من البقاع إلى الجنوب: اللبناني “يتفرج” من السطوح والحرب فوق رأسه

صدى وادي التيم : لبنانيات /

تحوّل مشهد الاشتباك الجوّي بين إيران وإسرائيل إلى ما يشبه العرض الليلي المفتوح في لبنان, حيث يصطفّ الآلاف من المواطنين, لا سيما من فئة الشباب, فوق أسطح المباني والمنازل لمراقبة عبور المسيّرات والصواريخ الإيرانية, ومتابعة تصدّي الدفاعات الإسرائيلية لها في السماء اللبنانية. وباتت هذه المشاهد تُوثّق بالصوت والصورة وتُنشر بكثافة على وسائل التواصل الاجتماعي, وكأنها لحظات احتفالية أو أحداث استثنائية لا يجوز تفويتها. هذه الظاهرة, وإن بدت مفاجئة للبعض, إلا أنها تعكس جانبًا مألوفًا من سلوك اللبنانيين الذين اعتادوا في مراحل سابقة مراقبة حروب السماء, بدءًا من اشتباكات سلاح الجو السوري والإسرائيلي في البقاع عام 1982, مرورًا بعبور الصواريخ العراقية نحو إسرائيل في 1991, وصولًا إلى المشهد الراهن الذي يضع لبنان من جديد وسط معركة إقليمية تتصاعد على أرضه وأجوائه.

في المقابل, ورغم تصاعد التوتر الإقليمي وتبادل الضربات, يقف لبنان موقف المتفرّج العاجز. فبينما أعلن الأردن, على سبيل المثال, عن إسقاط عدد كبير من المسيّرات والصواريخ العابرة, يبدو أن لبنان لا يملك أي قدرة عملية على حماية أجوائه, لا من الاعتداءات الإسرائيلية المتواصلة, ولا من تحليق الصواريخ الإيرانية. ووفق ما أفاد به مصدر رسمي, فإن لبنان يفتقر إلى منظومات دفاع جوي, ما يجعله ساحة مفتوحة لكل من الطرفين المتحاربين. ورغم تقديم لبنان لشكاوى متكررة إلى مجلس الأمن, إلا أن هذه الخطوات الدبلوماسية لم تنجح حتى اليوم في الحد من الانتهاكات المتكررة لسيادته.

ما يلفت النظر أكثر هو كيفية تعاطي اللبنانيين مع هذه التطورات. ففي الوقت الذي يرى فيه العالم تهديدًا مباشرًا وخطرًا داهمًا, ينظر قسم كبير من الشعب اللبناني, وخصوصًا فئة الشباب, إلى ما يجري كنوع من المغامرة أو التجربة التي تستحق التوثيق والمشاركة. وقد فسّرت الأستاذة في علم النفس, الدكتورة فريال حلاوي, هذا السلوك على أنه نتيجة تراكمات الأزمات التي جعلت اللبنانيين أكثر قدرة على التكيّف والمرونة النفسية, بل وساهمت في نوع من “تسخيف الخطر” وتطبيع العنف, حيث بات ما يصدم الآخرين أمرًا اعتياديًا بالنسبة لهم.

ولا يمكن إغفال دور مواقع التواصل الاجتماعي في ترسيخ هذا السلوك, إذ أصبح توثيق اللحظة ومشاركتها مع الآخرين جزءًا من هوية هذا الجيل. فالشاب اللبناني الذي يرى الصواريخ تمر فوق رأسه, لا يهرب إلى الملاجئ, بل يفتح هاتفه, يلتقط صورة أو مقطع فيديو, ويشاركه مع متابعيه وكأنه يسجّل لحظة من حياته لا تتكرّر, حتى لو كانت محفوفة بالموت.

وفي خضم هذا المشهد المعقّد, يبرز قلق جديد يرتبط بإمكان استهداف مفاعل ديمونا النووي من قبل إيران, وهو ما يفتح الباب أمام مخاوف من تسرب إشعاعي قد يصل إلى لبنان بحكم قربه الجغرافي من فلسطين المحتلة. لكن مصادر سياسية لبنانية اعتبرت هذا القلق مبالغًا فيه, مشيرة إلى أن إيران لا تمتلك حاليًا القدرة العسكرية الكافية لتدمير هذا المفاعل, كما أن المسافة الجغرافية التي تفصل لبنان عن ديمونا, والتي تتجاوز الأربعمئة كيلومتر, تقلّل من احتمالية وصول تأثير أي تسرب إشعاعي إلى الداخل اللبناني.

في النهاية, يظلّ لبنان, كما في معظم الأزمات, يعيش في قلب الحدث دون أن يكون طرفًا فيه, ساحة مفتوحة لحروب الآخرين, وشعبه بين التحمّل والاحتفال, يتأرجح ما بين مرونة البقاء وسخرية الواقع.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!