أرمن لبنان… ينقرضون!
بعد مرور تسعة أعوام على آخر انتخابات نيابية أجريت في لبنان، كشفت الانتخابات النيابية الأخيرة عن التغييرات الجذرية التي أصابت الطائفة المسيحية بشكل عام والطائفة الأرمنية بشكل خاص. ولعل هذه التغييرات تدخل في خانة هجرة الأرمن إلى أميركا والدول الأوروبية وتخليهم عن حق منح الجنسية اللبنانية لأبنائهم. غالبية من بقي اليوم، ينتمون إلى الفئة العمرية الطاعنة في السنّ، ما يطرح أكثر من سؤال حول وجود طائفة بأكملها باتت مهددة فعلياً بالانقراض!
نسبة المواطنين المسيحيين اللبنانيين تتناقص في السجلات الرسمية. ذلك معلوم ولا شك فيه. لكن هذا التناقص لا يعني أن عدد المسيحيين العام يتراجع. ما ينخفض هو نسبة المسيحيين من المجموع العام، لأن تزايدهم الطبيعي، على السجلات، أقل من تزايد المسلمين. غير أن التناقص النسبي شيء، وتراجع العدد شيء آخر. هذا التراجع الحقيقي يحصل عند اللبنانيين من أصول أرمنية، الذين يتناقص عددهم بشكل دراماتيكي، أكان بالنسبة للأرمن الأرثوذكس أو الكاثوليك. والانتخابات النيابية الأخيرة كانت المقياس الأدق لما آلت إليه الحالة الأرمنية في لبنان والتراجع الحاصل بأعداد الناخبين والمقترعين على حدّ سواء. إذ كان يفترض أن يسجّل الأرمن في جبل لبنان وبيروت، أماكن تواجدهم، نمواً في عدد الناخبين الجدد على لوائح الشطب خلال السنوات التسعة الأخيرة (الفترة الممتدة من 2009 إلى 2018) من ناحية عدد مواليد ما بين العام 1988 و1997، أي الذين بلغوا السن القانونية للاقتراع. وهو ما لم يحصل. فاقتصر عدد هؤلاء في بيروت الأولى على 3044 شخصاً للأرمن الأرثوذكس و578 شخصاً للكاثوليك منهم. فيما سُجل عدد 324 شخصاً فقط في بيروت الثانية عن الأرمن الأرثوذكس و107 للكاثوليك. ويقول أحد الضالعين في الأرقام أن ما سبق لا يعدّ نمواً نسبة إلى عدد الوفيات المسجلة في هذه المنطقة، على اعتبار أن غالبية الناخبين الأرمن هم من الطاعنين في السنّ. وفي مقارنة التوزع الديني والمذهبي للناخبين بين 2009 و2018، سجّل الأرمن الأرثوذكس انخفاضاً في أعدادهم في كل لبنان من 91290 ناخباً إلى 87679 ناخباً، ومن 20709 ناخبين عند الأرمن الكاثوليك إلى 19566 ناخباً في العام 2018. ما يوازي تراجعاً أرثوذكسياً بنسبة 3.96% وكاثوليكياً بنسبة 5.52%.
تراجع عدد الناخبين الأرمن الأرثوذكس بنسبة 3.96% والأرمن الكاثوليك بنسبة 5.52%
كان من الطبيعي تالياً أن ينخفض عدد الناخبين في مختلف الدوائر ومنها بيروت الأولى والثانية حيث بلغ مجموع الناخبين 43757 في العام 2018، بعد أن كان 46831 ناخباً في العام 2009 أي بفارق 3074 ناخباً. كذلك انخفض عدد الناخبين الأرمن الكاثوليك من 8615 ناخباً في العام 2009 إلى 8160 ناخباً في العام 2018. تلك كانت الضربة الأولى. الضربة الثانية للأرمن تمثلت بتدنّي نسبة الاقتراع من نحو 33% في بيروت الأولى إلى أقل من 25%. وهو ما نقل الأرمن من موقع المؤثر في نتائج الانتخابات وفق النظام الأكثري إلى موقع غير المؤثر في الانتخابات الأخيرة التي أجريت وفق النظام النسبي. وكانت النتيجة فقدان حزب الطاشناق الذي تواليه النسبة الأكبر من المقترعين الأرمن لدور «بيضة القبان» وحاجته هذه المرة إلى رافعة حزبية أخرى (التيار الوطني الحر) لإيصال نائبين له في بيروت الأولى (حصلا على ما يقارب الستة آلاف وأربعمئة فيما بلغ الحاصل نحو 5300 صوت).
ما ينطبق على بيروت، ينطبق أيضاً على جبل لبنان وبخاصة المتن الشمالي حيث الثقل الأرمني. بعد تسع سنوات على آخر انتخابات، تراجع عدد ناخبي الأرمن الأرثوذكس من 30912 شخصاً في جبل لبنان إلى 30628 ومن 8467 إلى 8368 عند الأرمن الكاثوليك. حصل ذلك وسط تدنٍ في نسبة الاقتراع حيث البلوك الأرمني الأكبر في المتن الشمالي، من 37% في العام 2009 إلى 30% في العام 2018. هنا أيضاً كان مرشح حزب الطاشناق وأمين عام حزبه أغوب بقرادونيان بحاجة إلى التحالف مع التيار الوطني الحر لضمان مروره إلى البرلمان. فقد نال الأخير نحو 7 آلاف صوت تفضيلي فيما بلغ الحاصل نحو 13 ألفاً.
من بيروت إلى المتن إلى زحلة، «الانهيار» نفسه. في العام 2009 بلغ عدد الأرمن الأرثوذكس في البقاع 9288 ناخباً لينخفض إلى 9039 في العام 2018، ومن 2617 أرمنياً كاثوليكياً إلى 1928 ناخباً في العام الحالي.
مصادر الطاشناق تنفي أن يكون هناك تراجع أو أن يكون هناك أي هجرة استثنائية مختلفة عن هجرة بقية الطوائف. وأرقام المهاجرين المسجلة لديها لا تتجاوز المئات. إلا أنها تقول من جهة أخرى أن نسبة الوفيات تفوق نسبة الولادات، لذلك يعمل الحزب اليوم على تقديم حوافز مالية للعائلات التي تنجب ولداً ثالثاً، وأيضاً تقدم تسهيلات للشباب الراغبين بالزواج عبر التكفل بتكاليف الزواج ولاحقاً بتكاليف عمادة الأولاد. يلي ذلك تخفيضات في المدارس والجامعات وعمل جدّي على الحفاظ على الأرمن الساكنين في لبنان وثنيهم عن الهجرة. أما السبب الأهم لهذا التناقص الذي يصيب الأرمن، فيعزوه أصحاب الأرقام إلى عدم تسجيل الأرمن المهاجرين إلى أميركا وكندا وغيرها من البلدان لأولادهم في لبنان واكتفائهم بإعطائهم جنسية البلد الذي يقطنون فيه.
ساهم مرسوم العام 1994 في تجنيس نحو 4 آلاف أرمني لبناني
ما سبق، يشكل جزءاً صغيراً من الصورة، فالوضع كان ليبلغ ذروته في السوء لو لم يضخ مرسوم التجنيس الصادر في العام 1994 دمّاً جديداً على عدد الناخبين الأرمن. ويظهر ذلك بغاية الوضوح في مقارنة بين أرقام الناخبين في العام 1992 والعام 2000. آنذاك، كان مجموع ناخبي الأرمن الأرثوذكس 82655 على لوائح الشطب و13078 ناخباً كاثوليكياً. لكن في العام 2000 وللمرة الأولى ارتفع عدد الناخبين لتصبح النتيجة ما يلي: 88601 أرمن أرثوذكس و27613 ناخباً أرمنياً كاثوليكياً. وبالأرقام الدقيقة، طاول التجنيس 3321 أرمنياً أرثوذكسياً في العام 1994 و782 أرمنياً كاثوليكياً. على رغم ذلك، لم يصمد نمو الأرمن في السنوات التسعة التالية أي ما بين العام 2000 والعام 2009، وعادت «لعنة» التناقص لتطفو على أعداد الناخبين. ويبدو أن السنوات التسعة المقبلة تشكل تحدّياً حقيقياً للوجود الأرمني في لبنان، والمسار المرسوم حديثاً يبشّر بـ«الانقراض». فخلافاً لكل الأقليات المسيحية التي تشهد نمواً كبيراً وسريعاً، ينحدر نمو الطائفة الأرمنية بشكل دراماتيكي وسريع جداً، خصوصاً أن غالبية من تبقى في لبنان هم من الفئة العمرية الكبيرة التي لا تطمح للهجرة بعد الآن.
بلاد الله الطاردة
في بلد غير لبنان، قد تتحوّل أزمة أقلية كالأزمة الأرمنية إلى مشكلة وطنية كبرى، تسارع الدولة والمجتمع إلى بحث سبل حلّها للحفاظ على مكوّن اجتماعي أساسي وحماية وجوده. غير أن أزمات الطوائف في لبنان عادةً ما تكون مشكلة كل طائفة على حدة، ولا ترقى إلى مستوى الهمّ الوطني، في أوضح تجليّات أزمة النظام الطائفي اللبناني، الذي يتغنّى القائمون عليه اليوم وفي الماضي، بحمايته للتنوّع والتعددية. أزمة الأرمن اليوم، لا بدّ أن تتحوّل إلى أزمة وطنية. وعلاجها لا بدّ أن يكون من ضمن خطّة شاملة تشترك فيها الدولة وتهتم بها «الدوائر العميقة» في الطوائف الكبيرة. فمشكلة الهجرة ليست مشكلة أرمنية، بل عامة. واختفاء سجلّات عائلات أرمنية نتيجة عدم تسجيل المواليد الجدد للمغتربين، تسري على أبناء الطوائف الأخرى، لكن بنسبة أقل. وإن دل ذلك على شيء فإنما يدل على أن المشكلة هي في الواقع اللبناني الذي لم يعد محتملاً، ما يؤدي إلى تناقص في عدد اللبنانيين الذين يسكنون في وطنهم، لا لهواية تاريخية بالهجرة، بل لأن لبنان لم يعد مكاناً قابلاً للعيش فيه بكرامة. بلاد لا إنتاج فيها، ولا اقتصاد ينمو، ولا بيئة نظيفة، ولا نظام ضمان صحي، ولا تعليم مجاني لائق بأهلها، ولا رفاهية للسكان… هي بلاد طاردة لأهلها.