الدروز السوريون ما بين تاريخهم العروبي والإغواء الإسرائيلي

صدى وادي التيم – أخبار العالم العربي /
كتب. د عادل مشموشي في اللواء :
يرى البعض ان دروز سوريا في وضع لا يحسدون عليه بسبب الانقسامات التي أحدثها التوغل العسكري الإسرائيلي داخل الأراضي السورية عبر هضبة الجولان المُحتل مروراً بالقنيطرة وصولاً إلى السويداء، بحيث أضحى الجيش الإسرائيلي قاب قوسين أو أدنى من مشارف العاصمة السورية «دمشق»، أما التَّوغل الآخر فهو جيوسياسي بذراع عسكريَّة، ويتمثل بالتدخّل في الشؤون الداخليَّةِ السُّوريَّة تحت شعار حِماية دروز سوريا عسكريًّا وتصنيفهم كأصدقاء للدولة الصهيونيَّة.
تسعى إسرائيل لإقامة منطقة آمنة بينها وبين السُّلطة المركزيَّة في سوريا، وقد روّجت لهذا الأمر بتسويق ذاتها كدولة حامية للأقليات، وجدت ضالتها في دروز سوريا لتَجعل منها درعاً يَدرأ عنها المخاطر الأمنيَّة على جبهتها الشرقية الجنوبيَّة. وترى في الموحدين الدروز أقليَّة دينية متمايزة عن باقي المذاهب الإسلاميَّة بتكتّمها عن مرتكزات العقيدة. وهم وإن كانوا يتوزعون جغرافياً ما بين لبنان «جبل لبنان ومنطقتي حاصبيا وراشيَّا»، كما في جنوب سوريا وبالتحديد في الجولان المحتل والقُنيطرة المحاذية والسويداء وجزءاً قليلاً منهم يعيش في ريف دمشق.
وعلى الرغم من أن حِرص الدروز على تماسكهم
ووحدتهم وتوحُّدهم تجاه أيَّةِ مَخاطر يواجهونها يتحكّم في الاعتبارات التي تَتحكَّمُ بمواقفِ زُعمائهم، إلَّا أنه يبدو أن ما تقوم به إسرائيل اليوم وما تُقدِّمُهُ لهم من إغراءات تهدّد بانفراط عقدهم وتنذر بتفكُّكِهم، علماً أن الحكماء منهم يعون أن أي توجّهاً خاطئاً من أية فئة منهم قد يؤدّي إلى إشعال حربٍ أهلية في ما بينهم كما مع إخوانهم في الوطن، ومن الطبيعي أن تنعكسَ أية أحداث تحصل في سوريا على لبنان الذي يعتبر معقلاً للطائفة الدرزيَّة، لذا يسعى المتنورون من زعمائهم إلى تجنّب تجرّع الكأس الإسرائيلي كي لا يكونوا وقوداً لأيَّةِ نزاعاتٍ مُستقبليَّة.
 

تصرُّ إسرائيل على وضع الزعماء الدروز أمام خيارات مُتباينة مغدقةً عليهم المُغريات بدءاً بتقديم مُساعداتٍ إنسانية وطبية تارةً، وتارةً أخرى بعرضِ حِمايتِهم بعد إثارةِ النعرات المذهبيَّة والقبليَّة لإخافتهم من المكوّن السنّي مذكّرةً إياهم بمَجزرة قلب لوزة (محافظة أدلب) عام 2015، ومُحاولة تقويض ثقتهم بالتَّحالفِ الحاكم الذي يقوده أحمد الشَّرع، وتزكيَة الحساسيات ما بين الزعماء الدروز أنفسهم؛ وهذا ما مكّنها من استِمالةِ بعض زعمائهم الذين أُخِذوا بالإغراءاتِ الإسرائيليَّة وبدأوا يروّجون للتَّحالفِ معها والإستفادةِ من عرضِها الحالي علّها تساعدهم على إقامةِ حكمٍ ذاتيٍّ يرعى خُصوصِيَّتهم.

 

ويقف في الطرف المُقابل مُعظَمُ زعماء الطائفةِ في سوريا رافضين ما أشرنا إليه من عروضات لأنهم لا يأمنون الجانب الإسرائيلي ولا يركنون لوعوده التي قد ينكل بها في أي وقت، ويَتشارك معهم في هذا الموقف الحكيم الزعيم الدرزي في لبنان وليد بك جنبلاط، بل تقدَّم عليهم في رفضِه جهارةً تلك الإغراءات، لأنه يُدرك أنها ستودي بسوريا إلى أتون حرب أهليَّة وسيُنعت المُتعاملون مع العدو عاجلاً أم آجلاً بالعملاء، خاصَّةً وأن التعامل مع إسرائيل يعتبر تنكّراً لتاريخ الدروز العروبي، ويشكِّلُ طعنة في الظهر لسوريا التي لطالما دافعوا عنها وحرصوا على وحدتها.
يتصدَّر دعاة التعامل مع إسرائيل شيخ عقل الطائفة في الجولان الشيخ موفق طريف، ويجاريه في هذا الموقف الشيخ حكمت الهجري «محافظة السويداء» والذي يعتبر أن الحكم الحالي في سوريا متطرف ومطلوب للعدالة، ويقف خلفه زعماء عشيرة الهنادي التي تطالب بعودة الأمن القديم لتأييدها للنِّظام السابق، والتي لم تزل مدعومة من روسيا، ويقف خلفها مجموعة من أهالي القنيطرة بحكم جوارهم للجولان المُحتل، أما في الجهة المُقابلة فيقف شيخ مَشايخ دروز سوريا حمود الحناوي والشيخ يوسف جربوع رافضين التدخّل الإسرائيلي معوِّلاً على الحلول الداخليَّة وموقفهم هذا مؤيَّدٌ من غالبية العَشائر الدرزية ومنها عشيرتي أبو فخر وآلوس.
يبدو الوضع للمتابعين وكأن التاريخ يُعيد نفسه بعد قرن من الزمن، فبوقوف زعيمُ المختارة ضُدَّ التَّوسّع الإسرائيلي يَستعيدُ الدَّورَ الريادي لسُلطان باشا الأطرش عندما انتفضَ في وجه الإستِعمار الفرنسي. وفراسة الأهير التي مكَّنته من أن يدرك مُبكراً خبثِ ومَكرِ المُناورةِ الإسرائيليَّة الهادفةِ إلى سلخِ طائفة المُوَحدين الدروز عن بيئتها العربيَّة، ولم يتردد كسلفه في التَّصدي لهذا المشروع الذي يطال خطره بلاد الشام برمّتها، باعتباره مشروعاً تفتيتيًّا، يقوم على إثارة نَعرات فئويَّة مذهبيَّة خدمة لمَساعي إسرائيلي التَّوسُّعيَّة الإستِعماريَّة.
مُستفيداً من علاقته الجيِّدة بالرئيس السوري الحالي يلعب جنبلاط دوراً محوريًّا دقيقاً لا يقتصر على رفضه العرض الإسرائيلي المشبوه، إنما هو يعمل بموازاة ذلك على لجم المساعي الإسرائيلية بفتحِ الباب أمام النظام الحالي لمُعالجة الموقفِ بعقلانيَّة، من خلال احترام خُصوصيَّة دروز سوريا وتوفير ما يلزم من ضمانات لهم، لتلافي أي تمرُّد تسانده إسرائيل في وجه النظام الحالي. فهل ينجح البك في مَسعاه هذا؟ وهل سيتمكن من تحصين الدروز تجاه الإغراءات الإسرائيليَّة؟ يبدو أن النتائج غير مَضمونة لغاية الآن، لا سيما لو سعت إسرائيل إلى فرضِ وقائعَ جديدة.
 

القلق هو سيِّدُ الموقف اليوم في سوريا، ويبدو أن الإرباك مُسيطرٌ على صُناع القرار في السلطة الحاكمة كما لدى مختلف المكونات، وربما يطال أيضاً الدولَ الغارقة في الوحول السوريَّة بما في ذلك أميركا، تركيا، إسرائيل، العراق، إيران ولبنان. وتُعزى أسبابُهما إلى تَعارُضِ المَصالِحِ بين مختلفِ الجِهات المَعنيَّة، وللفرز جيوسياسي الذي أضحى واقعاً لا يمكن إغفاله. وكل ذلك يحول دون تمكين التَّحالفُ الحاكم من إحكام سَيطرته على سوريا. وهذا يجعل من الصَّعب التَّكهن بمستقبل سوريا، وما إذا كانت الأمور متجهة نحو تثبيت النظام الحالي والحِفاظ على وحدة الأراضي السوريَّة، أم أن الأمور آيلةٌ إلى حًرب أهليَّةٍ تنتهي بتفتيت سوريا إلى كانتونات فئويَّةٍ مُتناحرة.
تبدو المشكلةُ ظاهريًّا في عدم تمكُّنِ التَّحالفِ الحاكِم من إحكام سيطرته على الجغرافيا السُّوريَّة، وقد يُعزو البعض ذلك لعدم نجاحِه في استِقطابِ مختلف المكونات الوطنيَّة، ولعجز الرئيس الحالي عن إقناع قادة الأقليات بضرورةِ انضوائهم في مشروع الدَّولة، والمساهمةِ في إقامةِ دولةٍ مُتماسكةٍ ترعى مصالحَ الجميع وتتعامل معهم على قدر المُساواة في الحُقوق والواجبات. أما من يتعمَّق أكثر فيرى أن إشكاليَّةً جوهريَّةً تتمثَّلُ في تفوُّقِ النَّزعاتِ الانفصاليَّةِ لدى بعض المكونات على انتمائها الوطني؛ كما في تَصلَّبِ كل مكوّن بمواقفهِ نتيجةَ ما يلقاه من دعمٍ وتحريضٍ خارجي؛ ذلك أن الأكراد المدعومون أميركيًّا وإسرائيليًّا يَشترطون للإنضواء في الدولة الاعترافَ لهم بحُكمٍ كانتون يتدبرون فيه شؤونهم، وهم يربطون اعترافهم بشرعية التَّحالف الحاكم بمُوافقته المُسبقة على تخصيصهم بحكم ذاتي ينضوي فدراليًّا تحت مِظلة الدَّولةِ المَركزيَّة؛ والعلويون، وهم بمُعظمهم مُوالين للنِّظامِ السَّابق ومدعومين من إيران والعراق، لم ييأسوا بعد من محاولات إسقاط الحكم الحالي واستعادة النِّظام السَّابق للسُّطة، وإلَّا سيسعون إلى إقامةِ دويلة ساحليَّة خاصَّة بهم. والدروز في الجنوب يُدغدع مشاعرهم الوعد بحكم ذاتي يضمن خصوصيتهم، أما السنّة كغالبيَّةٍ مدعومة تركيًّا وعربيًّا ومعهم المَسيحيون تراهم يناشدون وحدة سوريا وتماسُكها، وغير راضين عن المُحاولات الانفصاليَّة، ولا سيما أنه سبق لهم وارتضوا العيش لما يزيد عن نصف قرن من الزمن في ظل حكم دكتاتور ينتمي إلى أقليَّة ولم يسعوا للإنفصال.
ومما لا شك فيه أن إعادة رسم الخريطة الجيوسياسيَّة في سوريا على ضوء التَّغيّرات العسكريَّة على أرض الواقع أدّى إلى خلط الأوراق وفرضَ ستاتيكو جديد توزعَت الجهات المؤثرة والمعنية على أساسه، ووفقَ ما تُمليه مَصالِحُ كل طرف. وعليه نجد أن الولايات المتحدة لم تعارض إسقاط النِّظام السَّابق إلَّا أنها لم تبادر إلى تأييد النظام الحالي بل وضعته تحت الإختبار، وأبدت مرونة بموافقتها على تجميد بعض العقوبات التي كانت مفروضة سابقاً، أما إسرائيل التي أبدت ارتياحاً لإسقاط النظام السَّابق استغلت الفرصة للإنقضاض على كل المراكز العَسكريَّة الحيويَّة في سوريا وتدمير ما تبقّى من أسلحة، مُعلنةً أنها غير مُرتاحة للتَّحالف برئاسة الشرع، عارضةً توفير الحِمايَةِ لدروز سوريا، مُستغلة مواقف بعض الشَّخصيَّات الدرزية المتماهيةِ مع طرحها للتَّوغُّل داخل الأراضي السوريَّةِ باتجاه السُّويداء وصولاً إلى تخوم درعا، واستهداف المراكز الأمنية الخاصة بالتَّحالف.
ويبدو أن الحليف الأول للتحالف الحاكم «تركيا» غير قادرةٍ على لجمِ إسرائيل، ووقف اعتداءاتها التي طالت معظم الأراضي السوريَّة، وكذلك الحاضنةُ العَربيَّةُ والخليجيَّةُ على وجه التَّحديد تقف عاجزة عن توفير ضمانات دوليَّة وإقليميَّة للنظام الحالي كسلطةٍ شرعيَّةٍ مُعترف بها، ولا حمايته من الاعتداءات الإسرائيليَّة، رغم اقتناعها بضرورة بقائه ومنع تفكُّكِهِ أو إسقاطِه تلافيًّا لأي فراغٍ أو فوضى.
ونخلص من كل ذلك للقول بان الوضع في سوريا من أخطر ما يمكن أن تواجهه العربية، لانه ينذر باطلاق مُخطَّط تنفيذي نعلم كيف يبدا ولكن أحدا لا يستطيع التنبؤ متى وأين وكيف ينتهي، وهذا يدفعنا للقول بأن النظام الحالي في سوريا مدعو للتَّحرك عاجلاً والعمل على توحيد مختلف فصائل الثورة، والانفتاح على المكونات الوطنية بما فيها الجماعات العلمانيَّة، تلافياً لانشقاقات عاموديَّة، وللجم النزعات الإنفصاليَّة بتفهّم خصوصيَّةِ بعض المكوّنات؛ وعلى الدول العربية أن تسعى جاهدة، مستغلة ما لديها من نفوذ وصداقات دولية، لوضع حد للعنجهيَّة الإسرائيلية ووقف أعمالها العدائية تجاه سوريا وغيرها من الدول العربيَّة، ودفعها للإنسحاب من الأراضي التي احتلتها وخاصة بعد عملية طوفان الأقصى.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!