أثر هدم قرى الجنوب وتهجير أصحابها … “القرى الجنوبية تاريخ حيٌّ وأرض موعودة ب العزة والكرامة.” بقلم رياض عيسى
صدى وادي التيم – رأي حر بأقلامكم /
يمثل هدم القرى وتهجير سكانها في الجنوب اللبناني نتيجة العدوان وجعًا دائمًا في وجدان أبناء هذه الأرض الذين ورثوا عن آبائهم وأجدادهم تاريخًا عريقًا وذاكرةً ممتدة في حجارة منازلهم. بيوتٌ كَبُرت مع أبناء القرى، وشهدت على أفراحهم وأحزانهم، وغدت رمزًا لصمودهم وإصرارهم على البقاء رغم الاعتداءات المتكررة والتحديات المتعاقبة، هدم القرى الجنوبية وتهجير أهلها لا يعني فقط فقدان منازل، بل هو مسعى لمحاولة محو هوية شعب، ومسح معالم أصيلة زرعتها الأجيال الماضية بدموعهم وأحلامهم وعذاباتهم. إنه أيضًا هجومٌ على الأمل، فالقرية ليست مجرد حيّز مكاني؛ إنها امتدادٌ للذاكرة الجماعية، ومصدر فخر وانتماء، وجسرٌ يربط الماضي بالحاضر.
عندما يُهدم منزلٌ قديم أو جديد في الجنوب او اي مكان، لا يُزال معه سقفٌ وجدران وأثاث فقط، بل تُطوى معه صفحاتٌ من القصص والحكايات ، والأحلام، والمشاعر العميقة التي احتضنتها وشهدت عليها تلك الحجارة وتلك الغرف. فهذه المنازل ليست مجرد أبنية اسمنتية أو صخرية، بل هي ذاكرة أجيالٍ نحتتْ بالصبر معالمها، وغرست في وجدانها معنى الانتماء العميق للأرض والوطن.
في كثير من الحالات، تُهدم بيوتٌ تاريخية بُنيت بعرق وكدّ، وصُمّمت بحبٍّ وجهد كبيرين، وكان سكانها قد أعادوا بناءها مرارًا بعد أن هدمتها القذائف والطائرات مراتٍ متعاقبة. ورغم ذلك، يعود أصحابها للبناء من جديد، ليعيدوا لبيوتهم روح الحياة ومعناها، لأن كل حجر فيها يروي قصة من الصبر والصمود، ويمثل رابطًا عاطفيًا ووجدانيًا عميقًا يعجز اللسان عن وصفه، وفي كل مرة كانت البيوت على صورة أجمل من قبل لأن أصحابها بثوا فيها من روحهم وجبلوها بدمهم وعرقهم. ولكن وللأسف مع كل عملية هدم اليوم، يتجدد الألم، وتُفتح الجراح، ولكن يزداد التمسك بحق العودة وإعادة البناء مهما كانت التضحيات جسام.
أما في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي يعاني منها لبنان اليوم، تصبح عملية إعادة البناء ضربًا من الصعوبة والتحدي. فإلى جانب التكلفة المادية العالية، يواجه السكان معضلةً أكبر قد تتمثل في وجود مخطط إسرائيلي يستهدف منع الأهالي من العودة إلى قراهم وبيوتهم، وإفراغ المنطقة من سكانها بحجة حماية الحدود. واما إن نجح البعض في العودة، فإنهم سيواجهون رحلة شاقة وطويلة ستستمر سنواتٍ وسنوات لبناء منازلهم من جديد، ولن يتمكنوا من استعادة حياتهم بسهولة. فهم خسروا ايضاً مواسمهم الزراعية ومشاريعهم التجارية وكل مصادر رزقهم، وتشتت شمل العائلات بين نازح ومقيم وشهيد وقد نفتقد لأواصر القربى والعلاقات الاجتماعية التي كانت تشكل قوة المجتمع وتماسكه وتضامنه.
وما يزيد من قسوة هذه المأساة هو الحزن الذي سيخيّم على القرى لسنوات طويلة، بعد فقدان عائلات بأكملها لحياتها أو تشردها او هجرتها بعيدًا عن أرضها، تاركة وراءها فراغًا مؤلمًا وجرحًا عميقًا في ذاكرة الجميع.
يحتاج أبناء الجنوب وكل لبنان اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، إلى دعم محلي ودولي يحفظ حقهم في العيش على أرضهم بكرامة وأمان، ويحمي منازلهم التي تُعدّ حجر الزاوية في هوية كل قرية. فالقرى ليست مجرد مساحات من التراب؛ هي تاريخ حيٌّ وأرض موعودة بالكرامة، ورمز للصمود والبناء والتجدد.
كتب رياض عيسى