حروب الكيديات الدونكيشوتية
احمد الزعبي
في مرور عام وشهرين على إقرار سلسلة الرتب والرواتب وما استتبعته من ضرائب جائرة بحق اللبنانيين، بشكل غير مدروس، بدأت آثارها السلبية التي سبق أن حذر منها بعض الخبراء وعدد قليل من العاملين بالشأن العام تظهر وتكوي غالبية الشعب، وهم أصلاً غير مستفيدين من “السلسلة” المشؤومة.
أولى هذه التداعيات وأهمها هي تلك التي ضربت المدارس التي وقعت بين ناري: زيادة الأقساط على الأهالي بشكل يفوق قدرة الكثيرين، لتأمين زيادات السلسلة، أو صرف أساتذة ومعلمين لعدم التمكن من تأمين رواتبهم! وهذا الأمر الذي جعل مرجعيات روحية تعلي الصوت تكراراً من الظلم اللاحق بالمدارس والأهالي على حدّ سواء.
بالتوازي مع المدارس، اشتعلت أسعار السلع الأساسية خارج أي رقابة ومن دون أية ضوابط، كالمحروقات واللحوم والألبان والأجبان، والفاكهة والحبوب التي ارتفعت اسعارها ما بين 3 إلى 6% بحسب جمعية حماية المستهلك التي قالت في آخر تقرير لها إن الأسعار ارتفعت في الفصل الثاني من العام 2018 مقارنة مع الفصل الثاني من العام الماضي 4.75%!!
هكذا حوّل التسرع والشعبويات وسوء التقدير وعدم دراسة التداعيات بدقة، سلسلة الرتب والرواتب من حق مكتسب لفئات كادحة جرى تخطيه والالتفاف عليه لسنوات إلى كارثة تهدد الأمن الاجتماعي والاقتصادي!
وعلى هامش المشهد المأساوي الحاصل، يمكن رصد أمرين غريبين:
الأول: غياب مدوّ لما يسمى “الهندسات المالية” للمصرف المركزي إزاء سوء الادارة والتقدير الذي تجلى في إقرار سلسلة الرتب والرواتب من دون حساب تكلفتها ومواردها بشكل دقيق ومتوازن، في حين أنها تظهر وبقوة في ميادين أقل خطورة اقتصادياً واجتماعياً؟!
الثاني: غياب مدوّ أيضاً لأي تحركات شعبية رافضة لما يجري. لأمر مجهول لا يريد الشعب، وهو في غالبيته متضرر من غياب السياسات الرشيدة لأهل السلطة، من مساءلة من في الحكم، أو التمرد عليهم، ليأسه من الإصلاح ربما، أو لإنهماكه بتأمين قوت يومه (وهو الأرجح)، وفي كلتا الحالتين لا يمكن التصديق بأن الناس، كل الناس.. باتوا مخدرين ولا يملكون المبادرة لأي ردة فعل تجاه الظلم الحاصل بحقهم، ليس في المدارس وأسعار السلع فحسب، بل في الخدمات والكهرباء والماء والطرقات والطبابة والأمن والاستقرار والبيئة وقضم الجبال وحرق النفايات والفساد والسمسرات والمحسوبيات والإنفاق من خارج الموازنة والاستدانة لملء جيوب الفاسدين.. وغيرها من اللائحة التي تطول ولا تنتهي!!!
في الخلاصة، ما يجري ينذر بالأسوأ، وخصوصاً مع مؤشرات إقليمية غير مطمئنة، وأهل السلطة يتلهون بكيدياتهم وحروبهم العبثية، ولا يمكن الجزم بأنه في حال تشكلت الحكومة اليوم قبل الغد أن يتغير أي شيء في ما يجري.
الخفّة في التعاطي، والتسرع، وغياب السياسات، والافتقاد إلى التبصر، والشعبويات كفيلة بفعل ما هو أكثر وأخطر. سَأَلَ أبو جعفر المنصور، أحد حكماء بني أمية، عن سبب زوال دولتهم، فقال: “أمورٌ كبيرة أوليناها للصغار، وأمور صغيرة أوليناها للكبار. وأبعدنا الصديق ثقةً بصداقته، وقرّبنا العدو اتقاءً لعداوته، فلم يتحوّل العدو صديقاً وتحوّل الصديق عدواً”. والتاريخ، بحسب ماركوس، يعيد نفسه، في المرة الأولى كمأساة وفي الثانية كمهزلة، ولله الأمر من قبل ومن بعد.