المصوّر اللبناني صالح الرفاعي: الكاميرا آلة ميتة
قد يشكل الخروج من حرب لبنان إلى صورة الحياة اليومية انشقاقاً مرعباً بين ذاكرة الموت وذاكرة الحياة اليومية، لا يبدو الانتقال من الحرب للجلوس في أحضان الطبيعة ومتابعة التغيرات المذهلة للحياة أمراً هيناً وقد يكون أكثر تعقيداً لو تعلق بالصورة الفوتوغرافية، عايش المصور اللبناني صالح الرفاعي هذه التجربة، لكنه تمكَّن من منح مساحةٍ خاصةٍ وقوية لكلّ مرحلة.
صالح الرفاعي هو مصور فوتوغرافيّ وأستاذ التصوير في كلية الفنون الجميلة في الجامعة اللبنانية، عمل في الصحافة العالمية ما يزيد عن الثلاثين عاماً، نُشرت صوره في الصحف والمجلات العالمية، وهو مؤسس نقابة المصورين الصحافيين في لبنان بالإضافة لكونه مؤسس ورئيس تحرير مجلة “فن التصوير” أول مجلة متخصصة بالتصوير باللغة العربية في العالم العربي، والتي صدرت في بيروت 1983.
التقت “ضفة ثالثة” المصور اللبناني صالح الرفاعي وكان لنا حديث واسع عن التصوير والحياة اليومية والحداثة الفنية:
أثر الحرب اللبنانية
اقتصرت تجربة المصورين الصحافيين اللبنانيين قبل الحرب الأهلية حسب الرفاعي على تصوير المواضيع السياسية والنشاط الفنيّ والمسرحيّ إلى جانب الحماسة الزائدة في تصوير المباريات والمنافسات الرياضية على أنواعها، حيث لم يكن هنالك فكرة عن تصوير الحروب، لذا كانت التضحيات كبيرة فاستشهد عدد من المصورين وأصيب العديد لقلة الخبرة والدراية من جهة وبسبب الحماسة المفرطة أثناء تغطية المعارك، يقول: “وكي أكون أميناً اسمحي لي أن أذكر اثنين يعتبران أيقونة الصورة الصحافية في لبنان، الشهيد عبد الرزاق السيد الذي داس على لغم انفجر به في الوسط التجاري لبيروت في عام 1982 وآخر شهداء الحرب كان الشهيد جورج سمرجيان الذي قضى برصاصة وهو يغطي الأيام الأخيرة لحرب الإلغاء في عام 1990”.
من جهة أخرى وليطور الرفاعي عمله استفاد من خبرة المصورين الغربيين، وخصيصاً أن بعض هؤلاء كان قد غطى عدة حروب في العالم، يعقّب قائلاً: “في كثير من الأحيان ينتابني شعور بأنني أعيش عمراً إضافياً على هول ما مررنا به بسبب عبثية هذه الحرب”.
من جهة أخرى لا يجد مصورنا أن الحرب تمنح الصورة قوة إضافية مقارنة مع غيرها، فالعنف ينتج مفعولاً قصير المدى مقارنة مع الصورة الإنسانية المعبرة التي تستحوذ على كلّ الاهتمام، مستشهداً بسوزان سونتاغ: “عندما نصور فإننا نستولي على الشيء المصور، وهذا يعني أننا نضع أنفسنا في علاقة معينة مع العالم تشبه المعرفة، وتشبه السلطة” وهذا برأيه تدليل على قوة الصورة الإعلامية في فرض الواقع لما تحمله من سطوة بصرية وقوة في التعبير، مؤكداً بقوله: “صورة العنف هي حدث مباشر ينتهي مفعولها في اليوم التالي ما لم تختزن مشاعر إنسانية تبقى ساكنة في الذاكرة” .
يستذكر الرفاعي صورة “كيم فوك”، الطفلة الفيتنامية ذات التسعة أعوام، ظلت صورتها عالقة في أذهان الكثيرين حتى الآن والتي التقطها المصور “نيك أوت”، يجد الرفاعي أن هذه الصورة أصبحت تاريخية، فهي التي أوقفت الحرب في فيتنام بالإضافة للكثير من الصور الأخرى المصنفة على أنها ذات تأثير إنساني كبير.
قراءة الضوء
مع مرور الوقت تبلورت رؤية المصور اللبناني وازدادت خبرته ليكتشف أن قيمة الإنسان أكثر أهمية فاستفزته الأنسنة وما تعانيه من استبدادٍ، تخلّفٍ، شجع المجتمع وويلات الحروب، يقول الرفاعي: “أجد نفسي أميناً على تسجيل كلّ لحظة معاناة إنسانية”.
يتكئ الرفاعي في أعماله على النور لخلق فضاء فوتوغرافيّ ببعدٍ بصريّ وجمالي مختلف، فيلتقط المساحات الشاسعة ليُسْكِنها داخل الصورة مع الحفاظ على ذلك الألق المتعلق بحرية الأماكن الواسعة، يحرّض الضوء مصورنا ويلامسه أكثر حين يتسلل دون استئذان كما يقول، لينسكب بشكل جمالي ما بين السماء وطبيعة الأرض أو ليتداخل بأشكاله المتعددة، يقول: “أنا اقرأ الضوء محاولاً باستمرار فكفكة تفاصيله المتشردة ما بين الظل والنور”.
يقدم عمل الرفاعي مثالاً عن قدرة الضوء على إظهار مكامن الجمال وعلى عكس “بونويل” القائل عن سبب صناعته الأفلام: “لأُظهِرَ أن هذا العالم ليس أفضل العوالم الموجودة”، لكن مصوّرنا تمكن من صنع عالم جميل، بضوء يعكس روح الإنسان من خلال الطبيعة واللحظات الكونية التي تقدم عالمه على أنه الأفضل، وهنا تكمن فرادة الرفاعي في قدرته على صوغ السلام بالضوء.
بين الحياة الحضريّة والطبيعة
يغطي جانب من عمل الرفاعي الحياة الحضرية في لبنان من مرافئ وأبنية، ليمنح العمارة الحديثة بُعداً فوتوغرافياً مركّزاً على الجمال القاسي، لكنه في ذات الوقت لا يعتبر أن هذه الصورة تشبهه إنما يمرّ عليها لينتقل إلى منطقة أرحب وأكثر اتساعاً للبعد الجمالي للبنان، على خلاف عمله في تغطية الكثير من الحروب التي تقوم على المنهج التسجيلي الذي لا يملك الكثير من الرؤية الفنية بقدر ما يعتمد على سرعة الالتقاط.
وهكذا شغلت الرفاعي مع نهاية الحرب الهندسة والأبنية الحديثة لمدينة بيروت، إنما لفترة محدودة، يقول: “قد تكون صور جميلة إنما ينقصها الدفء والحنين، خاصة إنني قد عرفتُ تراث بيروت المعماري قبل الحرب”.
بالمقابل غالباً ما يلجأ الرفاعي الى الطبيعة، ففيها الكثير مما قد فاته على حسب قوله ممارساً هواية تصوير المشاهد الطبيعية بما فيها من تفاصيل لونية وظلالية، يتناول الرفاعي الطبيعة كمرجع فطري لفهم الذات فيأخذنا من خلال الصورة البسيطة للطبيعة التي تشكل اللغز الأول للإنسان، مع منحنا مساحة للتعمق فيها كرؤية شخصية، وهكذا يخلق اتصالاً ساحراً بين الإنسان والطبيعة في محاولة لإعادة تشكيل رؤيتنا للطبيعة.
ما بعد الحداثة الفنية في التصوير
بالنسبة للرفاعي: “الكاميرا آلة ميتة بغض النظر عن سهولة استعمالها في هذا العصر، إلى أن تمتدّ إليها يد الإنسان، وهي في النهاية امتداد لعين ورؤية المصور وتعكس مكنونات أفكاره”.
يجد أن مغزى التصوير الفوتوغرافي هو أن نعمل على تقديم الصورة التي لم نشاهدها من قبل وهذا المفهوم هو الذي سيقودنا نحو ما بعد الحداثة الفنية، رغم أن الصورة في لبنان تعاني من بعض الركود، فالسوق الفنيّ لم يعد يجذب محبي الفن الفوتوغرافي ومقتني اللوحة الضوئية، تماماً كما يعاني الفن التشكيلي بشكل عام نتيجة الأزمة الاقتصادية التي تعصف في البلاد على حسب قوله.
على صعيد العالم العربي، يرى مصورنا أن هناك نهضة فوتوغرافية متزايدة ساهمت المسابقات في نشر المعرفة الضوئية وتشجيع الناشئة على هواية التصوير والاحتراف، إنما ومن وجهة نظره يتوجب وضع استراتيجية تهدف الى تعليم فن التصوير بدءاً من المدرسة وصولاً إلى نشر ثقافة التصوير، وليس العمل فقط على انتشار الصورة وبالتالي نحن بحاجة إلى العمل على تنمية الصورة الملتقطة في العالم العربي ومنحها التشجيع اللازم.