لبنان والموارنة والصيغة
بقدر ما لذّني مقال سمير عطاالله في “النهار” عن “البروتستانت “، بقدر ما ازددت ضيقاً حين قرأتُ مقالته “مرة أخرى: النزاع الماروني”، ازددتُ ضيقاً بساسة ورثوا إرثاً أثبتوا أنهم ليسوا أهلاً له، لا ذاكرةً ولا جدارةً ولا أخلاقاً، يعبثون به على حساب اللبنانيين. فإن كانت المنافسة الشريفة عنصراً صحّياً، فالجشع في السلطة هو شراهة تفسد المائدة وتتسبّب في تخمة وغثيان.
إنّ أحداً لا يشك في دور الكنيسة المارونية في تكوين لبنان الحديث والتمسّك برسمه في حدوده القائمة. فمن البطريرك بولس مسعد منذ بدايات المتصرّفية إلى البطريرك الحويّك في مؤتمر باريس عقب الحرب العالمية الأولى، وفضل الكنيسة راسخ (وكذلك فضل المهجر اللبناني) في ولادة الكيان اللبناني. ولبنان، بدون تبجّح، ومع كل أزماته، ظلّ قيمة مضافة من حيث هويته المتنوّعة ودور المسيحيين فيه وطموحه إلى التمدّن، في مشرق لا تزال تعتريه ثقافة البطش وأصوليّات اللون الواحد. غير أنّ التنافس، لا بل التناحر، بين السياسيين الموارنة على المنصب الرئاسي ليس حديث العهد. فمبارزة اميل اده وبشارة الخوري المتكرّرة ما كانت غير بداية لطور دام مع معركة كميل شمعون ضد الشيخ بشارة، ثم ما لبث أن ازداد شدّةً في الحلف الثلاثي ضد الرئيس شهاب، وعداء الرئيس شمعون المستفيض لخلفه. فربّما اختلفت الأوزان بين الموارنة الحاليّين وأسلافهم السياسيين، إلّا أن الأذيّة اليوم بلبنان جرّاء طموح بعضٍ من هؤلاء باتت أكثر خطورةً لركاكة المؤسسات، وتضاؤل وزن المسيحيّين، وشراسة الصراع بين دول الإقليم وخطر دخولها المستدام على لبنان عبر الشِباك الطائفي. فإن كان سوء التقدير لدى بعض اللبنانيين، أو تهوّرهم، قد يعرّض جميع اللبنانيين لخطر جليّ، فلِسِواهم من اللبنانيين الحق، على أنهم شركاء في الوطن، لا بل لديهم المسؤولية، في “التحكيم” لدرء الخطر. فالأمر ليس محصوراً بمنافسة مستميتة بين سياسيين موارنة فحسب، إنّما يشتمل أيضاً، فيما يشتمل عليه من مخاطر، وضعية حزب الله العسكرية، على سبيل المثال، وإقحامه لبنان في منظومة لا شأن للبنانيين فيها، هذا إن خرجوا منها سالمين. وإن كان لا بدّ من “تحكيم”، فالمرجعية واحدة، يُفترض أن تنبثق من الدستور والسابقة التاريخية.
ففي مقالته، يدعو سمير عطاالله (مكرهاً)، من أجل معالجة “صراع الموارنة المرضي”، “أن تبقى الرئاسة في لبنان للمسيحيين وتُنزع من الموارنة.” فسأذهب إلى أبعد من ذلك، لا لأستفزّ أحداً، إنّما لأجد حكمة في الدستور على سبيل الحلّ. فالدستور لا يشير، كما هو معلوم، إلى طائفة الرئاسات الثلاث، ولا علاقة لموادّه بالطوائف عموماً، ما خلا جعل المناصفة في التمثيل، بعد تعديلات الطائف، بين المسيحيين والمسلمين قانوناً (المادة 95) موقتاً إلى حين. فإنّ أحداً لو اعترض على “لا طائفية” الدستور متذرّعاً بـ “العرف” السياسي الذي حدّد مذاهب الرئاسات الثلاث، نذكّره بأن رئيس الجمهورية سبق له أن كان غير ماروني (شارل دبّاس، بترو طراد، أيوب ثابت)، وكذلك رئيس مجلس النواب غير شيعي (من داود عمّون إلى حبيب أبي شهلا، مروراً بالشيخ محمد الجسر)، ورئيس الوزراء غير سنّي (من أوغست أديب باشا، وبشارة الخوري إلى الفرد نقاش وسواهم).
هذا بالنسبة إلى “العرف”. وأمّا بالنسبة إلى رئاسة الجمهورية، معقل التنافس الماروني ونهايته، وقد كثر الحديث مؤخّراً عن “حصّة” الرئيس في سياق لا متناهٍ لتأليف الحكومة، فلا “حصّة” حكومية للرئيس في الصلاحيات ولا في الأعراف فوق ما نصّ عليه الدستور. وإن كان من تذمّر من انتقال بعض الصلاحيات، مع الطائف، من الرئاسة الأولى إلى مجلس الوزراء أو إلى رئاسة مجلس النواب، فاللوم، إن كان ثمّة من لوم، فهو إنما يقع على ما نصّ عليه الدستور: “لبنان جمهورية ديمقراطية برلمانية” (الفقرة “ج” من المقدّمة). فالدستور لا ينصّ على نظام رئاسيّ. وهذا لا ينتقص من مقام الرئيس.
ومع ذلك، إن لم تكن هذه الصلاحيات كافية للطّامحين الموارنة في الرئاسة، فلا بأس في هذه الحال أن يتنافسوا على الرئاسات الثلاث معاً، هم وغيرهم من الطوائف على حدّ سواء، فيتناوبون عليها مداورةً. لقد خدم النظام الطائفي “عسكريته” أطول ممّا كان مفترضاً، رغم صيغة جامدة وبيئة متحوّلة. وحان لنا أن ننتقل إلى إطار لا يستثني أحداً (لِمَ لا يحق لصاحب هذا النص، على سبيل المثال، ومن هو أفضل منه، أن يتبوّأ أيّاً من الرئاسات، والدستور قد ضمن أنّ “كل اللبنانيين سواء لدى القانون” (المادة 7)؟). ففي حين يتكرّر الكلام، من وقت إلى آخر، على “المثالثة”، نسأل لمَ لا المرابعة أوالمخامسة.
والأجدر إنّما هو الانتقال من الوتيرة المذهبية في المطالب نحو ما لحظه الدستور في إلغاء الطائفية (المادة 95)، ولو استلزم ذلك مرحلياً، أو بشكل دائم، مداورة في المناصب يَطْمئِنّ إليها اللبنانيّون، وتجنّبهم أزمات صيغة قد تحجّرت
فادي تويني – حوار نيوز