نزيف الطرقات مستمرّ: 39 قتيلاً في شهر واحد

صدى وادي التيم – لبنانيات /

في لبنان، باتت الطرقات مسرحاً مفتوحاً لحوادث السير التي تحصد سنوياً مئات الأرواح وتُخلّف آلاف الجرحى، من دون أن تنجح أي جهة رسمية أو أهلية حتى الآن في وقف هذا النزيف.

ومع كل حادث، تتكرر العبارة نفسها: «الحقّ على الدولة»، وكأن المسؤولية تقع فقط على تقصير المؤسسات، فيما الحقيقة أكثر تعقيداً. صحيح أن تراجع صيانة البنى التحتية، وغياب الإنارة، وقلّة عناصر شرطة السير، عوامل تسهم في تفاقم الأزمة، إلا أن المعطيات تُظهر بوضوح أن السبب الأول لحوادث السير يبقى السرعة الزائدة، والقيادة المتهوّرة، ومخالفة قوانين السير، وعدم الالتزام بأبسط قواعد السلامة المرورية.

قد تُقلّل الطرق الجيدة من حجم الأضرار، لكن حتى على أسوأ الطرق، لا تقع حوادث مميتة عند القيادة بهدوء وتروٍ. لذلك، فإن تحميل الدولة وحدها المسؤولية يُخفي جانباً كبيراً من الحقيقة، ويتجاهل دور السائق والمواطن في حماية نفسه والآخرين.

منذ 19 أيار الفائت حتى اليوم، لم يمرّ يوم في لبنان من دون سقوط قتيل أو أكثر نتيجة حوادث السير. ووفقاً لإحصاءات قوى الأمن الداخلي، شهد شهر أيار وحده أكثر من 260 حادثاً مرورياً، أسفرت عن 39 قتيلاً و312 جريحاً، بينهم من أصبح معوّقاً مدى الحياة.

اللافت أن نسبة الحوادث ترتفع بشكل ملحوظ في عطل نهاية الأسبوع والأعياد، ما يشير بوضوح إلى تفشّي التهور في القيادة، والسرعة الزائدة، والتجاهل الفاضح لقانون السير وشروط السلامة المرورية. ومع حلول موسم الصيف، وبدء عطلة الجامعات والمدارس، وفي ظل الفوضى المتزايدة على الطرقات، يُتوقّع أن تتفاقم حوادث السير القاتلة، خصوصاً على الأوتوسترادات والطرق الجبلية.

في المقابل، فإن الوسائل التقنية التي من شأنها الحد من هذه الكارثة، كالرادارات الخاصة بمراقبة السرعة، وكاميرات رصد مخالفات الإشارات الضوئية، تحتاج إلى صيانة جدّية لإعادتها إلى العمل بفعالية. أما شرطة السير التي تبذل جهوداً لتنظيم حركة المرور عند المفارق والتقاطعات، فتواجه قدرات محدودة في ما يتعلق بضبط السرعة على الطرق السريعة، بسبب نقص العديد والآليات اللازمة لتوقيف السيارات المسرعة والمخالفة. لذلك تكتفي في كثير من الأحيان بإقامة حواجز مؤقتة أو دوريات متنقلة.

أما في ما يخص الدراجات النارية، فتمتنع القوى الأمنية حالياً عن تطبيق إجراءات صارمة ضد المخالفين، أخذاً في الحسبان الأوضاع الاقتصادية الصعبة. إذ إن عدداً كبيراً من سائقي الدراجات النارية يعتمدون على «الموتوسيكل» كوسيلة تنقل أساسية بسبب انخفاض دخلهم، ما يعيق قدرتهم على دفع الغرامات أو الالتزام بكامل شروط تسجيل الآلية.

لكن، هذه المراعاة المؤقتة لا يمكن أن تتحوّل إلى تساهل دائم سيؤدي، عاجلاً أو آجلاً، إلى فوضى مرورية شاملة يصعب السيطرة عليها. كما لا يمكن الاستمرار في التغاضي عن ظاهرة الدراجات غير المسجّلة، التي تشكل تهديداً مباشراً للسلامة العامة، وتستوجب معالجة حاسمة وجذرية.
في ما يأتي، خمسة عوامل أساسية تُعدّ من أبرز أسباب حوادث السير الخطيرة في لبنان:

1- السرعة والـ«زيغ زاغ»

لا يمكن التغاضي عن ظاهرة القيادة المتهوّرة على الأوتوسترادات. فثمة سيارات تنطلق بسرعات تتجاوز 120كلم/ س، وأحياناً تصل إلى 150 كلم/س، تتجاوز المركبات الأخرى بسرعة فائقة، وتتسابق في ما بينها من دون أدنى مراعاة لشروط السلامة. والأسوأ أن بعض السائقين يتباهون بـ «لعبة الزيغ زاغ» هذه، حتى في المسافات الضيقة، وكأنهم يخوضون سباقاً في مضمار مغلق، لا على طرق عامة يعبرها الجميع.

وقد يتذرّع بعض السائقين بغياب اللوحات التي تحدّد السرعة القصوى على عدد من الطرقات، إلا أن هذا الادعاء لا يعفيهم من المسؤولية. ذلك أن المادة 26 من قانون السير اللبناني (الرقم 243، الصادر بتاريخ 22/10/2012) لحظت هذا الأمر بوضوح، وجاء فيها ما نصّه أنه «في حال عدم وجود لوحات تحدّد السرعة القصوى المسموح بها، على جميع السائقين عدم تجاوز السرعات القصوى الآتية: أ- 100 كلم/س على الأوتوسترادات؛ ب- 70 كلم/س خارج المناطق المأهولة، جـ – 50 كلم/س داخل المناطق المأهولة»، ما يعني أن الالتزام بهذه الحدود واجب في جميع الأحوال، سواء وُضعت اللوحات أم لم توضع، وأن الجهل أو التجاهل لا يعفي من المحاسبة.

2 – تأثير الكحول والمخدرات

لا توجد رقابة صارمة في لبنان على قيادة المركبات تحت تأثير الكحول أو المخدرات، ما يجعل الطرقات عرضة لمزيد من الحوادث القاتلة. والأمر نفسه ينطبق على القيادة تحت تأثير المخدرات. وفي عدد كبير من الحوادث المميتة، يبادر ذوو السائقين إلى إنكار مسألة التعاطي، ومحاولة طمسها لتجنّب الفضيحة، مفضلين إلقاء اللوم على الدولة وسوء البنى التحتية.

تُحظر المادة 17 من قانون السير «قيادة مركبة تحت تأثير الكحول بنسبة تتعدى نصف غرام لكل ليتر دم»، كما تُمنع «القيادة تحت تأثير المخدرات، أو الامتناع عن الخضوع لفحص نسبة الكحول أو المخدرات، أو نقل عبوات كحول غير مقفلة من مصنعها داخل المركبة». لكن، رغم هذا الإطار القانوني الواضح، فإن الواقع على الأرض مختلف تماماً، إذ لا تملك قوى الأمن حالياً العدد الكافي من الأجهزة أو العناصر اللازمة لإجراء الفحوص بشكل منتظم، ما يجعل تطبيق هذه المواد القانونية شبه معدوم.

3- استخدام الهاتف المحمول أثناء القيادة

المادة 17 من قانون السير تحظر أيضاً «استعمال أي من أجهزة الاتصالات أثناء القيادة»، بما يشمل استخدام الهاتف المحمول حتى عبر السماعات، فضلاً عن حظر قراءة أو إرسال الرسائل أو تصفح الإنترنت أثناء القيادة. لكن هذا الحظر بقي حبراً على ورق. فمعظم السائقين لا يلتزمون به، بل بات من النادر أن تمرّ سيارة لا يكون سائقها مشغولاً بهاتفه. والأمر نفسه ينطبق على سائقي الدراجات النارية. ويصبح الوضع أكثر كارثية حين تقترن هذه الظاهرة بالسرعة الزائدة، ما يجعل من الهاتف المحمول أداة موت حقيقية.

4- أوضاع الطرقات

لا شك في أن الطرقات اللبنانية تعاني من مشكلات متعدّدة ومتشعّبة، من انتشار الحفر والمطبّات وغياب الإنارة إلى انعدام الإشارات التحذيرية. كما تفتقر أعمال صيانة الطرق غالباً إلى المعايير الهندسية المطلوبة، وتتمّ بطريقة «ترقيعية». لكن، رغم ذلك، تبقى السرعة السبب الأول الذي يحوّل الحوادث إلى مميتة. فحتى في ظل أسوأ الظروف على الطريق، من النادر أن تفضي الحوادث إلى وفيات إذا كانت القيادة حذرة، وخالية من التهور أو من تأثير الكحول والمخدرات.

5- تهوّر الدراجات النارية

تسجّل حوادث الدراجات النارية ارتفاعاً ملحوظاً، ولا سيّما تلك التي تقع نتيجة تصادم بين الدراجات والسيارات أو الآليات الثقيلة. وغالباً ما تكون نتائج هذه الحوادث خطيرة، فتؤدّي إلى إصابات قاتلة أو إعاقات دائمة بسبب القيادة المتهورة لسائقي الدراجات النارية، متجاوزين الإشارات المرورية ومتجاهلين قواعد السير الأساسية.

ومن أبرز المخالفات الشائعة، القيادة «عكس السير» على اعتبار أن الدراجات النارية مُستثناة من هذه القاعدة، وهو أمر مخالف تماماً للقانون ويشكّل خطراً مباشراً على السائقين والمشاة على حدّ سواء، إضافة إلى تجاهل أبسط قواعد السلامة كارتداء الخوذة الواقية. كما تُسجّل مشاهد يومية تُظهر تحميل الدراجة بما يفوق طاقتها الاستيعابية، فتجد أباً يقلّ ثلاثة أطفال على دراجة، معرضاً نفسه وأطفاله لخطر داهم عند كل منعطف أو مطبّ.

في الخلاصة، لا يمكن النظر إلى مشكلات السير والسلامة المرورية كقضايا طارئة أو عابرة، بل هي أزمات مزمنة ومعقّدة، تتداخل فيها عوامل البنية التحتية، والإهمال الرسمي، والممارسات الفردية الخطيرة. وقد تحتاج المعالجة الفعلية إلى سنوات من العمل المتواصل، تشترك فيه مؤسسات الدولة والمجتمع المدني والمؤسسات التربوية والإعلامية. لكن، في ظل الارتفاع المتسارع في عدد الضحايا والإصابات، لا بد من اتخاذ خطوات سريعة وفعّالة، تبدأ من التركيز على أمرين أساسيين يمكن أن يحدثا فرقاً فورياً: إلزام السائقين بتخفيف السرعة، ومنع القيادة تحت تأثير الكحول أو المخدرات.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!