من يشتري مرابط صيادي صور اللبنانية بآلاف الدولارات؟
صدى وادي التيم – لبنانيات /
تروج في ميناء صيادي الأسماك في مدينة صور البحرية تجارة المرابط التي منحتها وزارة الأشغال العامة المشرفة على الموانئ البحرية في لبنان إلى صيادي الأسماك من أصحاب المراكب المسجلين في نقابة الصيادين كي يركنوا فلائكهم في المياه، ويربطوها بالرصيف البحري خشية أن انفلاتها فتتقاذفها الأمواج، من خلال عملية تهدف إلى تنظيم رسو القوارب في الميناء حتى لا يتحول الأمر إلى فوضى أو إلى جدال بين أصحاب مراكب الصيد والمراكب السياحية حول أحقية الرسو.
إذاً المرابط هي أعمدة أو قضبان صلبة وحديدية مثبتة عند أرصفة الميناء البحرية تربط إليها المراكب والقوارب قبل انطلاقها نحو الصيد أو الرحلات السياحية وبعد عودتها كي لا تتقاذفها المياه فتحطمها أو يصطدم بعضها ببعض فتتكسر، وتساعد الصيادين في أوقات الفراغ على ترتيب أمورهم وإصلاح شباكهم والأعطال الطارئة.
المرابط رهينة العرض والطلب
وضعت وزارة الأشغال العامة والنقل في لبنان من خلال مصلحة استثمار مرفأ صور التي أنشئت عام 1994 كمؤسسة عامة لها استقلالها المادي والإداري (بحسب المرسوم 4517 الذي ينظم عمل المؤسسات العامة)، هذه المرابط بتصرف الصيادين في مهمة تنظيم مواقفهم التي تسجل بأسمائهم وأرقام مراكبهم وزوارقهم وأسمائها، مما يدل إلى أن هذه المرابط وجدت لحل أمور رسو الفلائك ولا يحق استثمارها في التجارة، في بيعها أو شرائها أو حتى تأجيرها، لأنها ليست ملك أصحابها بقدر ما هي ملك معنوي وشكلي محدود لتنظيم أمور الميناء والصيادين والبحارة.
لا يخفى على أحد من بحارة صور، من أصحاب فلائك الصيد أو المراكب السياحية، وحتى على أبناء المدينة وفاعلياتها رواج تجارة المرابط في السنوات الأخيرة، فباتت تباع بآلاف الدولارات لأصحاب المراكب الكبيرة، من المقتدرين مالياً والأغنياء، مما أفقد كثيرين من الصيادين الصغار حقهم بالرسو البحري، ممن باعوا مراكبهم أو تخلوا عنها، مقابل حفنة من الدولارات سرعان ما تبخرت.
تدور هذه الفوضى من دون تدخل الوزارة المعنية، وزارة الأشغال العامة، أو “رئاسة الميناء” التابعة للوزارة والمشرفة على تنظيم أمور البحارة من أصحاب المراكب، ولأن الميناء يخضع لإدارة وزارة الأشغال العامة، لا يحق لبلدية المدينة التدخل في شؤونها لحل هذه الفوضى التي يطلق عليها البعض تسمية “مافيا المرابط”.
ميناء من عمر المدينة
قدر مدينة صور في جنوب لبنان أنها شبه جزيرة يطوقها البحر الأبيض المتوسط من جهات ثلاث ما عدا الجهة الشرقية، حيث المداخل الرئيسة إليها. وهي أصلاً ذات مساحة ضيقة لا تتعدى ستة كيلومترات مربعة، لكنها من أشهر حواضر العالم إذ تستند إلى تاريخ عريق يعود إلى الألفية الثالثة قبل الميلاد، وتعاقبت عليها حضارات عدة أهمها الفينيقية والرومانية، طمعاً بعراقتها الموغلة في الزمن وفي موقعها وتجارتها وصناعتها التي كانت مزدهرة وأشهرها الصباغ الأرغواني والزجاج الشفاف والنسيج، مما جعل ميناءها البحري منفذها الأكبر على مختلف أصقاع العالم ومن أشهر الموانئ التاريخية.
وصور البحرية التي انتسبت إلى لبنان الكبير منذ نشوئه، منذ عام 1920، لم تلقَ الاهتمام عينه الذي كانت تعيشه أيام الفينيقيين ثم الحضارات التي تعاقبت عليها وأهمها: الآشورية والبابلية والفرس والإسكندر المقدوني والرومانية والبيزنطية، وصولاً إلى الفتوحات العربية، ومن الأمويين والعباسيين فالصليبيين إلى المماليك والعثمانيين، كل ذلك أسهم في جعل مينائها البحري أهم الموانئ المشرعة على العالم.
لكن هذا المجد راح يتقلص شيئاً فشيئاً بعدما بدأت تذوى أهميته ويتراجع دوره، ولم يعد يفيد المدينة بأكثر من مهنة الصيد البحري وحركة سياحية داخلية، فيتحول أخيراً إلى مرأب أو موقف للمراكب المزدحمة فيه بحثاً عن مرابط لركنها، مما جعل هذه المرابط تدخل في سوق العرض والطلب وتتحول إلى “سوق سوداء” باهظة الأسعار وذائعة الصيت.
البلدية: “يبيعون ما لا يملكون”
يوافق نائب رئيس بلدية مدينة صور صلاح صبراوي على “أن كل ما يقال عن المرابط في ميناء صور صحيح، فقد ازداد أخيراً عدد المراكب السياحية بصورة كبيرة، مما ضيق المساحة على مراكب الصيادين ممن راحوا يبيعون مواقف أو مرابط مراكبهم لقاء أسعار تصاعدية، مع العلم أن هذه المرابط ليست ملكاً لهم أو ملكاً لأحد آخر، وهذا البيع غير شرعي أو قانوني. تابعنا من خلال الصيادين أن أكثرهم باتوا يبيعون مرابطهم لأصحاب اليخوت الكبيرة”. ويضيف “لكن لا يمكننا التدخل لأن مرجعية أصحاب القوارب هي رئاسة الميناء التابعة لوزارة الأشغال العامة والنقل وليست بلدية مدينة صور، وبأسف شديد تحول هذا الأمر إلى فوضى ونوع من الخراب”.
ويؤكد صبراوي أن “الأرصفة البحرية في صور ليست تحت وصاية أو إشراف بلدية المدينة، بل تتبع وصاية وزارة الأشغال العامة والنقل، أما شؤون الصيادين فترعاها وزارة الزراعة. وكانت بلدية صور قد استقبلت أكثر من مرة وفوداً من الصيادين المعترضين على ما يجري في الميناء، وكان رئيس البلدية المهندس حسن دبوق يتصل برئاسة الميناء في محاولة لتنظيم الأمر ووقف عملية الاتجار بالأرصفة والمواقف، لكن البلدية لا تملك أي تفاصيل أخرى، فهذا الأمر ليس من شأنها، وكون من يبيعون المرابط لا يملكونها أصلاً، وما تدفع من أموال في تجارتها ابتزاز وخوات”.
ويحيل صبراوي الحل إلى “رئاسة الميناء وإدارة المرفأ، أي عند الدولة اللبنانية، فرئيس الميناء هو المسؤول عن تنظيم هذا الأمر ومنع البيع أو التنازل عن الرخص الأساسية الممنوحة لأصحاب الزوارق من دون أسباب مسوغة. الصرخة علت والخبر يضج في المدينة، خصوصاً أن من يملك المراكب السياحية ويشترون المرابط هم من أصحاب النعمة والأرصدة المالية، يشترون مراكب لا أمكنة لها في حوض الميناء، لكن المسؤولين عن العنابر والهنغارات يؤجرونها مقابل مبالغ كبيرة تبدأ أحياناً من 2000 و3000 دولار، ولا نعرف إلى أي مدى ربما تصل الأرقام المدفوعة في مقابل الحصول على مرائب ومرابط”.
النقابة: “استولوا على الأرصفة”
ينفي نائب رئيس نقابة صيادي الأسماك في صور سامي رزق أن تكون لنقابة الصيادين أي علاقة بما يجري من تجارة سوداء للمرابط، “ونحن لا نعرف بالصفقات التي تتم، هناك أشخاص مسيطرون على مرابط في الميناء يقومون بتأجيرها، ويوم أعيد تأهيل الميناء حصلت مشادات حول عرض هذا الرصيف، بعدها فوجئنا بأن الرصيف أضحى يحمل أسماء أشخاص معينين، استولوا عليه، لكن كيف تم هذا الاستيلاء؟ لا نعرف، ولا علاقة للصيادين ونقابتهم به، هذا الأمر منوط برئاسة الميناء التي كان عليها أن تتدخل لإنهاء هذه الفوضى”.
ويشير رزق إلى أن “الرصيف يتسع لنحو 280 إلى 290 مربطاً، بيعت معظمها بالسوق السوداء، مثلاً بيعت فلوكة بـ7500 دولار، من باعها كان اشتراها بمبلغ 5500 دولار”. ويتساءل “أين يكمن الخطأ؟ أنا كصياد إن اقتنيت فلوكة تقول لي رئاسة الميناء تحتاج إلى مربط كي تسجلها، إذا كيف تدخل هذه القوارب الضخمة إلى الميناء؟ وكيف يقبلون باستئجار أصحابها مرابط أو مواقف بأسعار عالية؟ ونحن نعلم أن البلدية لا يمكنها التدخل في هذا الشأن”.
في مهب السوق السوداء
ويروي رزق أنه زار مع وفد من الصيادين وزير الأشغال العامة والنقل السابق علي حمية، “عرضنا أمامه المشكلة، ووعدنا بالتدخل ووقف الفوضى مشدداً على أن الميناء ومرابطه من حق الصيادين، لكن بعد تدخل من تدخل لم يتم حل هذا الأمر ووقف بيع المرابط. أنا كصياد ممنوع عليَّ شراء فلوكة صيد إلا إذا كان لدي مربط، ولا يمكنني شراء مربط لأنه غير موجود ولا يحق لي شراؤه مع أن الميناء للصيادين ويحمل اسمهم”. ويلفت إلى “أننا استحدثنا رصيفاً جديداً تقف عنده بين 100 و120 فلوكة، واستحدثنا رصيفاً آخر ضمن الأحواض الداخلية لم يكن موجوداً سابقاً، لكن لم ينل الصيادون حصتهم اللازمة من هذه الأرصفة والمرابط”. ويضيف، “لا شيء يدخل إلى ميناء صور من البحر أو البر قبل عبور الغرفة البحرية المشتركة، على الأمن العام والجمارك ورئاسة الميناء، ومن دون موافقتها لا يمكن دخول أي مركب مهما بلغ حجمه إلى ميناء صور. إن هيمنة القيمين على الوضع تجعل هذه القضية في مهب السوق السوداء. فقد بيع آخر مربط بـ5 آلاف دولار، وأنا لو كنت أملك فلوكة سعرها أكثر من 5000 دولار، ولديَّ مربط في زاوية مهمة من الميناء، يصبح سعرها 15 ألف دولار، وربما أكثر، مما يعني أن القيمة للمربط، لذلك نجد أن المرفأ أضحى لأصحاب القدرات المالية، وهناك يوجد من يملك 10 مرابط و15 مربطاً، فهل يجوز لشخص واحد أن يكون عنده هذا الكم من المرابط، فقط لأنه يملك المال؟”.
الصيادون يخسرون ميناءهم
وعن تأثير بيع المرابط على الصيادين يسارع الصياد رجاء شعار إلى الإجابة أن “الصيادين لم تعد لهم أمكنة على الميناء، وسوف يصبح الميناء للمستثمرين وأصحاب الأموال، هذا الأمر سيقطع أرزاق الصيادين وينهي مهنة الصيد البحري، ولو أجرينا مقاربة بين عدد الصيادين في صور من 10 سنوات و15 سنة ولعدد مراكب الصيد في المدينة، وبين عددهم اليوم لنجد فرقاً شاسعاً بعدما باع كثر منهم مراكبهم أو محركاتها، وباتت المراكب الخاصة والسياحية أكثر من مراكب الصيادين بكثير، خصوصاً أن هناك من يستغل حاجة الصيادين وفقرهم ليشتري منهم مصدر رزقهم بمبالغ لن تدوم كثيراً، في وقت لن يعود لهم مصدر للرزق”.
ويحمل الصياد شعار “رئاسة الميناء في صور التي تتبع لوزارة الأشغال العامة والنقل مسؤولية هذه الفوضى، هي التي عليها تنظم الأمر ومنع بيع المرابط أو التنازل عنها. مراكب الصيادين لا تحتاج إلى مساحة واسعة أو مواقف كبيرة تركن فيها على نحو المراكب الكبيرة التي تقلص مساحة استيعاب حوض الميناء وأرصفته، هذه الفوضى جعلت الميناء يضيع على الجميع، وبات ينحى باتجاه الوجهة السياحية. هناك بعض المتمولين يقتنون ثلاثة أو أربعة مراكب سياحية وباتوا يحجزون مساحات كبيرة ومتعددة من الميناء، وهذا ما يفقد الصيادين حقهم في مواقف ومرابط بحرية”.
“شكونا ولم تُسمع شكوانا”
يتحدث الصياد شعار عن أن “الصيادين اشتكوا هذا الأمر أمام وزير الأشغال والنقل السابق علي حمية، وكذلك أمام وزير الزراعة السابق عباس مرتضى ولم نحصل على أي حل لهذه المشكلة. لجأنا إلى وزارة الزراعة كونها تختص بمهنة الصيادين، ووزارة الأشغال التي هي مسؤولة عن المرفأ وحوضه ومواقفه ومرابطه، حضر الوزيران إلى الميناء وظننا أن الحل بات قريباً، لكن هذا الموضوع لم يحل أبداً، ولم يسمع أحد شكوانا”. ويضيف، “ربما بسبب عدم وجود أموال لدى الدولة لم يُصر إلى حل الموضوع بتوسيع المرفأ كي يتيح توفير مرابط إضافية. كان يمكن إعادة النظر بميناء الشحن والبضائع في صور وهو حوض كبير لا تدخل إليه البواخر والسفن إلا كل ستة أو سبعة أشهر، وربما تمر سنة ولا تدخل باخرة إلى ميناء صور، يمكن أن تقتطع الوزارة منه حوضاً سياحياً ويجرى تأجيره إلى هذه المراكب، مما يرفد خزانة المرفأ والدولة بأموال إضافية، وهذا الحوض لن يؤثر في دخول البواخر، ويمكنه استيعاب نحو 300 مركب، لكن لا أحد يريد أن يضع حلاً لهذه المشكلة وأن يفكر بصورة صحيحة تفيد الدولة وأصحاب المراكب”.
إدارة الميناء شاهدة على البيع
وعن مجريات البيع والشراء يشرح الصياد شعار “الفلوكة تعني الصيادين ومهنة الصيد، وعندما يشتري الصياد المسجل في النقابة مركباً خاصاً به عليه تسجيله في رئاسة الميناء، فيحصل على ورقة تسمح له أن يستخدم موقفاً أو مربطاً عند الرصيف، وتمنحه رئاسة الميناء التابعة لوزارة الأشغال والنقل رقماً معيناً موجود في توزيع مواقف الميناء، فيمكنه استخدامه لربط قاربه”. ويتابع، “لكن للأسف، كثر من الصيادين باعوا مراكبهم لأجل بيع مرابطهم، ويتوجهون إلى رئاسة الميناء كي يتنازلوا عن المربط لمصلحة الشاري الجديد. يجب على رئاسة الميناء أن تستعيد الرقم ثم تقرر منحه لمن ينتظر دوره، وألا تجيز لصاحب المربط أن يتنازل عنه لمن يشاء، فتتوقف بذلك عملية البيع بالسوق السوداء”. ويؤكد شعار أن “ما يجري اليوم مخالف للقانون، وإذا ما عدنا إلى سجلات المرابط سنجد أن المربط بات ينتقل من واحد إلى آخر، ولمن يدفع أكثر، مما يعني أن هذا المربط بيع في السنوات الـ10 الأخيرة إلى أكثر من شار، وبات الصيادون قلة قليلة من أصحاب المرابط والمواقف”.
مئات المراكب المختلفة الأحجام
يزدحم ميناء الصيادين بمئات المراكب المختلفة الأحجام، وهو أصلاً يقع في نطاق ضيق من مدينة صور الضيقة أصلاً، يقبع عند ناحيتها الشمالية الغربية مطوقاً بمجموعة من الأحياء والأبنية التراثية والمؤسسات المختلفة والمتاجر المتنوعة. وله ملاذ وحيد نحو البحر بعد بناء كاسر الموج وحاصر الحوض على امتداد جهته الشمالية التي كانت منفذه الوحيد والواسع نحو البحر قبل بناء الحاجز البحري، ويحده من الشرق المرفأ التجاري شبه المعطل، لذا يقصده الصيادون وأبناء المدينة سيراً على الأقدام نظراً إلى عدم وجود مساحات للسيارات ضمن طرقات ضيقة جداً، سرعان ما تزدحم.
تراوح مساحة ميناء صور الكلي بين 16 و18 ألف متر مربع، ويختلف عن غيره من موانئ ومرافئ لبنان بأنه يعمل بطاقات وقدرات استيعابية خفيفة لا تؤهله لمنافسة أي مرفأ آخر أو حتى فتح أبوابه وأرصفته أمام البواخر الآتية إلى مياه لبنان. وتختصر حركة الملاحة فيه على استقبال البواخر التي لا يتخطى عرضها 22 متراً والصغيرة نسبياً كبواخر السيارات الآتية من أوروبا وألمانيا تحديداً، في وقت يعجز فيه عن استقبال بواخر وسفن كبيرة بسبب عمق المياه القليل الذي لا يتجاوز تسعة أمتار.
كامل جابر – اندبندنت عربية