“قبضايات بيروت” أسماء رسخت في ذاكرة المدينة وناسها
صدى وادي التيم – لبنانيات /
في قلب بيروت القديمة، حيث تتشابك الأزقّة الضيّقة وتتعانق دروب الحارات المتعرّجة، نشأت حكاية “القبضايات”، أولئك الرجال الذين كانوا أكثر من مجرّد فتوات، بل رموز للشهامة والمروءة. كانوا حرّاس للأحياء، وقادة مجتمعيّين، يفضّون الخلافات ويحصّلون الحقوق لأصحابها، بقوّة بنيتهم الجسمانيّة، وأكثر بحكمتهم المنجبلة بالأصول النبيلة، والأعراف الاخلاقيّة الشائعة، ولطالما تمتّع القبضاي بالكاريزما التي تجلّله بالمهابة، ومحبّة الآخرين في آن.
تكاد بيروت أن تكون المعقل الأساس الذي انتشر فيه النموذج المتكامل لشخصيّة القبضاي، الذي تمتّع بهامش من الحرّيّة والحركة، حتّى لو كان صديقًا أو محسوبًا على البيوتات السياسيّة التقليديّة.
مصدر مصطلح “قبضاي”
كلمة “قبضاي” تركيّة الأصل، مشتقّة من “قب أداي”، التي تعني “الخال القويّ”. في زمن الحكم العثمانيّ، أُطلق هذا اللقب على الرجال ممّن يتمتّعون بالشجاعة والقوّة، القادرين على فرض كلمتهم وسط أحياء مليئة بالتنوّع والتنافس على النفوذ. كان القبضاي يمتلك شخصيّة طاغية، وهيبة تمنحه احترام الجميع، حتّى قبل أن ينطق بكلمة.

لم يكن القبضاي مفتول العضلات فحسب، بل كان رجلًا فطنًا، يوازن بين القوّة والذكاء، ويمتلك قدرة على حلّ النزاعات بطرق مختلفة. كان لباسه مميّزًا، يعكس مكانته: طربوش أحمر بشرابة طويلة يعتمر رأسه، وقميص مخطّط بالأزرق، وشروال مطرّز بالذهب، إلى سترة سوداء، ومعطف فاخر، وحذاء جلديّ لامع.
لم يكن يمشي من دون “خيزرانة” (عصا مطواعة من خشب الخيزران) أو عصا ترمز إلى الهيبة، وسبّحة (مسبحة) من العنبر أو اليُسر، تتراقص بين أنامله، وبطبيعة الحال كان الشاربان من علامات القبضاي، ولو كان خطًّا أسود صغيرًا مرسومًا فوق الشفّة. الجدير ذكره أنّ كثيرين من القبضايات كانوا يعمدون إلى صبغ شعرهم وشواربهم بالأسود بمجرد أن لاحت بوادر الشيب، فيقترن مفهوم القوّة بالشباب.
بين البطولة والسياسة
في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، لمع نجم عديد من القبضايات ممّن لم تقتصر أدوارهم على حماية الأحياء، بل أصبحوا جزءًا من المشهد السياسيّ وكذلك الأمنيّ، وربّما كانت “ثورة الـ 1958” آخر حدث ظهر فيه دور القبضايات في بيروت، حينما انضوى غالبيّتهم تحت لواء الزعيم البيروتيّ صائب بك سلام، لكن قبضايات الأشرفيّة كان لهم رأي مخالف، إذ كان ثمّة تباين في الرأي بين شرق بيروت وغربها ضمن حدود منضبطة، إلى أن اندلعت الحرب الأهليّة في العام 1975، فبرز قبضايات جدد صغار السن، بلا تجارب ولا حكمة، تكمن قوّتهم في أسلحتهم المتنوّعة التي يحملونها.
آنذاك كانت حال القبضايات التقليديّين تلفظ أنفاسها في ظلّ المتغيّرات العسكريّة، بل والقيميّة كذلك، وربّما كان القبضاي جورج الأزرق من محلّة المصيطبة آخرهم، إذ كان له دور اجتماعي ملحوظ في بيروت سنة 1982، بمساعدة المهجرين وتوزيع ربطات الخبز بعد أن يؤمّنها شخصيًّا من الأفران المحلّيّة.
أدوار اجتماعيّة
كثيرة هي الحكايات التي يتناقلها أهل بيروت عن القبضايات، خصوصًا أنّ مجملهم كانوا معفّرين بالشهامة، النمط الذي يحاكي المزاج الشعبي، حيث يميل المرء إلى سماع المواقف التي ينتصر فيها الخير على الشرّ، أو الحكمة على التهوُّر، وها هي حال القبضاي أبو أحمد عيتور، الذي اشتهر بإنفاق ماله الخاص لفضّ أيّ خلاف يستوجب حلًّا ماليًّا، إذ كان يعتبر أنّ “المشكل اللي بينحلّ بالمصاري ما بيعتَبَر مشكل”.
وثمّة قبضاي من آل العيتاني، تكفّل عائلة مكوّنة من أرملة وخمسة أطفال حتّى أسماه الناس “بيّهم” ليدرج الاسم ويترسّخ، تظهر عائلة بيهم المعروفة. أمّا جامع حمد فقد بني على أرض اشتراها القبضاي أمين صفصوف، والقبضاي أبو حسن عيتور، بينما كان القبضاي عبيدو الانكدار (المعروف بالشرقاويّ)، يمرّ في شهر رمضان على “حلويّات شاكر” بباب ادريس ويعطي البائع أموالًا لتوزيعها على المحتاجين، ويسمّونه كسّابًا وهّابًا.
أشهر قبضايات بيروت
حظي القبضاي “أبو عفيف” كريديّة بشهرة واسعة لأسباب عدّة، أبرزها استضافته عبر شاشة تلفزيون لبنان، ليروي المواقف التي عاشها، في زمن كان الجميع يشاهدون محطّة واحدة، ويُعرف عن “أبو عفيف” أنّه طلب من الجنرال ويغان أن يأذن له بجلب رأس هتلر!

من أشهر القبضايات في بيروت نذكر: عبيدو الإنكدار، أحمد البوّاب، أحمد عبد العال، عبد الغني دبيبو، يونس البحري، نخلة العربانيّة، عثمان عبد العال، عكيف السبع، عبد اللطيف النعماني، راشد دوغان، خضر دريان، أبو فيصل شاتيلا، رشاد قليلات، حنّا يزبك، ميشال صليبا، سعد الدين شاتيلا، عبد الغني عانوتي، أبو طالب النعماني ودرويش بيضون.
مدخول القبضايات
لم يكن مدخول القبضايات مستندًا إلى عضلاتهم أو مسدّساتهم، إنّما ساهم صيتهم الجيّد بإنجاح أعمالهم، وأكثرهم كانوا يمتلكون عربات نقل، أو مواقف سيّارات أجرة، أو شاحنات نقل الرمل والحصى، وهناك ممّن كانوا أصحاب مقاه، والمقهى كان له دور اجتماعيّ وتنفيسيّ في أيّ “احتقانات” تحصل هنا وهناك، وبحكم معرفة الجميع بصاحب المقهى، و”مونته” عليهم، كانت تفضّ المشاكل بالتي هي أحسن.
قبضايات الأطراف
على الرغم من أن التسمية الغالبة عليهم هي “قبضايات بيروت”، إلّا أنّهم كانوا عبارة عن زعامات أحياء ومناطق في بيروت كقبضايات البسطة أو الأشرفيّة أو المزرعة أو راس بيروت وغيرها، لكن لم ينحصر “قبضايات بيروت” بالنسيج المجتمعيّ للمدينة، فبيروت التي كانت وجهة للنازحين من الأطراف المهمّشة منذ بدايات القرن الماضي، وتكثّفت بشكل لافت في منتصفه، صنعت ساحاتها وأحياؤها قبضايات جددًا وفدوا من تلك الأطراف وحقّقوا فتوّتهم فيها.

كانت العاصمة بيروت تستقطبهم من مختلف المناطق، حيث يجدون فيها متنفّسًا وفرصًا للعيش والعمل، وكانت تمنحهم شوارعها وأسواقها ومقاهيها مسرحًا لاستعراض حضورهم وهيبتهم. فالعاصمة كانت وما زالت مركزًا للاحتشاد والتنوّع، حيث تبلورت القيم واختلطت العادات، ممّا جعلها ساحة مثاليّة لصراع النفوذ والتنافس بين هؤلاء الرجال الذين شكّلوا جزءًا من نسيجها الاجتماعيّ.
من بين هؤلاء، برز رامز شميساني، والتي تعود جذوره إلى بلدة جباع الجنوبية (إقليم التفّاح- النبطية)، يحمل صلابة طبيعتها وعنفوانها، لكنّه سرعان ما انصهر في أجواء بيروت حتّى صارت لهجته بيروتيًّة خالصة، لا يشوبها أثر لهجته الأصليّة، وكأنّه وُلد وترعرع في أزقّتها. كان رجلًا ضخم البنية، توازي قوّته الجسديّة حضوره الطاغي، لكن أكثر ما ميّزه كان الشطب (الجرح) العريض الذي امتدّ على وجهه، وهو من أثر صراع عنيف دار بينه وبين قبضاي آخر من منطقة الأشرفيّة.
هذا الصراع لم يكن استثناءً، بل كان جزءًا من مشهد أوسع، إذ كانت للقبضايات حروبهم الخاصّة التي تتجاوز الخلافات الفرديّة لتلبس طابع الثأر العائليّ والمناطقيّ. ومن أبرز هذه النزاعات، ذلك الخلاف الدمويّ الذي نشب بين قبضاي من آل عيتور وآخر من آل بيضون، والذي انتهى بمقتل الأوّل، ليردّ أهل الضحيّة بقتل الثاني كنوع من القصاص. ومع تصاعد التوتّر وخشية تفاقم الأمور إلى دوّامة انتقام متواصلة، جرى التدخّل السريع لاحتواء الأزمة، فصدر القرار بحلّ المسألة بطقوس استثنائيّة، إذ تقرّر تشييعهما في جنازة واحدة، كأنّهما رحلا في توقيت واحد لا فاصل بينهما، وأقيمت عليهما صلاة واحدة، في مشهد أراد منه أهل الخير إرسال رسالة واضحة بأنّ الدم لا يعالج بالدم، وأنّ بيروت، على رغم صراعاتها، تبقى مدينة التسويات والتوازنات.
