الحرب تعرقل التجارة الإلكترونية في لبنان
تشهد التجارة الإلكترونية في لبنان تطوراً ملحوظاً رغم الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة التي يمر بها البلد. فمنذ جائحة كورونا عام 2019، اتجه العالم إلى المعاملات الرقمية وتعزيز الخدمات الإلكترونية، مما انعكس إيجاباً على السوق اللبناني، وقد ساهمت هذه التجارة في خلق فرص عمل جديدة، خاصة في المشاريع الصغيرة، حيث وجد العديد من اللبنانيين في البيع عبر الإنترنت وسيلة فعّالة للتغلب على الأعباء الاقتصادية وتكاليف التشغيل المرتفعة.
لكن هذا القطاع الواعد يواجه مجموعة من التحديات الأساسية، أبرزها ضعف البنية التحتية اللوجستية، وغياب مواقع إلكترونية متكاملة تدعم النشاط التجاري الإلكتروني، بالإضافة إلى ارتفاع تكلفة البرمجة وتراجع الثقة نتيجة انتشار المتاجر الوهمية وضعف الرقابة الحكومية. كما أن الأزمات المتلاحقة، مثل الأزمة الاقتصادية والحرب الإسرائيلية الأخيرة، زادت من تعقيد الوضع، خاصة فيما يتعلق بالنقل والوصول إلى بعض المناطق المتضررة.
ورغم هذه الصعوبات، لا تزال التجارة الإلكترونية خياراً جذاباً للعديد من اللبنانيين، خصوصاً في ظل الاعتماد الكبير على وسائل التواصل الاجتماعي للتسويق والترويج، ومع تزايد استخدام خدمات الدفع عند الاستلام، تبرز أهمية هذا القطاع في دعم الاقتصاد اللبناني، مع فرص واعدة للنمو في حال تحسين البيئة اللوجستية والتشريعية.
بالتوازي، لا يوجد في لبنان أي خطط حكومية للنهوض بالاقتصاد الرقمي، باستثناء خطة اقتصادية نشرتها وزارة الاقتصاد والتجارة في العام 2020، وجدت فيها أن “التحول من نظام قائم على الريع إلى نظام اقتصادي منتج يتطلب تحولاً عميقاً – وأحياناً مؤلماً – على جميع المستويات، وركزت الخطة بشكل خاص على العديد من القطاعات الإنتاجية ذات الإمكانات العالية للتصدير، بما في ذلك القطاعات الصناعية والزراعية كونها مصادر للمزايا النسبية الوطنية وخلق القيمة”، لكن الخطة لم تعطِ أي فرص لتشجيع المشاريع الصغيرة والمتوسطة داخلياً، ولم تقدم أي مبادرات لرعاية أو دعم التجار الصغار في لبنان، لخوض تجارب التجارة الإلكترونية.
انتشار ثقافة الشراء “أونلاين”
في هذا السياق، قال الخبير في التسويق وتكنولوجيا المعلومات، علي عميَص، إن الأزمات الاقتصادية العالمية وأزمة كورونا والتطور الكبير في وسائل التواصل الاجتماعي ساهمت في انتشار ثقافة الشراء والبيع “أونلاين” في العديد من الدول، بحيث أصبح العديد من المتاجر يعتمد بشكل أساسي على البيع “أونلاين”، نظراً لبعض الأمور، منها سهولة توصيل الإعلانات للمستهلكين المحتملين ولكون وسائل التواصل الاجتماعي يوجد فيها مليارات المتابعين حول العالم.
وأضاف أنه حسب التقارير التي نشرت في سنة 2023 تشير التوقعات إلى أن حجم التجارة الإلكترونية سيبلغ 20% من مبيعات التجزئة حول العالم أي حوالي 6.3 تريليونات دولار سنوياً، حيث تتصدر الصين وإندونيسيا وكوريا الجنوبية والمملكة المتحدة قائمة الدول الأكثر مبيعاً في معاملات التجزئة “أونلاين”. وتابع: هناك حوالي 27 مليون متجر إلكتروني في جميع أنحاء العالم.
وعلى مستوى الدول العربية تشير التقديرات إلى ارتفاع إيرادات سوق التجارة الإلكترونية من 95 مليار دولار في عام 2024 إلى حوالي 162 مليار دولار في عام 2029 وسط ازدياد كبير في متاجر “الأونلاين” وتطورها، حسب عميَص.
أما على صعيد لبنان، قال عميَص، إنه خلال الحرب وخطورة التنقل على الطرقات بسبب القصف والاستهداف الإسرائيلي والأماكن الجديدة للنزوح لعبت دوراً أساسياً في اعتماد الكثير من اللبنانيين على عمليات الشراء والبيع عبر الإنترنت، وأيضاً تقليص كلفة المحروقات والاعتماد على عمليات التوصيل.
ومن خلال الإحصائيات يتبين أن العدد الأكبر من المشترين بالتجزئة “أونلاين”، هم من فئة النساء والفتيات، ولكن هذا السوق لا يمتلك قيمة سوقية كبيرة بسبب الكثير من العوامل، أهمها عدم وجود بيانات رسمية ومراقبة فعلية من قبل الدولة والوزارات المعنية، حسب عميَص.
ومن خلال حجم الإنفاق على الإعلان، تبيّن أن القطاعات التي تحتل الصدارة في المبيعات هي الملابس والأحذية ووسائل التدفئة، إذ يعود الطلب على تلك الأمور إلى الحاجة الكبيرة والملحة للنازحين إليها، وتتراجع قطاعات الكماليات مثل الهواتف والإلكترونيات وغيرها بحيث قل الطلب عليها خلال الحرب.
تراجع التجارة الإلكترونية
وأوضح عميَص أن الحرب ساهمت في تراجع الطلب على التجارة الإلكترونية من خلال العديد من العوامل، أهمها النقل من البائع إلى المستهلك، وافتقاد العديد من المؤسسات لمخزونها الأساسي بسبب عامل النزوح، وتلك الأمور كانت أساسية في مرحلة ما قبل الحرب.
وبالحديث عن خدمات استرداد البضائع في حال وجود شوائب بها، أفاد الخبير بأن العديد من المواطنين يشكون من الاختلاف بين ما تم عرضه للبيع وما تم إيصاله، مع رفض بعض المتاجر استرداد البضائع أو إرجاع الأموال. ولفت إلى أن بعض أصحاب المتاجر الوهمية يتجاهلون اتصالات الزبائن عند الشكاوى. وأكد أن غياب دور الدولة في متابعة هذه الأمور وملاحقة المتاجر الوهمية يزيد المشكلة تعقيداً.
وتابع أن كلفة البرمجة العالية للمتاجر الإلكترونية حدّت من وجود مواقع تنافسية قوية تواكب أذواق المستهلكين. لذلك، يعتمد العديد من أصحاب المتاجر على وسائل التواصل الاجتماعي لعرض المنتجات المختلفة والترويج لها.
فرغم الأوضاع الاقتصادية الصعبة، سعى الكثير من الشباب إلى خوض غمار التجارة الرقمية وتحويل الأزمة إلى فرصة، ووجد الشاب هادي مراد فرصة لتأسيس مشروعه الخاص في التجارة الإلكترونية، وأطلق مراد متجره الإلكتروني ليقدم من خلاله مجموعة متنوعة من المنتجات المحلية والمستوردة بأسعار تنافسية، مستهدفاً الزبائن الباحثين عن الجودة والراحة في ظل الظروف الصعبة.
قال مراد في حديثه لـ”العربي الجديد”: “بدأت الفكرة عندما أدركت أن الانتقال إلى المتاجر التقليدية أصبح تحدياً بالنسبة للكثير من اللبنانيين بسبب أزمة البنزين وغلاء المعيشة، وأردت تقديم حل عملي عبر متجر إلكتروني يوفر للزبائن احتياجاتهم من دون عناء التنقل أو دفع تكاليف إضافية”. لكن رحلة مراد لم تكن خالية من التحديات، فقد أوضح أن: “أكبر العقبات التي واجهتها كانت ضعف الثقة بين البائع والمشتري، خاصة أن العديد من اللبنانيين ما زالوا يعتبرون التعامل عبر الإنترنت محفوفاً بالمخاطر، إلى جانب ذلك، مشكلة التوصيل شكلت تحدياً كبيراً، حيث إن البضائع قد تتعرض للتلف أثناء الشحن، مما يكبدني تكاليف إضافية لتعويض العملاء”.
وأضاف أن أزمة المصارف اللبنانية فرضت تحدياً إضافياً على المشروع، حيث قال مراد إنه في البداية، حاول إدخال الدفع الإلكتروني خياراً أساسياً، لكن الأزمة المصرفية أجبرته على اعتماد الدفع النقدي عند التسليم، هذا الأمر أبطأ العملية، لكنه في الوقت نفسه زاد من ثقة الزبائن بمتجره”. ورغم التحديات الكبيرة، استطاع هادي تحويل الصعوبات إلى فرص، واستفاد من وسائل التواصل الاجتماعي لتسويق منتجاته والوصول إلى شريحة واسعة من المستهلكين، كما اعتمد على المنتجات المحلية لتعويض نقص البضائع المستوردة في ظل تعقيد الإجراءات الجمركية.
وأكد مراد أن التجارة الإلكترونية في لبنان هي “سلاح ذو حدين”، إذ توفر حلولاً مبتكرة للمشكلات اليومية، لكنها تتطلب من رواد الأعمال إبداعاً وقدرة على التكيف مع التحديات الاقتصادية واللوجستية. وأكد أن بالنسبة له، التحدي ليس سوى فرصة لتقديم تجربة تسوق أفضل، وتحقيق نجاح مستدام رغم كل الصعوبات.
الاعتماد على مواقع موثوقة
في هذا السياق، أفاد رئيس الجمعية المعلوماتية المهنية (مستقلة)، كميل مكرزل، في حديث لـ “العربي الجديد”، بأن التجارة الإلكترونية شهدت ذروتها منذ جائحة كورونا، حيث دفعت العالم إلى اعتماد نظام العمل عن بُعد، وأوضح أن عمليات البيع عبر الإنترنت ارتفعت بشكل كبير خلال تلك الفترة.
وأضاف مكرزل أن لبنان أصدر في عام 2018 القانون رقم 81/2018 المتعلق بالبيانات ذات الطابع الشخصي والتوقيع الإلكتروني، وهو قانون يهدف إلى حماية حقوق المستهلك والمشتري من عمليات التزوير أو الغش. مؤكداً أن العديد من المؤسسات والشركات في لبنان لجأت إلى التجارة الإلكترونية لتخفيف الأعباء المرتبطة بالموظفين وتوفير الوقت والجهد.
وأشار إلى أن هذه التجارة تعتمد بشكل أساسي على سرعة الإنترنت وجودته، داعياً المواطنين إلى الاعتماد على مواقع موثوقة. وعلى الرغم من ضعف البنية التحتية وتراجع خدمات التوصيل، فإن ذلك لم يُثنِ الناس عن استخدام التجارة الإلكترونية، وأن التجارة الإلكترونية ما زالت خياراً مريحاً للعديد من الأشخاص رغم الأزمات الاقتصادية والحروب، حسب مكرزل. لكنه أشار إلى أن الدفع عبر بطاقات الائتمان، الذي كان شائعاً قبل الأزمة الاقتصادية في لبنان عام 2019، أصبح نادراً اليوم، ما أدى إلى تراجع نسبي في نشاط التجارة الإلكترونية خلال تلك الفترة.
من جانبه، صرّح عضو مجموعة العمل المستقلة من أجل لبنان، كنج حمادة، في حديث لـ”العربي الجديد”، بأن التجارة الإلكترونية تُعد توجهاً عالمياً (General International Trend) ليس في لبنان فقط، وهذا التوجه بدأ منذ جائحة كورونا عام 2019، حيث أصبحت غالبية الدول تمتلك خدمات لوجستية تدعم التجارة الإلكترونية، بالإضافة إلى أن هذه الخدمات أسهمت في إنشاء مشاريع عمل صغيرة، خاصة في لبنان، حيث يعتمد عدد كبير من المواطنين على التجارة الإلكترونية بفضل تكلفتها الأقل.
وعلى الصعيد اللبناني، شهدت التجارة الإلكترونية ارتفاعاً ملحوظاً، إلا أن المشكلة تكمن في غياب الخدمات اللوجستية الفعّالة، فلا يوجد موقع إلكتروني متخصص ومتكامل لهذا الغرض، ما يدفع المستخدمين إلى الاعتماد على تطبيقات مثل “واتساب” و”إنستغرام” للتسويق، واكد أنه لا يمكن التغافل أن البلاد تفتقر إلى خدمات توصيل منظمة تكون ذات تكلفة معقولة وجهد منخفض، حسب حمادة.
وأشار حمادة إلى أن الحرب الإسرائيلية على لبنان عقدت الوضع قليلاً، خاصة مع صعوبة الوصول إلى مناطق مثل الجنوب والبقاع، موضحاً أنه خلال فترة الحرب، انخفض الطلب على السلع المستوردة وغير الأساسية، لكنه يعتقد أن تلبية حاجات الزبائن كانت متوازية مع حجم الطلب على البضائع. ومع ذلك، يبقى التخوف الأكبر من خسارة بعض التجار بضائعهم ومخازنهم نتيجة القصف الإسرائيلي.
وأضاف حمادة أن وقف إطلاق النار وعودة الناس إلى قراهم، بالإضافة إلى عودة المغتربين، خاصة خلال فترة الأعياد، ستشهد المشاريع الصغيرة التي تعتمد على التجارة الإلكترونية نشاطاً متزايداً، وأكد أنه على الرغم من النزوح القسري في لبنان، فإن التجارة الإلكترونية ما زالت قائمة، خاصة خلال وجود النازحين الذين استقروا في مناطق جديدة يعتمدون على الطلب عبر منصات “الأونلاين” لعدم معرفتهم بمحيطهم الجديد.
انديرا الشوفي – العربي الجديد