عولمة الإسلام.. نبوءة كاتب فرنسي بظهور تنظيم الدولة وإخفاقه
مأزق سؤال: هل هذا الذي كنا نريده؟
تتأسس هذه الدراسة على فرضية أساسية، مفادها أن ما يسميه الكاتب “حركات الإسلام الحركي”، أي الحركات والأحزاب التي تتخذ من الإسلام منهلا لجهازها المفاهيمي، باتت صاحبة بعد قومي قطري، ليحل مفهوم الشعب محل مفهوم الأمة، ويتحول الفاعلون فيها من دعاة إلى سياسيين، بما في هذه الخطوة، من خطورة تغليب المقدس على السياسي المدنس، وهو ما يجزم به الكاتب، عندما يلاحظ أن الأهمية التي أولاها الإسلاميون للدولة قللت من شأن الدين، على اعتبار أن النشاط السياسي، يولد التنازلات والتساهل وممارسات التسوية للسلطة.
وضع دفع حسب الكاتب، عددا من قادة الإسلاميين، إلى طرح السؤال هل هذا الذي كنا نريده؟ سواء تعلق الأمر بالثمن الذي يجب دفعه أم على صعيد تقييم النظام النهائي، الذي وجد الإسلاميون أنفسهم مضطرين للتعامل معه، في مصر وسوريا وغيرها من الأقطار؟ سؤال مازال قائما إلى يومنا هذا، بل ربما زادت أحداث الربيع العربي وما تعرض له الإسلاميون صعود سرعان ما تحول إلى مأساة على يد ما سمي بمعسكر الثورات المضادة.
مسالك الإسلاميين
هذا السؤال المأزق، جعل الظاهرة الإسلامية أو الإسلاموية، بتعبير أوليفييه روا، تسلك ثلاثة مسالك، الأول يسعى إلى تحرير الدين من السياسة، ويرى في الأخيرة إساءة للعقيدة، ويرى هذا التيار أو انفتاح التدين هو السبيل إلى انعتاق الدين من عباءة السياسة، أما التيار الثاني، يرى أن الإسلام خسر طابعه العالمي، بسبب الثورة الإيرانية، التي أظهرت ما يسمى “الثورة الإسلامية” تصلح لإيران دون غيرها من الدول، وهكذا بات لزاما للفاعل الإسلامي التحرك وفق، منظور قطري قومي، في حدود بلاده، لولا أن هذا الوضع يولد حالة من التناقض، فمن جهة يقول الكاتب إن الإسلاموية فشلت في تطبيق مشروع الدولة، ومن جهة أخرى تشهد المجتمعات الإسلامية عودة الإسلام، أي تزايد الإقبال على الممارسات الفردية للإسلام، والاهتمام بمظاهره، وهو ما يسميه الكاتب عودة الأسلمة المحافظة، التي تهتم بالمظاهر، وهي مغايرة للإسلام الحركي صاحب المشروع السياسي، والإسلام الرسمي، الذي يمكن الدولة من إحكام السيطرة على تطور الدعوة الإسلامية.
هذه العودة للإسلام المحافظ، أي الإسلام المرتبط بالفرد المنفصل عن الجماعة، وبحرصه على الشكل الخارجي (الأزياء، اللحى…)، تكتسي أهمية بالغة، فهي التي ستكون مؤسسة للتيار الثالث وهو “الإسلام المعولم” عوض الإسلام العالمي، والذي يمكن اعتباره، وقود الأمة الوهمية عبر الانترنت، بعد أن بات مفهوم الأمة في الواقع صعب المنال، بل هو مستحيل التحقيق، حسب رؤية الكاتب.
إسلام غربي
يرى الأنثروبولوجي الأمريكي دال إيكلمان، في كتابه “الإعلام الجديد في العالم الإسلامي”، أن النقاش بين المسلمين، تخطى حدود الأمة، وباتت النقاشات تجمع أطرافا متساوين، تتجاهل السلطات الشرعية وتجرد العلماء والمخضرمين من شرعيتهم، من دون أن تخضع لأي رقابة كانت، هذا الوضع أدى حسب، أوليفييه روا، إلى توسيع آفاق المعرفة والرفع من شأن الفردانية، كمفهوم أصيل وتأسيسي في العولمة، هذه الفردانية التي نشأت لدى مسلمين، يعتبرها مدخلا لعولمة الإسلام، وتساعد على إنشاء “الفضاء العام المسلم” غير المرتبط لا بالحدود ولا حتى باللغة، ولا بحركة إسلامية دون غيرها.
هذا الفضاء العام، الذي يضم أمة وهمية، لا تنادي بالديمقراطية بل تعتمد حسب الكاتب الفرنسي على المعتقدات الأصولية المتشددة، تشتغل بمحتوى متجانس يصل حد التطابق، وبسيط وبلغة واحدة بسيطة، يسيرة على الجميع، أما نقل الرسالة فيتم داخل هذه “الأمة” بالتكرار والنقل، ويتم نشر الرسالة وبثها واعتمادها تماما كما أتت في التوجيه العام، وهنا ينبه الكاتب إلى أن المضمون المتداول يفتقر إلى العمق، وضعف المراجع والاضطلاع بمعرفة التاريخ وبالنقاش الفلسفي، وفيه تتوفق الادعاءات على التحليلات.
الأمة الوهم
لكن يبقي السؤال لماذا يلجأ أفراد هذه الأمة الوهمية التي تعتمد قراءة أصولية متشددة للإسلام، وبل وتبسيطية لتعاليمه، إلى الانترنت، عوض الانخراط في جماعات أصولية؟ الجواب حسب أوليفييه روا، يكمن حسبه أولا في فشل تجربة تنظيم القاعدة، التي قامت بضرب برجي التجارة العالميين، وبعد ذلك انتظرت الهجوم الأمريكي، أي أنه لم تكن تملك أي استراتيجية للمواجهة ما أدى لانهيارها، أما السبب الثاني، هو أن أعضاء هذه الأمة الوهمية الجديدة، بل قلبها النابض، ما عاد موجودا في الدول العربية أو الإسلامية، بل إن الغرب هو الذي بات يصدر للعالم الإسلامي مفاهيمه وسجالاته، ويضرب مثلا على ذلك بقضايا المثلية والتحرش الجنسي، وهي نقاشات انطلقت من الغرب ووجد العالم الإسلامي نفسه يتفاعل معها ويفتي فيها، أما آخر الأسباب فهو وضع الإسلام في الغرب، حيث يرى روا أن هناك تقهقرا للواقع الاجتماعي للدين وصعوبة انخراطه في المجتمع وفي ضوابطه، حتى على استعمال الانترنت.
وهكذا ينتقل الإسلام في هذا المجتمع الوهمي في حركة ذهاب وإياب مستمرة بين الفرد الواقعي المعزول في المجتمع غير المسلم والمجتمع الوهمي، وهنا لابد من الإشارة لنقطة مهمة، فالفردانية غير ناجمة عن استعمال الانترنت، بل هي وقبل كل شيء واقع سوسيولوجي، حيث يسعى مستعملو الانترنت من المسلمين إلى إنشاء أمة وهمية وهذا يجعلهم يشعرون بالعزلة في المجتمع الذي يعيشون فيه، والشعور بالعجز عن عيش إيمانهم بعمق في محيطهم اليومي، ولابد هنا أن نذكر مرة أخرى أن الحديث عن المرحلة التي تفصل بين أفول نجم تنظيم القاعدة، والتأسيس لما قبل ظهور تنظيم الدولة، وهكذا يمكن أن نصل إلى خلاصة مفادها أن الانترنت لم يكن الهدف منه تسهيل اندماج مسلم في مجتمع محلي بل وصله بالأمة الوهمية برسالة واضحة وبسيطة “افعلوا ولا تفعلوا…”، وهكذا نجد الفرد يتنازعه نظام يومي يغيب عنه التدين، ومجال وهمي يسيطر عليه التدين.
ويقدم الكاتب، تشريحا لتركيبة، هذا المجتمع الوهمي، الذي سيكون في نظرنا وقودا لتأسيس تنظيم الدولة، وأولهم، المتأثرون بفكر تنظيم القاعدة، والذين لم ينجحوا في خوض التجربة الأفغانية ومع ذلك بقي لديهم ذلك الارتباط بنموذج القاعدة، إضافة للمجندين الذين انضموا لصفوف القاعدة، والذين لا يتوفرون على تاريخ عسكري، وهم آتون من أوروبا، وهنا تجب الإشارة إلى أن أولفييه روا ينبه إلى كون أوروبا تحولت في وقت من الأوقات إلى المزود الأول للقاعدة بالمقاتلين، ويقول إن أنصار بن لادن لم يوجدوا في إسطنبول أو القاهرة أو جاكرتا، وهي أكبر العواصم الإسلامية، وإنما كان المتعاطفون معه، يوجدون في ضواحي باريس، وأحياء بروكسيل، ولندن، وهذا ما رسخته تجربة تنظيم الدولة، بالنظر لعدد الشباب الذي إما سافر للعراق وسوريا للانضمام للتنظيم أو من تم اعتقاله في أوروبا بتهمة الانتماء للتنظيم أو تأييده فكريا.
راديكالية غربية
أما المكون الثاني الذي ساهم في تأسيس هذه الأمة الوهمية، فهم “دولانيو الغرب الإسلاميون”، والقصد هم الأشخاص الذين لهم جنسيات غربية واعتنقوا الإسلام، بعد ودرسوا جميعهم في دول غربية وتابعوا دروسا عصرية وعاشوا شبابهم على الطراز الغربي، واجتماعيا منحدرون من طبقات متوسطة، وغالبا مع قدر من المعاناة والتجربة في السجن، قبل أن يعتنقوا الإسلام، إثر لقاءات بشخصيات راديكالية إما في السجن، أو بعد تجربة السجن، ويتحول هؤلاء إلى عناصر تقوم بتجنيد الشباب الأوروبي أو الشباب الذي له أصول مسلمة لكنه لا يرتبط بأي صلة ببلاد والديه.
أما العنصر الأخير فيسميهم أولفييه روا، “المرتدون” أي الأوروبيون الذين اعتنقوا الإسلام، ويقول إن هؤلاء أحدثوا مفاجأة لدى المخابرات الأمريكية خلال الحرب على أفغانستان بالنظر لارتفاع عددهم، وسرعة انتشارهم حتى بعد فشل تجربة تنظيم القاعدة، بالتضامن الاجتماعي بين هؤلاء الشباب في الأحياء الأوروبية الهامشية، حيث باتوا يجدون “أمة” مصغرة داخل هذه الأحياء، توفر لهم الأمن من العزلة.
ويظهر من خلال تركيبة أوليفييه روا أننا أمام هيكلة راديكالية غربية صرفة، يشكل الإسلام بالنسبة لأعضاء هذه الهيكلة، فرصة إعادة تركيب معارضة للهوية، من بناء مساحة مسلمة محلية في الغرب دون الحاجة للانتقال نحو دول مسلمة، وإمكانية بلوغ الأمة في شبكة دولية، ولعل هذا ما يفسر أن هؤلاء الشباب ما عادوا يفكرون في الانتقال للدول التي تعرف صراعا مسلحا، بل يفضلون القيام بعمليات داخل الدول الأوربية، وهو ما كرسه تنظيم الدولة، بضرب عدد من العواصم الغربية، من طرف شباب يحملون جنسيات أوروبية.
وكخاتمة نقول إن أوليفييه روا، تنبأ عن قصد أو غير قصد بظهور تنظيم الدولة، من خلال قراءة تاريخية لمسار ما يسميه الإسلام الحركي وتحليليه لخطاب الحركات الإسلامية، فانتقال أحزاب الإسلام السياسي، في تركيا ومصر وتونس وغيرها إلى حركات تشتغل داخل القطر الواحد، والقضاء على تنظيم القاعدة، واحتكار التجربة الإيرانية لمفهوم الثورة الإسلامية، دفع للانتقال إلى ظهور الإسلام المحافظ من جهة وإلى أمة وهمية تشعر بالعزلة ولا تتوفر على قدرات تحليلية ومعرفية للتجاوب مع ضغط الألفية والتحديات المفروضة على الإسلام، هذه الأمة كانت خليطا من الراديكاليين القدامى والجدد، الجديد فيها أنها غربية بامتياز، فيه نشأت وفيه اعتنقت الأفكار المتطرفة، بل واتخذته مسرحا لعملياتها، وأكاد أجازف لأقول إن أوليفييه روا، تنبأ حتى بنهاية تنظيم الدولة في الغرب، عندما يقول إن هذه الظاهرة “قد تسبب مشاكل أمنية واجتماعية ولكنها ليست تهديدا استراتيجيا في الغرب”.
*كاتب وإعلامي مغربي