الريف ينتعش بسواعد الجيل الشاب… ومنطقة الباروك تقدِّم النموذج

صدى وادي التيم – لبنانيات /

الريف اللبناني ثروة لا يُدرِك قيمتها سوى قاطنيه، ولا سيما كبار السنِّ منهم. الريف أو”الضيعة”، كما يسمِّيه اللبنانيون، ليس طبيعة خلَّابة فحسب، وفصولاً تتحوَّل إلى لوحاتٍ ربيعيَّة وشتويَّة، وعاداتٍ وتقاليد يتناقلها الأهالي أباً عن جدٍّ. القرية اللبنانية أكثرُ من ذلك، فهي خزَّانٌ بيئي وزراعي وسياحي ينتظر فقط مَن يعرف كيف ينهل منه.

رغم ذلك، فإنَّ مفهوم التنمية الريفيَّة ما زال غريباً على البلد وأهله، وسط غيابٍ شبه تامٍّ للمبادرات الرسمية في هذا الإطار. تبقى بالتالي المبادرات الفرديَّة التي قد تولد من فكرة في رأسِ شاب، وهو يسمع الموسيقى أو يمارس التأمُّل في أرض العائلة الجرداء، محاطاً ببعض أشجار الصنوبر.

هكذا بدأت حكاية سيزار محمود الذي حوَّل أرضاً توارثَها أهله عن أجداده في الباروك، من عقارٍ مهجور إلى مشروعٍ يُدرُّ المال والآمال على البلدة وجوارها، في منطقة الشوف بجبل لبنان.

 

عام 2017، وبعد أن نال شهادته الجامعية في علوم التسويق، قرر محمود تحويل منزل العائلة بمحاذاة الأرض، إلى بيت ضيافة يستقبل السيَّاح والزوَّار. لم يكن قد بلغ الـ25 من عمره حينها، فإن أفكاره فاقت عدد سنواته. خاطر بالرصيد المصرفي، وبعلاقته مع أفراد العائلة، عندما قرر استقدام منازل خشبية صغيرة إلى العقار. راهنَ على حلمه بالاكتفاء الذاتي، وبنشر ثقافة السياحة المستدامة والتنمية الريفية، واستوحى الاسم من لعبة إلكترونية كانت رائجة في تلك الآونة، “Farmville Barouk” مع أن لا شيء افتراضياً أو رقمياً في المكان.

 

اتَّسعت الـ10 آلاف متر مربَّع لبيت الضيافة، وللمنازل الخشبية، ولمساحاتٍ خضراء تستقبل الزوَّار في إقامة غير تقليديَّة. لن يصحوا هنا على منبِّه الغرفة، إنما على صياح الديك، ثم سيجمعون بأنفسهم مكوِّنات الفطور، قاطفين الخضراوات العضويَّة الطازجة، وجامعين البيض البلدي من قنِّ الدجاج.

وفي مطبخ “Farmville” تُعدُّ سيِّدات من البلدة الطعام، من مناقيش، وبيض بالقاورما، وفول، وغيرها من الأطباق التقليدية.

ثم تنطلق الرحلة إلى أعالي الباروك؛ حيث محميَّة أرز الشوف التي تظلِّل برهبتِها المشروع السياحي وسائر المنطقة. “نحن جزء من المحيط الحيوي للمحميَّة التي تحاكي السياحة البيئية، منذ تأسيسها عام 1996″، هذا ما قاله محمود لـ«الشرق الأوسط”.

ويضيف الشاب الذي بدأ مشواره موظفاً في المحميَّة، فنبتت أحلامه بين جذوع أرزِها المعمِّر: “زوَّار هذا المكان لا يأتون من أجل (ستوري) على (إنستغرام) أو جلسة في مطعم؛ بل يقصدون الطبيعة الشوفيَّة لاختبارها، وللتعرُّف إلى المجتمع المحلي”. هي سياحة تجمع بين الترفيه والأهداف البيئية والصحية.

أما محبُّو المغامرة، فبإمكانهم اكتشاف غابة أرز الشوف عبر الطيران الشراعي، ومن على ارتفاع 1900 متر.

ولأنَّ الطبيعة مُلهِمة وولَّادة أفكار، لا تتوقَّف التجربة عند الإقامة في “Farmville” وزيارة المحميَّة؛ بل تنسحب على أنشطة متنوِّعة. منها ما هو داخل المكان، ومنها ما يحصل خارجه، بما أنَّ شبكة من المشاريع السياحية الريفيَّة الهادفة قد انبثقت عن المشروع الأساسي. فسحة إبداعيَّة يقدِّمها “استوديو الفنون”؛ حيث بإمكان الزوَّار أن يتعلَّموا صناعة الفخَّار، وممارسة هواية الرسم، والمشاركة في أنشطة ثقافية عدة.

كما يفتح المشروع أبواب متجره الصغير أمام الحرفيين من ذوي الاحتياجات الخاصة، لبيع منتجاتهم من صابون، وخزَف، وحليٍّ، وسواها من إكسسوارات.

 

لا تعود الفائدة في “Farmville” على الزوَّار فحسب؛ بل على أهالي المنطقة كذلك. فبالتعاون مع جهاتٍ غربية مانحة، أسس محمود “المطبخ المجتمعي” الذي يستقبل السكَّان المحليين إن أرادوا أن يصنعوا فيه مؤونتهم بواسطة المعدَّات الحديثة التي يضعها في خدمتهم. هذه التعاونية الزراعية هي بمنزلة ملتقى للأهالي الذين يقصدونها لطحن الكشك، أو عصر منتوجهم من الطماطم، وسواها من المحاصيل الزراعية والغذائية.

ليست التنمية المستدامة أنانية، فهي تقوم على مبدأ الشراكة. “إذا كان جارُك بخير فأنت بخير”، مقولة يردِّدها أهل الريف في لبنان، ويستلهمها سيزار محمود. لذلك، فقد حوَّل مشروعه الحلم إلى شبكة من المشاريع، حقَّق عبرها أحلام أشخاصٍ آخرين من أهالي المنطقة.

 

انبثقت عن “Farmville” مبادراتٌ ريفيَّة قوامُها السياحة المستدامة. دعمَ محمود لميا، السيِّدة التي حوَّلت بيتها الصغير إلى دار ضيافة تُعلِّم فيه الزوَّار أصول الطبخ اللبناني. فبعد أن طوَت لميا سنواتٍ في قطاع التدريس، ها هي تخوض تجربة من نوعٍ جديد جعلتها تحقِّق ذاتها معيشياً، وحوَّلتها إلى قدوة في قريتها. “وبذلك نكون، ومن قلب قرية بريح الصغيرة، قد نفَّذنا شعار تمكين المرأة”، كما قال محمود.

أما ليلى وسجيع، اللذان تقاعدا من الوظيفة في الجامعة اللبنانية، وكادا يغرقان في إحباط التقاعد، فعادا إلى الفرح والإيجابية والتطوُّر. في بلدتهما عين وزين، حوَّلا بيتهما إلى طاولة ضيافة تعجُّ بمحبِّي الطعام العضوي التقليدي، والطبيعة اللبنانية الساحرة.

ومن بين المشاريع الرديفة والهادفة للتنمية الريفية: “مزرعة الحمير” (Donkey Farm)؛ حيث يحظى الزوَّار بفرصة الاقتراب من أحد ألطف المخلوقات والاعتناء به. ولا يقتصر الأمر على الحمار؛ بل يتعرَّف الزوَّار، كباراً وصغاراً، إلى سائر حيوانات المزرعة، كالدواجن والمواشي، كما يعتنون بالخضراوات الموسمية، ويقطفون العسل، ويقطِّرون الأعشاب؛ كل ذلك في إطار التوعية البيئية.

ولمَن ظنُّوا أنَّ الحياة نسيَتهم، يفتح المشروع أبواب الأمل. «خالتي رهيجة» خير مثال. فالثمانينيَّة التي تصنع منذ الصغر الكانون التقليدي (أو الموقد) من مادَّة الطين، وجدت مَن يُنعش شغفها ويمنحه هوية وانتشاراً. يزورها روَّاد منطقة الباروك من ضمن جولتهم، يستمعون منها إلى حكايات القرية، ويتذوَّقون حلواها التقليدية، كما يتعلَّمون صناعة الكانون. «كانون رهيجة سافر معنا إلى إسبانيا وتونس، وعرضناه في جامعات إيطاليا، بالتعاون مع منظمات غير حكومية وهيئات تربوية»، كما أخبر محمود.

لم تنعش تلك المشاريع السياحة في المنطقة فحسب؛ بل جذَّرت مجموعة كبيرة من الأهالي في أرضهم. حتى اليوم، أمَّن مشروع سيزار محمود الإنمائي، بما انبثق عنه من مبادرات، أكثر من 70 فرصة عمل، مستقبلاً نحو 25 ألف سائح وزائر. كل ذلك إيماناً بأنَّ ثروة لبنان الريفيَّة لا تستحق المشاهَدة والتصوير فحسب، إنما يجب أن تُحصَّن بالاستدامة.

المصدر : الانباء

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!