مقتل تارا فارس.. سلطة القبح في بلاد الرافدين
كان أول هذه الجرائم التي صدم بها المجتمع العراقي، مقتل طبيبة تجميل عراقية معروفة، تدعى رفيف الياسري، وكانت صاحبة مركز للتجميل وتبنت من خلال عملها علاج حالات كثيرة من التشوهات الولادية أو الناتجة عن حوادث حرب وغيرها. أشيع في البدء أنها قُتلت في حادث سيارة، لكن سرعان ما تغيرت المعلومات إلى أن ظروف مقتلها كانت غامضة، ولم يصدر أي تقرير رسمي صريح من الطب العدلي، حتى بعد الإفراج عن جثتها. فيما أشيع خبر لا يمكن التأكد منه، أنها ماتت في بيتها بجرعة زائدة من المخدرات.
ذكَّرتني هذه الإشاعة، التي لم تفندها السلطات المتخصصة بتقرير طبي صريح، بخالد سعيد في مصر، الذي قُتل تحت التعذيب وتم “إقرار” حالته بأنه ابتلع كمية كبيرة من الحشيش أدت إلى وفاته. الياسري لم تكن خالد سعيد حقاً، كانت طبيبة شابة وطموحة وناجحة جداً في عملها. تقوم ببعض الأعمال الخيرية بين الحين والآخر، لكن عملها كان مع خلق الجمال لمن يحتاجه ويبحث عنه.
أزمة البصرة كانت بمثابة صحوة للكثيرين ممن لم يروا بشاعة وقبح حكم الميليشيات. كانوا حتى آخر لحظة، مع إعطاء سلطة أكثر لها، خصوصاً بعدما أحرزت مجاميع منهم بعض الانتصارات على “داعش” في الموصل. لكن الأزمات الأخيرة على صعيد البصرة والانتخابات والاغتيالات المنظمة، جعلت الكثير من العراقيين يدركون أنهم مقبلون على كارثة سلطوية جديدة، تستهدف حريتهم وقوتهم اليومي. ولم ينته الحديث بعد عن تحالفات وأحجام الكتل والإصلاحات المزعومة، حتى تلقى المجتمع العراقي، والبغدادي خاصة، صدمة أخرى في مقتل وصيفة ملكة جمال عراق سابقة ومؤثرة في الأزياء والستايل وفن المكياج، وهي تارا فارس.
انتشر خبر مقتلها من دون معرفة التفاصيل حتى الآن. صرحت السلطات بفتح تحقيق عاجل في الجريمة. هذه المرة لم يكن الأمر يحتاج فبركة مقتلها بجرعة زائدة من المخدرات، فقد قُتلت في مكان عام بعيارات نارية. يبدو أن من تربص بها كان على علم بقدومها إلى العاصمة وتواجدها في المنطقة. تارا فارس كانت شابة في مقتبل العمر، تحب فن المكياج وعرض الأزياء عبر حسابها على الانتسغرام. كان لديها مئات الآلاف من المتابعين. أمر واقعي أن المجتمع العراقي ليس مهيئاً لأن يستعيد عافيته، كما لو كان في زمن الأربعينات من القرن العشرين، وحتى ثمانيناته، كي يتقبل وجود شخصيات مثيرة للنظر والفكر. فالمجتمع الذي قتل كرار نوشي، الموديل وطالب الفن، لن يتقبل وجود شخصية مثل تارا فارس، حتى لو كان يستمتع بمواضيعها ومنشوراتها في حسابها. مع هذه الحادثة، تأكد أن هناك تصفية منظمة لنساء يعملن في مجال معين يتعامل مع الحس والجماليات، بغض النظر عن تقييمنا الشخصي له.
توالت هذه الجرائم في محافظات عدة، وتصاعدت وتيرتها في بغداد بقتل جماعي لمن يدعون أنها كانت “أوكار للدعارة” دون أن تتوصل السلطات إلى أي نتيجة في التحقيقات. كل هذه الجرائم السابقة حُفظت ضد مجهول، مع أن المجهول واضح للعوام.
لكن الأمر بات أكثر خطورة الآن، إذ أن للقتلة هدف معين باغتيال فئة عاملة في مجال الجماليات ومحاربة كل من يعيش حريته الشخصية كما يجب، لا يقتصر فقط على الموديلز كحال كرار نوشي وتارا فارس، بل تعداه إلى استهداف أطباء وخبراء تجميل.
الأمر أكثر مأساوياً في حادثة الشابة تارا فارس أن الجريمة بُررت على لسان اعلاميين تابعين لقنوات حكومية. عندما كتب اعلامي ومقدم برامج في القناة العراقية الحكومية أن تارا فارس كانت عاهرة وماتت، يكفي! وهذه ليست المرة الأولى يصرح بها اعلاميو هذه القناة، التي يفترض أنها تمثل الشعب، بتصريحات فاشية ومحرضة على الجريمة والإبادة الجماعية بحق جماعات وفئات بعينها، وهو ما يجرمه القانون في الدول المحترمة، وهو ما يتنافى مع مهنة الصحافة ورسالتها.
بالنسبة اليّ لم تكن صدمة أن اقرأ من إعلامي حكومي هذا التصريح الفج، لكني انبهرت كثيراً من كشف وجوه أمثاله بهذه الوقاحة دون اعتبار. يعلم غالبيتنا كيف تتحرك أدوات الإعلام في المؤسسات العراقية، ونعلم من يديرها ومن يتحكم بها، لكن مقتل العراقيات الجميلات مؤخراً أسقط آخر ورقة توت عن سلطة القبح والدم.