رحل ألمعلم كامل: آخر «معمرجي» في وادي الــتيم
غادر كامل الحداد (80 عاماً) مقاعد الدراسة وهو في الثانية عشرة من عمره ليلتحق بوالده سليم، شيخ البنائين الأكثر شهرة في منطقة وادي التيم والعرقوب. تدرّج الفتى في «كار العمار» ليصبح معلّماً في الثامنة عشرة حيث بنى أول منزل في حاصبيا عام 1950. يصف المعلّم كامل عمله «بمهنة الأشغال الشاقة» بعدما أكلت ضربات «الشاقوف» راحتي يديه وقوّست ضربات «المهدّة» ظهره. يفخر أبو سليم بأنّه لا يزال يحمل الحجارة ويرصّها مداميك بعضها فوق بعض لتعلو أبنية شامخة. وهو يسخر من حجارة المناشير الكهربائية الحديثة واصفاً إياها بـ«بسكويت الحجارة» نظراً للفارق الكبير بينها وبين الحجارة المكعبة الشكل التي تراجع اعتمادها في البناء بسبب تراجع عدد «المعلمين» المتخصصين في بنائها.
تكلفة هذه الحجارة المرتفعة وندرة وجودها حالا، في رأيه، دون إقبال الزبائن ما عدا فئة قليلة لا تزال تقدّر قيمة الحجر الصلب. يبدو المعلّم كامل واثقاً من «أنّ المهنة تتجه نحو الانقراض في منطقتنا وفي كل لبنان، وربما تنتهي مع مغادرتي هذه الدنيا». يقول: «كان في حاصبيا وقراها أكثر من 20 معلّماً، قضوا جميعاً وبقيتُ وحدي. معظم هؤلاء من عائلات الحاوي، الخوري، أبو جمرة، أبو غيدا ورعد».
لكن لماذا ستزول هذه المهنة؟ المعلم كامل، على الأقل، يرى أنّ السبب يكمن في عدم قدرة شباب اليوم «النايلون» كما يصفهم على تحمّل مشقات البناء. ويضيف إلى ذلك المناشير الحديثة ومعامل صب الحجارة والسرعة في إنتاج كميات كبيرة منها وندرة اليد العاملة، إضافة إلى تفاوت الأسعار بين الحجارة المقصبة يدوياً وحجارة المقالع والمناشير. كل هذه العوامل تغذي تشاؤمه حيال مهنة أحبها رغم قساوتها.
زبائن أبي سليم كثر، غالبيّتهم من قرى حاصبيا والعرقوب ومرجعيون وراشيا الوادي، «الزعلان منهم أكثر من الراضي». يضيف: «انّ أجرة بناء المتر المربع الواحد هي 70 دولاراً، وما بتوفي معنا لأن أجرة العامل اليومي وتكلفة النقليات ومتطلبات الحياة ارتفعت واختلفت عن الماضي». ومع ذلك يعمل بحماسة ويحب مهنته رغم بلوغه خريف العمر، يعاونه عاملان وأحياناً يكون وحيداً، «لأنو جيل اليوم من دون مروّة يحب النوم وبدو كل شي لقدامو».
يعتز المعلم كامل بأنه حمل حجر القنطرة زنة 150 كيلوغراماً وهو في سن الـ21، وتزوج حين كان في التاسعة والعشرين وأنجب خمس بنات. يعيش الرجل حياة تخضع لبرنامج رسمه لنفسه واعتمده منذ سنوات: قبل الظهر في العمل والغداء في البيت حيث يعتمد نظاماً غذائياً يقوم على تناول الحبوب في معظم الوجبات. ويشير إلى أن «البرغل مسامير الركب». يشرب الكحول بانتظام لأن «الكاس بدو مقومات وأجواء، لم يدخن يوماً كما أنه لم يعرف النارجيلة، ما يساعده في الإمعان دقاً ونحتاً وتقصيباً». يقول إنّ ضربات شاقوفه الفولاذي تصدر رنيناً موسيقياً ألفته أذناه منذ طفولته، وهذه متعة تزيده حماسةً واندفاعاً في عمله. يساعد المعلم كامل زوجته في أوقات فراغه وهذا يمحو تعب النهار، على حد تعبيره، مشيراً إلى أن خمس ساعات من النوم تكفيه لتجديد نشاطه ليوم عمل جديد.
لا يزال المعلم كامل يواظب على النهوض في الخامسة صباحاً: «الشغل بكّير أفضل بكتير وكل ساعة عمل صباحية بتساوي ثلاث ساعات في بحر النهار»، يقول البنّاء النشيط «الأقسى من الصوان»، كما يصف نفسه. ويستمتع في الحديث عن استخدامه الحجر الصخري القديم «المحفور في تاريخ البيت اللبناني، وخصوصاً في البلدات والقرى الجبلية المختلفة». ويكاد يكون لكل منطقة صخرها المتميز بقساوته المتفاوتة وألوانه المتعددة. بعض البلدات لم تستغنِ عن هذا الحجر في قطاع البناء، وإن بنسبة أقل من العقود الماضية، حين كان الحجر المُعد للبناء ينحت باليد. أما اليوم فحلّ «الكومبراسور» مكان اليد العاملة وبات بإمكان أي شخص استخدام حجر المنشار، كما يسميه، المعتمد حالياً في أعمال الديكور إذا توافرت لديه «العدّة» اللازمة.
لكن هذا لا يعني أن البناء الحجري يغيب عن القصور في المدن والضواحي، وما يساعد في ذلك طبيعته الصخرية المتنوعة، حتى أنّ بعض المناطق تمثّل «غابات» من الصخور الرائعة الأشكال والأحجام والألوان يمكن استثمارها والاستفادة منها ضمن مخطّط توجيهي يراعي الحفاظ على الشروط البيئية، كما يقول الناشطون البيئيون.
يسخر المعلّم كامل من استخدام «بسكويت الحجارة»
حمل حجر القنطرة الذي يزن 150 كيلوغراماً وهو في سن الـ21
يعود الرجل الثمانيني بالذاكرة إلى بداية تعلّمه مهنة التقصيب. يومها، كان ثمن الحجر لا يتجاوز الربع ليرة لبنانية وأجرة بناء المتر منه ليرة وربعاً و«كنا نبني في اليوم الواحد نحو أربعة أمتار». يعدّد أنواع الحجارة التي «لا يعرفها سوى المعلم الماهر»، ومنها الحجر الجوي، البري، الملّيس، الصوان، الكدان.
لا يكتشف قوة الحجر، كما يقول، سوى شاقوف القصّاب. أما استخراج الحجارة فلا يكون إلا من المقلع حيث الطبقات الصخرية المتراصة التي تُحفَر بدقة بواسطة معدات يدوية بدائية مثل الإسفين، «المهدّة» واللغم. ويروي «المعمرجي» أنّه كان يضطر في بعض الحالات لاستخدام الديناميت. هنا يشرح كيف كان يقطع 40 إلى 50 حجراً يومياً، وينقلها إلى موقع العمل إما على ظهره بعد أن يربطها بحبل صغير ومتين لتثبيتها أو يستعين بظهور الجمال قبل أن يعمد إلى تقصيبها وإعدادها للبناء بواسطة «عدّة» متكاملة تبدأ بالشاقوف والترتبيك والشاحوطة وصولاً إلى المطبة والميزان والزاوية والبلبل.
لم تكن مادة الإسمنت أساس في البناء، كما يقول، «كون الحجارة قوية ومترابطة بعضها مع بعض، وهذا يظهر في القناطر المعلقة والعقود الحجرية الموجودة في الكنائس والمساجد».
المعلم كامل هو آخر «معمرجي» في منطقة وادي التيم، يعتمد في عمله منذ نحو 70 عاماً على الميزان والبلبل والخيط، لذا نجح في مهنته وأتى عمله في غاية الدقة، أساسات متينة، مداميك مستوية خالية من العيوب، قناطر وعقود تتحمّل أوزاناً وضغوطاً كبيرة. النتيجة بناء متين صلب شامخ رغم جنون العواصف، لذا ينصح السياسيين باستخدام الميزان والبلبل والخيط ليكون البلد على غرار المنازل التي يبنيها.
حسنة الإسمنت المسلّح
مع أنّ المعلّم كامل الحداد يتغنى بجمال الحجر الصخري بقسوته المتفاوتة وألوانه المتعددة، يعتقد أنّ هذا الحجر ضعيف أمام الزلازل والهزات الأرضية، على عكس الإسمنت المسلّح الذي
لديه قدرة أكثر على المقاومة، نظراً لأنّه يربط المداميك بإحكام
.