عدد قناطر البيوت اللبنانية “مفردة”.. والأسباب ذكورية
“حدا يجاوبني ليش (لماذا) البيوت اللبنانية القديمة دايماً كان عدد قناطرها مفرد، يا 3 قناطر أو 5 أو 7 أو 9، بلاحظ هالشي (هذا الشيء) من مدة بس ما عندي جواب”، تغريدة من شارل كوكباني، تفتح فصولاً من تاريخ العمارة في لبنان، وبيوتها ذات الأقواس، والتي دار تحت قناطرها الكلام في السياسة والحب والأدب والحرب وأصوات الباعة، وبقيت شاهدة على ما تبقى من شواهد؛ أشكال وألوان وأنفاس.
في حديث للمهندس المعماري والمتخصص في أعمال الترميم أنطوان لحّود يجيب عن سؤال “لماذا القناطر مفردة وغير مزدوجة؟، وما إذا كان لهذا إيحاء ما؟”، يقول إنها “نوع من الذكورية في التوريث، وفي البيت، وموجودة حتى في الهندسة”. فالرجل كان ينتظر مولوده الذكر لتوريث اسم البيت للعائلة، وكان هنالك تقليد حتى خارج لبنان أنه حين تقوم العائلة بأخذ صورة تذكارية فلا يتم التقاطها في الدار أو في غرفة النوم بل ضمن القناطر، ودائماً يجلس رب العائلة الأكبر سناً في القنطرة الوسطى، ولتمييز القنطرة الوسطى فلا يمكن إقامة قنطرة وسطى في أربعة قناطر، يجب أن تكون مفردة، فالقنطرة الوسطى هي التي تميّز رب العائلة الذي يجلس تحتها ويفضّل أن يكون ابنه الكبير إلى جانبه.
دُمرت الكثير من بيوت القناطر ذات القيمة الجمالية العالية، وبقي القليل منها عُرضة للخراب، وآخر قيد الاستعمال، إذ أن الطبقة الميسورة غالباً ما تبحث عن بيت تراثي قديم لشرائه وترميمه كدليل على تقديرها لعراقة الماضي وسحر التاريخ، إلا أن السياسة العامة لحمایته ما تزال غائبة. يعلق فوزي يمامني “اليوم نعيش في بيوت من ورق مفتوحة على عطش ﻻ يرتوي”.
مزج واقتباس
جاءت هندسة البيت اللبناني نتاج تفاعل حضاري بين سكان المنطقة الأصليين، وبين حضارات الشعوب التي كان لها دور فيه خلال مراحل متعاقبة من التاريخ. في دراسة أعدتها المعمارية اللبنانية سمر مكي حيدر عن أبرز المراحل التي مرّ بها البيت اللبناني، أشارت أولاً إلى البيت الكنعاني الفينيقي ما قبل الألف الثالث قبل الميلاد، الذي كان مستطيلاً قليل العرض والارتفاع، جدرانه مبنية من حجارة جُمعت عشوائياً، ثم في مرحلة لاحقة حصل تطور آخر في البيت اللبناني، تمثل بالتأثير المملوكي، وظهر ما يسمى بـ”الخان” الذي شاع في لبنان وتجذّر عميقاً في عمارته، وانبثق من هذا الطراز البيت الذي يتضمن رواقاً مسقوفاَ على واجهته قناطر.
مع قيام الإمارة المعنية (إحدى السلالات التي حكمت مناطق واسعة من لبنان) في القرن السادس عشر، تأثر البيت اللبناني بالفن المعماري التوسكاني كنتيجة للانفتاح على الحضارة الإيطالية، فظهر البيت ذو الأقواس الثلاث بدلاً من القنطرة الواحدة. واستمر هذا الطراز حتى القرن التاسع عشر، ومع وصول الأمير بشير الثاني الشهابي إلى سدة الحكم، أضيف القرميد المستورد من مرسيليا في فرنسا، وترسخت صورة هذا البيت في مخيلة الناس حتى بات يرمز إلى البيت اللبناني.
في نهاية القرن التاسع عشر، ومطلع القرن العشرين، وعلى خطٍ موازٍ مع بيت القرميد، ظهرت عناصر زخرفية تحت تأثير المرحلة العثمانية المتأخرة من جهة، والكلاسيكية المحدثة على مستوى الواجهة من جهة أخرى، وتألف هذا الصنف من البيوت من عدّة غرف سكنية متمحورة حول قاعة وسطية كبرى أو بهو وسطي. وواجهة تحمل ثلاثة أقواس مزججة ومزخرفة تطلّ على شرفة ضيقة تؤدي بدورها الى الحدیقة، أو إلى الشارع أو تطلّ على المشاهد الطبيعية المحيطة.
وبحسب منشور روبي أحمد عبر صفحتها في “فايسبوك” ما نراه هو القناطر والتي تشكل تاريخاً فاصلاً بين مرحلتين ونقلة نوعية في تاريخ العمارة “في مشغرة مثلاً (إحدى قرى شرق جبل لبنان) كان الأهم هو التصميم الإنشائي للواجهة الأمامية، حيث كانوا يقومون بخلط الطين بنشارة الفخار المدقوق وبعد النخل يستعمل في صقل الجدار وذلك بعد التطيين فيمنع نش الماء ثم يتم استعمال الكلس في تبيض الجدران”، فالخلطة المستعملة كمواد إنشائية هي من هوية وتاريخ بيوت القناطر بل العنصر الجمالي التراثي، وفوق أعمدة نحيلة كان القوس الثلاثي يجمع ما بين النافذة والباب والممرات.
ولم يغب أيضاً تأثير الانتداب الفرنسي في الربع الثاني من القرن العشرين الذي شارك في تشكيل هوية البيت اللبناني. تشارك إيلاف الريش في موقع “تويتر” صوراً لأقواس تحدد بشدة مظهر العمارة اللبنانية، أشكال؛ أصيلة، معاكسة وزخرفية، وتغرد “القناطر في البيوت اللبنانية القديمة، بواباتٌ للضياء”، وتشاركها المستخدمة أشواق في وصف جمالية هذه النوافذ المشرّعة على السماء، وتشبّه منظر أشعة الشمس الداخل إلى البيت منها بـ “الفتنة”.
ليست استنساخاً
لا يعني أن عمارة البيت اللبناني كانت مجرد استنساخ من الحضارات المتعاقبة على أرضه. بحسب ما يذكر نقيب المهندسين اللبنانيين السابق عصام سلام في كتابه “الإعمار والمصلحة العامة في العمارة والمدينة”، حيث يقول “الأسلوب المعماري اللبناني في الماضي كان واضحاً وصريحاً، حيث أوجد مخططاً للبيت وأصبح اتّباعه فريضة”. استُعمل الحجر الصلب للبناء باتقان فأعطاه روحاً خاصة، وتم الاقتباس ما دخل على لبنان بواسطة التجارة والعلاقات مع البلدان الغربية من البحر المتوسط، ومزجوا بما ورثوه عن الفن العربي، وأوجدوا بذلك أسلوباً لبنانياً انتشر استعماله عند جميع الطبقات.