عن “الهيبة” وجريمة قطيع الماشية.. أكبر من أزمة دراما إنها أزمة مجتمع
عاشت مناطق واسعة من البقاع الشمالي طيلة يوم أمس أجواء رعب وفوضى متنقلة بفعل اشتباكات عنيفة بعد جريمة قتل ارتكبها شخص من آل مراد أطلق النار على شخص من آل الأحمر وقتله نتيجة خلاف على دخول قطيع ماشية يملكه الأحمر إلى بستان الأول، الأمر الذي تسبب بحرب صغيرة استخدمت فيها كل أنواع الأسلحة، ولم يكتف ذوو الضحية بذلك بل عمدوا إلى إحراق منزل مراد وعدد من منازل أقربائه أيضاً.. هكذا كان المشهد فوضوية وثارات وعنفٌ مكبوت، استحضر دراما رمضان الأشهر “الهيبة”، لكن بشكل واقعي حيث ثقافة العنف الزائد، والدم الكثير، والبطولات المزيفة.
قبلها بيوم كتبنا في هذه الزاوية، تعليقاً على سقوط شابين شهيدين في مدينة طرابلس خلال يومين لأسباب واهية وغير مبررة، وعن أحزان مشابهة لسلسة طويلة من ضحايا القتل المجاني لا تكفّ تتنقل بين منطقة وأخرى، ومن أسبابها استسهال إزهاق الأرواح بعبثية وطيش وتسرّع واستهتار، من دون مراعاة قيمة الحياة وعظمتها.
المسألة أن الإنسان، بعيداً عن الدين والمذهب والرتبة الاجتماعية والمالية، ليس قيمة بحدّ ذاته في لبنان، وعن هذه الشائبة تفرعت إشكالات لا تنتهي تتعلق بحقوق المواطنة، وغياب الدولة، وفكرة الاحتكام للقانون، لمصلحة الانتماء إلى الجماعة المذهبية والعصبيات الطائفية وتجاوز القانون، أو الاحتيال عليه، وعدم التردد في الانزلاق نحو الغرائز وردود الأفعال ولو أدى ذلك إلى سفك الدماء وهزّ الاستقرار.
كيف يمكن تفسير فوضى السلاح، وثقافة اليأس، واحتقار الحياة، و”معاداة” الفرح والنجاح والتميّز والانضباط في بلد انتهت حربه الأهلية “نظرياً” منذ قرابة الثلاثين عاماً؟! ولا تكف السلطة الحاكمة فيه من تكرار كلام كثير، كثير جداً، عن بناء الدولة ومحاربة الفساد، ولا تملّ مرجعياته الدينية من التبشير بالنموذج اللبناني الفريد في الأخوة والتلاقي والتسامي!
مجدداً، إن الاضطراب الذي يضرب المجتمع هو في أحد وجوهه كفرٌ بالدولة، واستسلام لمنطق أن الفراغ وغياب السياسات والرؤى هي المتحكم في تفاصيل الحياة العامة. لأسباب عديدة ومعروفة لا يشعر اللبناني بأنه مواطن، له حقوق وعليه واجبات، وأن فوقه قوانين وأنظمة دون خرقها حساب ومسؤوليات.. المواطن يشهد على تجاوز أهل السلطة للقوانين من أبسط الأمور والمظاهر إلى أعلاها وأكبرها… وكل ذلك أدى إلى – أو شارك في – ازدياد الظواهر السلبية بشكل لافت!
هذه السنة، احتّل لبنان المرتبة 143 من أصل 180 دولة في مؤشر مدركات الفساد، ليُسجّل بذلك تراجعاً مقارنة مع العام الذي سبقه، إذ كان يحتلّ المرتبة 136 من أصل 176 دولة!! وإن بلداً سياساته متأزمة، واقتصاده متدهور، واستقراره مهدد، وأمنه الاجتماعي هشّ، ومحيطه ملتهب يضعنا أمام أزمة حقيقية ومكتملة العناصر والأسباب والتداعيات، مجتمع يبدو مفتوحاً على كل الاحتمالات والسيناريوات والتوقعات.
هكذا يبدو أن مسلسل “الهيبة” بما هو دراما عن مجتمع تحكمه “قيم” تجار السلاح والمخدرات والقَتَلة، مغلفاً بمساحيق الشجاعة والعائلة ومساعدة المهمشين، وبما هو مجتمع المطاريد والمقهورين الذين يقودهم فارٌّ يصطنع كاريزما تغليظ الصوت وعقد الحاجبين طيلة الوقت.. يبدو أنه أكثر من قصة حقيقية، ليس على مستوى المنطقة التي تدور أحداث المسلسل فيها (البقاع الشمالي) وهي منطقة عزيزة وأهلها كرام وطيبون، بل على مستوى الصورة النمطية التي يتم الترويج لها.
وهكذا يتحصل أيضاً أن “الهيبة” ليس انعكاساً لأزمة دراما بقدر ما هي أزمة مجتمع.. وكل ذلك مدعاة لأن “نعكل همّ”.. وهمّ كبير.