لبنان بين الفينيقية والحداثة: إشكالية الهوية الوطنية في دولة متعدّدة الطوائف

صدى وادي التيم – رأي حر بأقلامكم /

ملخص
يتناول هذا المقال التوتر المستمر في لبنان بين موروثه التاريخي الفينيقي وطموحه لبناء هوية وطنية جامعة في إطار دولة حديثة. ومن خلال تحليل بنية النظام الطائفي اللبناني، وتحولات الهويات السياسية والثقافية، تُطرح إشكالية مركزية: هل يستطيع لبنان أن يتحرر من ماضيه الممزّق ويصوغ لنفسه هوية مستقلة لا شرقية ولا غربية؟ يعتمد المقال على منهج تحليلي-تاريخي يستند إلى دراسة السرديات المتناقضة وتفاعلها مع المتغيرات الإقليمية والاقتصادية.

مقدمة:
يُعتبر لبنان حالة فريدة في الشرق الأوسط، حيث يتقاطع التاريخ الكنعاني-الفينيقي مع الطائفية الحديثة، والإنفتاح الليبرالي مع التبعية الجيوسياسية. هذا التناقض البنيوي يُثير تساؤلات حيوية حول إمكانية تأسيس هوية لبنانية وطنية تتجاوز الطوائف والتحالفات الخارجية، وتعكس خصوصية هذا الكيان المهدَّد باستمرار بأزماته البنيوية.

أولاً: الخلفية التاريخية – الفينيقيون كنموذج مؤسس
لم يترك الفينيقيون وراءهم دولة مركزية، بل مدنًا ساحلية متفرّقة اتّسمت بالبُعد التجاري والتحالفات المتقلّبة. الولاء لم يكن للإمبراطورية بل للمدينة (صور، صيدا، جبيل)، والتاريخ الفينيقي يكشف عن نمط سياسي مرن، براغماتي، ومتحالف مع القوى الخارجية مقابل البقاء. ولم يكن الفينيقيون يوما متحدين ضد الغزاة في التاريخ القديم فكانوا على الدوام يوالون المحتلين لضمان حياتهم وتجارتهم فقد احتل الإسكندر صور بعد حصار دام سبعة اشهر ولم تتلق صور أي مساعدة من المدن الفينيقية الأخري.
فقد ذكر التاريخ أن الفينيقيين قد قبلوا بالمحتل الفرعوني واليوناني والفارسي والروماني وتعاونت مدنهم مع المحتلين بضمانة أنوالهم وتجارتهم.

في لبنان الحديث، تُعاد هذه الصورة بمسميات طائفية، حيث أصبحت الطائفة هي الوحدة السياسية – لا المدينة، ولا الوطن. ينعكس هذا في الخطابات، التحالفات، والولاءات المتباينة التي تهدّد وحدة الدولة، مما جعل فريقا من اللبنانيين يمالئون المحتل الفرنسي في العام 1920 ويسوقون له ليس فقط طيلة فترة الإحتلال بل وحتى اليوم، حيث أثبتت الوقائع منذ قيام الكيان الصهيوني الغاصب على ارض فلسطين بأن جزء من اللبنانيين يؤيد ويتعاون علنا مع العدو الصهيوني ضد أبناء “وطنه” وما زال حتى اليوم يدعو العدوان الصهيوني لقتل جزء كبير من اللبنانيين من أجل التخلص من المقاومة التي حفظت لبنان طيلة الثلاثين سنة الأخيرة. ولا يتورع هؤلاء “اللبنانيون” عن طلب دعم الصهاينة والغرب من أجل القضاء على إحدى أكبر الطوائف اللبنانية وبشكل صريح وواضح دون خوف او وجل وهؤلاء نفسهم هم الذين ارتكبوا مجازر صبرا وشاتيلا بحق الفلسطينيين وقسم من اللبنانيين بمساعدة العدو الصهيوني.

ثانيًا: الإشكالية – لماذا لم تتشكّل هوية لبنانية جامعة؟

تتمثل الإشكالية الأساسية في فشل النخب اللبنانية، منذ الإستقلال، في بناء سردية وطنية موحّدة. ما زال التاريخ مادة خلاف لا إجماع، والطوائف ترى نفسها كيانات شبه مستقلة لا شُركاء في وطن جامع.

ويعزز هذا الفشل عوامل أربعة:

  1. الذاكرة المجروحة والمتناقضة بين الطوائف.
  2. التبعية للخارج سياسيًا واقتصاديًا.
  3. غياب اقتصاد وطني منتج يعزّز الشعور بالانتماء.
  4. غياب مقاومة لبنانية جامعة ضد الإحتلال الصهيوني

ثالثًا: هل من إمكانية لبناء هوية جديدة؟
رغم هذه التحديات، تلوح فرص واقعية لبناء هوية لبنانية مستقلة تقوم على:
• الثقافة المتوسطية الجامعة.
• المقاومة الوطنية اللبنانية الموحدة ضد الإحتلال
• المواطنة المدنية بدل الانتماء الديني.
• إعادة بناء الاقتصاد المنتج.
• إصلاح التعليم والمناهج كساحة لبناء الوعي.

بوجد في العالم تجارب عالمية ناجحة مثل سويسرا (التعدد المحكوم بدستور قوي)، ورواندا (ما بعد الحرب الأهلية) تقدم نماذج عن كيف يمكن تجاوز الهويات القاتلة نحو دولة حديثة.

خاتمة:
إن كانت الفينيقية قد مثّلت عبقرية البقاء في غياب الدولة، فإن لبنان اليوم يواجه مهمة معاكسة: كيف يصنع دولة من دون تمزيق العبقرية المتنوّعة التي يملكها؟

إن الإجابة عن سؤال الهوية ليست في الماضي وحده، بل في الشجاعة على إعادة تخيّل المستقبل مع تحقيق إستراتيجية وطنية جامعة تحفظ لبنان من كل معتد يريد به شرا.
فالهوية لا تُورث، بل تُخترَع. ولبنان أمامه فرصة أخيرة لاختراع وطن حقيقي يرفض التبعية والطائفية والمناطقية والزعامات الإقطاعية التقليدية الني لم تكن إلا واجهة مموهة للإستعمار الذي ما تزال هذه الأمة الممزقة ترزح تحت نيره وطغيانه وظلمه ولن يتحقق الإستقلال وبناء الهوية اللبنانية إلا عبر وحود إرادة لبنانية مقاومة صلبة عابرة للطوائف والمصالح الضيقة التي ما اتت على بلد إلا مزقته ودمرته.

(العميد البروفسور تيسير حميَّة العامِلي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!