لكيلا تصبح قطمون قرب رميش نسيا منسيّا
صدى وادي التيم – لبنانيات /
هل سمع أحد منكم بـ ”قطمون“؟ بالتأكيد ثمّة قلّة قليلة ممّن سمعوا باسمها أو يعرفون شيئًا عنها، لكن من الواضح كذلك أنّ أكثريّة لم تسمع بها قطُّ ولا تعرف عنها شيئًا، بمن فيهم أبناء الجنوب، إذ تتربّع قطمون عند حدوده الملاصقة لفلسطين المحتلّة. ربّما يظنّ البعض أنّها اسم مسرحيّة من أعمال الرحابنة أو غيرهم، هكذا يوحي اسمها، ويعتقد البعض أنها معلم تاريخيّ لم يبقَ له من وجود.
ولكنّ قطمون بكامل تراثها وتاريخها لا تزال عالقة هناك عند الحدود قرب رميش في قضاء بنت جبيل، ينهشها الاحتلال الإسرائيليّ منذ العام 1948، يقضم أراضيها ويشوّه معالمها التاريخيّة، فيما أصحاب الأراضي فيها وهم من أبناء رميش يراقبون بعين الحسرة أرزاقهم فيها ولا يستطيعون الاقتراب منها.
قطمون شأنها شأن اللبّونة قرب الناقورة (قضاء صور)، ومقام شمعون صفا في بلدة شمع (صور) ومعبد النبي شعيب في بليدا (بنت جبيل) ومقام النبي محيبيب (مرجعيون)، إنّها أماكن ومعالم لم نكن نسمع بها لتأتي الحروب ووحشيّة الاحتلال والعدوان كي تكشف لنا عنها وعن إرث تاريخيّ وطبيعيّ تحوّل إلى خراب وركام. وقطمون واحدة من تلك المعالم التي يصرّ الاحتلال على مسحها بالكامل. وتعد هذه المنطقة منسيّة وغير معروفة كبقيّة المعالم الجنوبيّة، إلا أنّها تحمل من التاريخ ما يتجاوز مساحتها وشهرتها بكثير.

التسمية والتاريخ
قطمون تلّة تقع قبالة بلدة رميش الجنوبيّة على الحدود مع فلسطين المحتلّة، يطلق عليها اليوم اسم ”خربة قطمون“. وبالعودة إلى التسمية، فهي كلمة آراميّة مركّبة من كلمة قَطْ أيّ قطع أيّ قطع الشجر والحشائش أيّ الحطّاب، وآمون اسم الإله آمون وهو إله وثنيّ كنعانيّ له معابد عديدة في لبنان وفلسطين المحتلّة ومصر.
يقول الأب شكر الله شوفاني في كتابه ”تاريخ رميش“ إنّ ”قرية قطمون تعود إلى أيّام الرومان الذين حوّلوها إلى مركز عسكريّ وأقاموا فيها معسكرًا لحمايتها، وحفروا حولها خنادق تصونها من العدو“. لكن لم يبق أيّ أثر لهذه المعالم الرومانّية. وبحسب الأب شوفاني ”فقد شيّد الصليبيّون في الموقع مبنى ضخمًا على شكل عقد حجريّ، بجانبه غرفتان كبيرتان مربّعتان وكنيسة صغيرة. ورمّم الصليبيون السور الرومانيّ فأصبحت القرية مركزًا للسكن والدفاع“.
ومنذ العام 1860، تحوّلت قطمون المهجورة إلى أملاك الخوري يعقوب غانم البكاسيني. وتوزعت معالم قطمون التي لا تزال آثار بعضها قائمة حتّى اليوم، على النحو الآتي: قلعة آل غانم (بعد إعادة ترميم جزء من القلعة الرومانيّة) وهي تضمّ كنيسة صغيرة وستّ غرف سكنيّة، وعشرة منازل للأجراء تحيط بالقلعة وستّ زرائب لتربية الماشية.
سلخ أراض لصالح الاحتلال
أدّى ترسيم ”الخطّ الأزرق“ بُعيد انسحاب قوّات الاحتلال الإسرائيلي في العام 2000، إلى استيلاء الاحتلال على مساحات إضافيّة من قطمون، والتي تعود أراضيها بالكامل إلى لبنان، وعقاريًّا إلى بلدة رميش في قضاء بنت جبيل، وتحتفظ عائلاتها بسندات ملكيّتها، بحسب ما ذكرت جمعيّة ”الجنوبيّون الخضر“.
وعلى الرغم من مرور حِقَب تاريخيّة متنوّعة، وتعاقب حضارات، إلّا أنَّ قطمون ما زالت تحتفظ ببعض معالمها الأثريّة، التي تشهد على تاريخها العريق. فقد بقيت أجزاء من القلعة الرومانيّة قائمة، بالإضافة إلى عشرات الأشجار المعمّرة، منها التوت والتين والزيتون والسنديان، وعديد من أنواع الحيوانات البرّيّة خصوصًا ”غزلان الريم“ التي ظهرت في المنطقة في العام 2017، والنباتات والأراضي التي يزرع فيها التبغ بشكل مستمرّ. إلّا أنّ الاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة على هذه المنطقة، باتت تشكّل خطرًا كبيرًا على أهمّيّتها التاريخيّة والأثريّة والطبيعيّة.
وادي قطمون في مرمى الاعتداءات!
لا تُعدّ الاعتداءات الإسرائيليّة الأخيرة التي طالت قطمون، الأولى من نوعها، فبعد ضمّ جزء كبير من أراضيها في العام 1948، قام الاحتلال في العام 1978 بجرف المنازل المجاورة للكنيسة ونقل جميع حجارتها إلى داخل فلسطين، بالإضافة إلى الخراب الذي لحقها أيضًا في حرب تمّوز العام 2006، وعمليّات التجريف الواسعة للأراضيّ الحرجيّة والزراعيّة وقطع الأشجار المعمّرة بشكل شبه مستمرّ، في أيّام الحرب والسلم.

ويشير ابن بلدة رميش الأستاذ عطالله مارينا إلى أنّ لهذه المنطقة أهمّيّة تاريخيّة كبيرة، فقد شهدت على حقبات وحقبات من الزمن. ويؤكّد لـ ”مناطق نت“: ”تضمّ أراضي قطمون بالإضافة إلى الآثار المهمّة جدًّا، أقدم أشجار تين في لبنان“.
عمّا يجري في هذه المنطقة اليوم، يتابع مارينا ”بيننا وبين إسرائيل صراع تاريخيّ حضاريّ“، مؤكّدًا أنّ ”كلّ ما شهدته وتشهده قطمون اليوم ليس إلّا محاولة مستمرّة لإلغاء الذاكرة والتاريخ. إنّه صراع وجود، وليس صراع حدود“.
لا يمكن أحد الوصول
بدوره يشير أحد مخاتير رميش إيلي شوفاني إلى أنّه ”لا يستطيع أحد اليوم من الوصول إلى قطمون ولا معرفة ما يجري هناك“. ويتابع في حديث لـ ”مناطق نت“: ”نحن كعائلة نملك أكثر من 20 دونمًا من الأراضي المزروعة بالزيتون في قطمون، ولا ندري إذا كانت لم تزل على حالها أم جرّفت في ظلّ غيابنا عنها منذ نحو سنتين بسبب ظروف الحرب، وفي ظل سماعنا بشكل دائم لتحرّكات الآليّات الإسرائيليّة هناك“.
ويشكّك شوفاني ببقاء أشجار أو غطاء حرجي في المنطقة المذكورة فـ ”نحنا هون منتطّلع عالحدود ما عم نشوف الأشجار اللّي كنّا نشوفا قبل الحرب“. وعن تعرّض هذه المنطقة بالذات إلى كلّ هذه الاعتداءات، يلفت شوفاني إلى ”أنّنا نحن مش عارفين ليش إسرائيل حاطّة راسها بقطمون، كل اللّي فيها آثار وأحراج وأراضي زراعيّة، ما في داعي لكلّ هالشي“. ويسأل ويجيب في الوقت عينه: ”ما بدا إيّانا نروح عالحدود؟“.
ما يحصل في قطمون عيّنة عمّا حصل في عديد من مناطق الجنوب في إبّان الحرب الأخيرة وقبلها في عديد من الحروب، من تدمير للتراث والمعالم الطبيعيّة التي تشكّل جميعها إرث الجنوب المعماريّ والتاريخيّ والطبيعيّ، والذي فقد ويفقد أجزاءً كبيرة منه يومًا تلو يوم. وبفقدان أجزاء من ذلك الإرث، لا يفقد الجنوب جزءًا من تاريخه وحسب، بل حيّزًا أساسيًّا من ذاكرته الحيّة التي كانت تحكيها قطمون وعديد من أخواتها التي صارت نسيًا منسيًّا.
مناطق نت – زينب بزي