفيْ المشهد السياسي الفنزولي بكل تفاصيله وتشعباته. فنرى الوزراء والنواب والمسؤولين الأمنيين من أصول لبنانية، يواكبون الرئيس الاشتراكي نيكولاس مادورو وينتصبون جاهزين للدفاع عنه ضد “الاستعمار و أدواته”، داعمين خطابهم هذا بمحطات سابقة يستحضرونها اليوم، لمواقف كان اتخذها نظام فنزويلا في زمن الزعيم الراحل هوفو تشافيز، لمؤازرة قضايا العرب المحورية ، عندما كان العرب أنفسهم يتقاعسون .
في المقابل نرى نواباً معارضين وزعماء ذات حيثيات شعبية مهمة، من رجال اعمال وناشطين اجتماعيين، كلهم يقفون بثبات – على نقيض مواطنيهم – ضد النظام الذي يرون أنه “أثبت فشله الذريع، حتى أنه وقع في محظور المواجهة مع المجتمع الدولي”…
هكذا هم لبنانيو فنزويلا. صفاء وعفوية في تعاملهم مع قضايا هذا البلد، لدرجة المواجهة .
أما ما يميّز هذه المرحلة عن سابقاتها – والتي لم يفطن لها اللبنانيون أو لم يتنبّهوا لحساسيتها – فهي مخافة أن يعيد التاريخ نفسه، بحيث قد تأتي ردات فعل شعبية قاسية وجائرة ضد اللبنانيين الداعمين لنظام الحكم الحالي في كراكاس، تماماً كما حصل بحق أبناء الجالية الإيطالية في فنزويلا في الأيام التي تلت الإطاحة بالجنرال هيمينيس بداية العام ١٩٥٨، عندما لاحقتهم الجموع الشعبية وانتقمت منهم لوقوفهم الى جانب النظام الذي “احتجز قرارهم” .
إن الذاكرة الشعبية في فنزويلا اليوم لا ترى بمجمل العرب القاطنين على أرضها، إلا مجموعة من الناس الذين وقفوا ضدهم في معاناتهم الطويلة وهم شركاء للنظام الاشتراكي، الذي أوصل البلاد إلى هذا القعر. وذلك بالرغم من بروز العديد من الأسماء العربية عند مفارق كثيرة من عمر الأزمة، في واجهة النضال ضد النظام. و قد يكون آخرها ما قامت به مجموعة فنزويليين من أصول لبنانية قبل يومين عند قاعدة تمثال الشهداء في وسط بيروت، بمبادرة من الطبيب اللبناني الفنزويلي لورنسو سعد، الذي ما زال يصارع ويقارع نظام الحكم في فنزويلا منذ وصوله الى السلطة عام 1999، أو اعتصام فانكوفر – كندا الذي نُظم بمبادرة من الناشط الاجتماعي اللبناني الكندي محمد مرعي، الذي كان خسر ابنه شهيداً في مواجهة النظام. ويشدد مرعي “أنه لا بد للتاريخ أن ينصفنا، فصراعنا الطويل مع نظام هوغو تشافيز قد كلفنا الغالي والنفيس، ولا زلنا ندفع”…
تحرك الجالية الفنزويلية – اللبنانية في بيروت – كما في فانكوفر – يأتي بمثابة بصيص نور في آخر النفق، علّه يفلح بتغيير المزاج الشعبي الفنزويلي و بالتالي تجنّب اللبنانيين مواجهة خاسرة لا محالة، في ممتلكاتهم و مقتنياتهم، ولربما في وجودهم بالذات على أرض أحبوها وأخلصوا لها بدون تزلّف.
وعن تحرك بيروت، يقول الدكتور لورنسو سعد إن “قدر اللبنانيين المحتوم أن يدافعوا عن الحق والحقيقة أينما وجدوا، فحين كان لبنان يرزح تحت وزر الحروب، كنا نتحرك من كراكاس لدعم بلدنا الأم، وها نحن اليوم من بيروت – وبعيداً عن الضجيج والصخب – نتحرك لدعم وطننا فنزويلا وهو يرزح تحت حكم جائر أقل ما يقال فيه أنه حفيد الأنظمة الشيوعية الفاشلة”.
ويشدد سعد، وهو خريج الجامعة الوطنية الفنزولية، أنه ورفاقه في بيروت يحاولون قلب المفاهيم السائدة عند القاعدة الشعبية بأن العرب – كل العرب – هم مناصرون للحكم في كراكاس.
وأثناء التجمع في ساحة الشهداء في بيروت، رفع المشاركون الأعلام الفنزويلية واللبنانية مطلقين شعارات تطالب بالحرية للشعب الفنزويليوبرفض حكم مادورو ودعمهم فخوان غوايدو، مؤكدين تضامنهم مع الشعب الفنزويلي الذي نزل إلى الشارع للمطالبة بالحياة الكريمة.
فنزويلا تتأرجح اليوم بين صراعات الكبار على أرضها. وقد بانت رياح التغيير آتية من شمال القارة الأميركية، حيث العيون شاخصة على الموارد الهائلة للجمهورية البوليفارية.
أما مصالح الشرق الأقصى وإيران، فحدث ولا حرج. كيف لا وفنزويلا تحتوي على أكبر احتياط نفطي في العالم، وثروات مائية ومعدنية وخشبية لا تقدر بثمن – من الأورانيوم إلى الذهب والفحم الحجري وألومينيوم… ناهيك عن موقع البلد الجغرافي المتميز بطقس رائع على مدار السنة. ما يجعل منها وجهة سياحية عالمية بدون منازع.
هذه الدولة ذاتها تجهد اليوم للملمة وجعها وإعادة تألقها، تماماً كما يريدها لبنانيو وسط بيروت وفانكوفر وكثيرون من أمثالهم حول العالم…
بقلم: ميشال عساف – رئيس المجلس الوطني سابقاً للجامعة اللبنانية الثقافية في فنزويلا
(المصدر جبلنا ماغازين)