تسوية الجنوب السوري تفتح أبواب جحيم الشمال
المعادلة التي باتت تسود قاعات التفاوض في المرحلة الأخيرة تتلخّص بالعبارة الآتية: القبول بالجيش النظامي السوري في مقابل إخراج القوات الإيرانية والتنظيمات التي تعمل معها.
ووفق هذه القاعدة وافقت إسرائيل، وكذلك الولايات المتحدة الأميركية، على تقدّم الجيش السوري والسيطرة على كل المنطقة الممتدّة من درعا حتى خطوط الفصل في مقابل عدم وجود ضبّاط إيرانيين ومجموعات لـ»حزب الله» على مسافة 20 كلم من الخطوط الإسرائيلية.
وبالتأكيد فإنّ التسوية تتضمّن بنوداً كثيرة مثل الدور الروسي الضامن وترجمته. وحين تمسّكت موسكو مثلاً بأن تكون «قوات النمر» هي أساس القوات النظامية السورية التي ستسيطر على المنطقة، إضافة الى وجود ضباط روس في غرفة العمليات الأساسية وتأمين مظلّة جوّية مضمونة.. الخ.
ومع إنجاز هذه التسوية يتعزّز الدورُ الروسي في سوريا لتبدو معه موسكو صاحبة الورقة الأقوى.
وفي المقابل آثرت إيران على القبول بتنفيذ تراجع «تكتي» وهي التي تعمل على احتواء هجوم الادارة الاميركية عليها، ما ضيّق هامش المناورة لديها في المرحلة الحالية. فطهران التي تعمل على وضع خطط مواجهة الاندفاعة الاميركية بهدف تطويعها ودفعها للقبول بتسويات إقليمية في الساحات الملتهبة، تُحضّر للمعارك البديلة المقبلة وللمبارزة على جبهات أُخرى.
فعلى مستوى العقوبات الاميركية الجديدة على إيران فإنّ الضغط الاميركي لم يؤدِ سوى الى نتائج محدودة في ظلّ الخلاف الاميركي ـ الاوروبي وعدم الاستجابة الروسية والصينية.
ففيما يرفض «رجال الاقتصاد» في أوروبا خسارة السوق الإيرانية، خصوصاً بعد توقيع عقود ضخمة، انفجر نزاعٌ آخر بين أوروبا والولايات المتحدة الاميركية طابعه اقتصادي وله علاقة بفرض واشنطن رسوماً جمركية إضافية على واردات الصلب والألمنيوم من اوروبا. واللافت أنّ الرئيس الاميركي دونالد ترامب استعمل عبارة أنّ بلاده «نُهِبَت تجارياً لسنوات على يد الدول الأخرى».
في هذا الوقت كان الرئيس التنفيذي لشركة «توتال» العملاقة باتريك بوياني يقول: «ما لن يكون جيداً للأميركيين والأوروبيين هو أنّ روسيا والصين ستتمكّنان من القيام بأعمالنا في إيران في نهاية المطاف».
وبالفعل فلقد أرسلت الصين وفداً يمثل شركة نفط عملاقة لاستكمال الصفقة التي كانت باشرتها شركة «توتال» بقيمة ثلاثة مليارات دولار لتطوير حقل نفط إيراني هائل. كذلك تشارك الشركات الصينية مع نظيراتها الإيرانية في مشاريع تطوير وتمديد خطوط سكك الحديد وبناء «مترو» وحتى صناعة السيارات.
في العام 2010 أيّدت كل من روسيا والصين عقوبات الأمم المتحدة المفروضة على إيران ما جعل العقوبات ذات فعالية، وهما ساهمتا لاحقاً في إقناع إيران في الذهاب الى طاولة المفاوضات لإبرام الصفقة النووية. لكن اليوم تبدو الامور مختلفة جذرياً ولا يبدو أنّ لتأثير العقوبات نتائج كبيرة كما في السابق.
وفي المقابل تبدو طهران غير مستعدّة للتجاوب مع الضغوط الاميركية عليها. أولاً، لأنها تتنفّس اقتصادياً من خلال بوّابتين الصين وروسيا، اضافة الى اوروبا حتى إشعار آخر. وثانياً، لأنها مقتنعة بأنّ عداء واشنطن هو ضد التركيبة الدينية للنظام وليس البرنامج النووي. وثالثاً، لأنّ الوقائع التاريخية تثبت أنّ المرونة تجاه واشنطن ستدفع بالسياسة الأميركية الى أن تتطوّر وتصبح لاحقاً أكثرَ عدائية وليس العكس أبداً.
ولأنّ موسكو تشكّل أحد مصادر الاوكسيجين الإيراني، ارتضت طهران التنازل عن بعض اوراقها في الجنوب السوري لمصلحة روسيا. وفي المقابل صحيح أنّ موسكو تريد أن ترث بعض أوراق قوة إيران في سوريا ولكنها تتمسّك بقوة باستمرار نفوذ إيران داخل المعادلة السورية وهو ما يتوافق مع المصلحة السورية ولعبة التوازنات التي تحسّن إدارتها.
وخلال الأيام التي سبقت إنجازَ تسوية الجنوب السوري حصلت اتّصالاتٌ حثيثة وفي العمق بين الجانبين الأميركي والروسي حول سوريا مع وجود ترجيح قوي بعقد قمّة أميركية – روسية في وقت ليس ببعيد. فهنالك، اضافة الى سوريا كوريا الشمالية.
واليوم يصل وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو الى واشنطن للقاء نظيره الاميركي مايك بومبيو في لحظة تبدو فيها العلاقات الاميركية ـ التركية في اصعب مراحلها منذ الاجتياح التركي لشمال قبرص عام 1974. واهمية اللقاء أنه يأتي استباقاً لتصعيدٍ متوقَّع في شمال سوريا حيث تستعدّ إيران لردّ الصفعة للاميركيين فيما الحسابات الروسية تختلف عن حسابات الجنوب السوري، كما أنّ تركيا اللاعب المؤثر تكشّر عن أنيابها.
في 30 أيار الماضي لمّح وزير الخارجية التركي الى احتمال إغلاق قاعدة انجرليك العسكرية الاميركية، وهي المرة الاولى التي يصدر فيها موقف كهذا عن مسؤول حكومي تركي. وعلى رغم ذلك يضع المراقبون التهديد التركي في اطار عدم تجاوب واشنطن مع طلب تركيا الحصول على المقاتلات الأكثر تطوّراً في العالم من نوع «إف-35». هذا الرفض الذي أتى بعد القرار التركي بشراء نظام الدفاع الجوّي الروسي «إس-400» بحجّة أنّ واشنطن تمتنع عن تزويدها أنظمة دفاع صاروخية من نوع «باتريوت».
هذا التوتر في العلاقات الاميركية ـ التركية لا ينحصر فقط في موضوع التسلّح، بل يطاول واقع الأكراد في شمال سوريا، اضافة الى الدور التركي في سوريا والشرق الأوسط. وما فاقم من سوء العلاقة بين البلدين استمرار الرهان الاميركي العسكري على المجموعات الكردية وطرح فكرة أن تكون هذه المجموعات عماد قوات إسلامية قد تحلّ مكان الجيش الأميركي في حال انسحابه من سوريا.
في هذا الوقت يقف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في وضع الجهوزية للاستفادة من الأخطاء الأميركية وسحب أنقرة أكثر فأكثر في اتّجاهه. ففي أعقاب إسقاط الطائرة الحربية الروسية عام 2015 كان حلف «الناتو» عاجزاً عن مساعدة تركيا وتلبية طلبها بالعون. يومها شكلت هذه الحادثة نقطة تحوّل في سياسة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الخارجية حيث باشر التجوّلَ في سياسته والاستدارة الى الجار القوي موسكو. وبعد الانقلاب الفاشل على أردوغان اندفع بوتين في سياسة توثيق علاقته أكثر بأردوغان مستفيداً من تزايد مشاعر العداء لواشنطن في الشارع التركي.
وبعدها منح بوتين الضوء الأخضر لعملية «غصن الزيتون» في عفرين. وفي المقابل غضّت تركيا النظر عن الهجوم على الغوطة الشرقية لدمشق، لا بل ساعدت في تأمين بعض جوانب الإخراج. ومعه شعر بوتين أنّ تركيا تبتعد شيئاً فشيئاً عن مجموعة دول شمال حلف الاطلسي، وهو الذي يريد أن يراه ضعيفاً كونه يشكّل تهديداً استراتيجياً لبلاده ولمصالحها. وتدرك موسكو أنّ زيارة جاويش أوغلو قد لا تؤدّي الى ما تطمح اليه أنقرة خصوصاً وأنّ الكونغرس الأميركي يبدو معادياً لتركيا ما يجعل من الصعب في مكان التجاوب مع مطالب التسلُّح التركية والتي يتمسّك بها أردوغان.
كذلك فإنّ من الصعب على واشنطن القبول بالطموح التركي في شمال سوريا والتخلّي عن الدور الكردي. وهو ما يعني أنّ أنقرة ستنتظر انتهاءَ الانتخابات لتباشر خطة هجومية في سوريا سياسياً وعسكرياً.
في المقابل يعتقد البعض أنّ تراجع سعر صرف العملة التركية تقف وراءه واشنطن للتأثير سلباً على الناخبين الأتراك بعدما حقق أردوغان نقاطاً ثمينة نتيجة حربه في عفرين.
وخلال مؤتمر الصحافيين العرب والذي عُقد أخيراً في اسطنبول قال جاويش أوغلو خلال الجلسة المغلقة إنّ «أستانا لم تفشل وهي ستعاود زخمها»، وذلك في اشارة منه الى التفاهم مع روسيا. كذلك قال في وضوح إنّ بلاده منزعجة جداً من فكرة إحلال قوات عربية مكان القوات الأميركية. وفي هذه النقطة تتقاطع تركيا بقوة مع إيران. كذلك فإنّ آخر ما تريده موسكو هو ترك الأميركيين يظهرون مجدّداً بدور محرّك الأحداث في الشرق الأوسط، فهو الدور الذي تلعبه روسيا منذ سنوات عدة وتنجح فيه وتحجز من خلاله مقعداً واسعاً لها في السياسة الدولية.
في اختصار إغلاق جبهة الجنوب في سوريا سيفتح جبهات أُخرى وفصل الصيف سيكون حاراً بلا أدنى شك.