تنوع حاصبيا الطائفي يستقطب سياحة عطلتها الحرب

صدى وادي التيم-اخبار وادي التيم/

تتفرّد حاصبيّا ومنطقتها، وصولًا إلى منطقة مرجعيون بتنوّع طائفيّ ومذهبيّ، هو الأكثر غنىً بين مناطق الأرياف اللبنانيّة، إذ تتجاور القرى والبلدات المختلطة دينيًّا، مشكّلة فسيفساء ديموغرافيّة متنوّعة يمتدّ تاريخها إلى مئات السنين. وعلى رغم الحروب الإسرائيليّة التي عصفت بالمنطقة والوجود العسكريّ الفلسطينيّ المبكر فيها منذ أواخر الستينيّات نتيجة اتّفاق القاهرة الشهير، إلّا أنّ المنطقة صمدت بتنوّعها هذا على رغم التصدّعات التي أصابتها نتيجة التهجير والنزوح بفعل تلك الحروب.

في خلال الحرب الأهليّة اللبنانيّة (1975- 1990)، بقيت حاصبيّا ومنطقتها بعيدة نسبيًّا عن مركز الأحداث ولم تتأثّر فيها بشكل فعليّ، لكنّها تأثّرت باكرًا بالحروب الإسرائيليّة والاجتياحات التي أدّت إلى موجات هجرة ونزوح، خصوصًا من الطائفة المسيحيّة، التي تراجعت أعدادها بشكل ملحوظ.

تنوّع فوق التحوّلات

في المقابل، حافظت البلدات الدرزيّة على وجودها، إضافة إلى قرى العرقوب ذات الأكثريّة السنّيّة، ما ساهم في إعادة تشكيل الخريطة الديموغرافيّة للمنطقة. لكنّها وعلى رغم التحوّلات التي شهدتها، بقي التنوّع الدينيّ في حاصبيّا عنصرًا أساسًا في هويّتها، إذ تواصل إبراز تنوّعها كجزء من تاريخها الغنيّ.

تمتد منطقة حاصبيّا بين سفوح جبل الشيخ ووديان نهر الحاصباني، وتضمّ مجتمعًا متنوّعا من الدروز والمسيحيّين والمسلمين، ممّا يعكس واقعًا اجتماعيًّا متميزًا، ويبرز حاصبيّا كمنطقة تعكس التركيبة المتعدّدة الأديان في لبنان.

مزار سيدة حرمون في كوكبا والذي شيّد في العام 2019
ضمن هذا الإطار، يشير المؤرّخ الشيّخ غالب سليقة إلى أنَّ منطقة حاصبيّا كانت تاريخيًّا ذات غالبيّة مسيحيّة، إذ كان الدروز يقيمون في بلدة شويّا. وفي العام 1860 بلغ عدد المسيحيّين 16 ألف نسمة مقابل 900 درزيّ. ويُقال “إنّ مسيحيّي المصيطبة والأشرفيّة وحيفا يتحدّرون من أصل حاصباني”.

فسيفساء ديموغرافيّة

ويؤكّد سليقة في حديثه لـ”مناطق نت”: “أنّ حاصبيّا البلدة الوحيدة في لبنان التي تضمّ ثمانية كنائس ومسجدًا، وخلوات للطائفة الدرزيّة، وكنيسًا يهوديًّا. ومن بين هذه الآثار والصروح، مسجد حاصبيّا الأثريّ الذي يعدّ الرابع من حيث القدم في لبنان. وقد بني في عهد الأمير منقذ الشهابيّ في العام 1170 ميلاديًّا على مساحة 300 متر مربّع”.

ويعرض سليقة لفسيفساء المنطقة الديموغرافيّة وتنوّعها الدينيّ فيقول: “إنَّ بلدة الدلّافة الشيعيّة تقابلها بلدة كوكبا المارونيّة، والتي بدورها ترتبط بعلاقات جغرافيّة مع أبو قمحة والفرديس، وهي بلدة درزيّة. وعلى مقربة منها، تقع بلدة الهبارية السنّيّة”.

مقامات وأنبياء

تكثر المقامات الدينيّة في منطقة حاصبيّا التي كانت على مرّ التاريخ ممرًّا لمعظم الدعوات الدينيّة، إذ شهدت على عديد من الدعاة ممّن مرّوا فيها وتركوا أثرًا عميقًا. ووفقًا للشيخ غالب سليقة، “تضمّ المنطقة مقامات للأنبياء قابيل وهابيل وشيت في الخلوات، وللنبي إبراهيم في شبعا، إذ يتردّد أنّه أقام هناك بعد قدومه من العراق”.

مسجد حاصبيا الذي يعود تاريخ بناؤه للعام 1170ميلادي
يضيف سليقة أنّ بعض أبناء النبي يعقوب دُفنوا في حاصبيّا والمناطق المجاورة، “مثل روبين في حاصبيّا ويهودا قرب المجيديّة. ويُقال إنّ النبي يعقوب أقام في الخيام، التي سُميت نسبة إلى خيامه. وعلى رغم أن النبي موسى لم يصل إلى بلادنا، إلّا أنّ النبي شعيب أكمل دعوته في وادي التيم، حيث تُنسب إليه مزارات عديدة في الفرديس والكفير وبليدا. يقع مقامه الأكبر في حطّين، وقد بناه صلاح الدين الأيوبيّ”. ويكمل سليقة “إنَّ النبي شعيب كان يقيم في المدائن بالسعوديّة، لكنّه فرّ منها واستقرّ في بلادنا، متنقّلًا بين حطّين ومناطق وادي التيم”.

أمّا بالنّسبة للسّيد المسيح، فيؤكّد سليقة أنّه زار المنطقة، ووفقًا للروايات، “إنَّ المسيح قدم من الجولان، مرورًا بجبل الشيخ نحو الساحل اللبنانيّ. ومع قدوم الإسلام، تحوّل سكّان وادي التيم إلى الإسلام، بعد مجيء القائد عمرو بن العاص، ووصول سلمان الفارسي كذلك”.

علاقة الموحّدين بحاصبيّا

كانت منطقة وادي التيم كذلك مهدًا للدعوة التوحيديّة، إذ جاء الدعاة من مصر، ومن بينهم الدّاعية بهاء الدين (بهاء الدين الطائيّ السمّوقيّ الملقّب بالمقتنى) الذي زار بلدتي عيحا وبكّيفا (راشيا)، ثمَّ مرّ بوادي الحاصباني ليكمل إلى الجليل، بحسب ما رواه سليقة. إضافة إلى ذلك، أُرسل الدّاعي عمّار لإتمام الدعوة التوحيديّة، ولكنّه قُتل وغُيّب في بلدة إبل السقي (مرجعيون)، حيث يوجد له مزار هناك. وأيضًا “الشيخ الفاضل”، الذي كان يقيم في كهف ببلدة شويّا في قضاء حاصبيّا، وكذلك في عين عطا ويوجد له مزارات هناك أيضًا.

خلوات البياضة وتعتبر مركزًا دينيًا مهمًا لطائفة الموحدين الدروز
أمّا “خلوات البيّاضة”، فهي تمثّل المرجعيّة الدينيّة لطائفة الموحّدين الدروز. نشأت الخلوات من أجل العبادة، وأسّسها رسل ودعاة الدعوة التوحيديّة في منطقة وادي التيم. في بداياتها كانت منطقة البياضة معزولة عن الناس ومخصّصة للعبادة فقط، يزورها المؤمنون من مختلف المناطق والبلدان، بما في ذلك الأردن وفلسطين. ويقول سليقة: “المؤسّس الأوّل للبيّاضة هو سيف الدين شعيب، الذي كان يأخذ الأطفال لتعليمهم الدين في منطقة معزولة عن النّاس وفقًا لطلب أهاليهم، وذلك العام 1650”.

تعدّد الأديان والمزارات دعامة اقتصاديّة

تُعزّز المقامات والمزارات الدينيّة المقدّسة “السياحة الدينيّة”، وتُعتبر من أهمّ العوامل الداعمة للاقتصاد المحلّيّ. فقد ساهم تنوّع هذه المزارات في زيادة عديد الزوار إلى المنطقة، حيث أصبحت وجهة رئيسة من مختلف الطوائف والمذاهب والمناطق. كذلك لعبت دورًا بارزًا في تعزيز الروابط الاجتماعيّة بين أهالي المنطقة، الذين يتوافدون أيضًا إلى هذه المواقع ويشاركون في الأنشطة التي تُقام فيها، لا سيّما خلال الأعياد والمناسبات الدينيّة المختلفة.

مزار سيّدة حرمون

من بين أبرز الأماكن الدينيّة التي أُنشأت أخيرًا في المنطقة وساهمت في تعزيز السياحة الدينية، مزار “سيّدة حرمون” الذي بُني في بلدة كوكبا العام 2019. وبحسب رئيس بلدية كوكبا إيلي أبو نقول، “إنّ المنطقة شهدت ازدهارًا اقتصاديًّا ملحوظًا نتيجة قيام هذا المزار”. هذا ما يؤكّده أصحاب المطاعم والمنتجعات في المنطقة، معاينين زيادة ملحوظة في نسبة المبيعات مع تدفّق مئات الزوّار من خارج حاصبيّا إلى المزار، ممّا انعكس إيجابًا على الحركة الاقتصاديّة في بلدة كوكبا، واستفادت المحال التجاريّة من هذا النشاط الاقتصاديّ المتزايد.

من الناحية الدينيّة، يسجّل مزار “سيدة حرمون” أهمّيّة كبيرة، إذ إنَّ السيدة العذراء ذُكرت في العهد القديم قبل المسيح، وورد في النصوص أنّها “ارتفعت كالأرز في لبنان وكالسرو في حرمون”. ولهذا السبب، أُطلق عليها اسم “سيّدة حرمون” نظرًا إلى موقعها المقابل لجبل حرمون، بحسب ما أوضح أبو نقول. ويجذب هذا المزار زوارًا من مختلف الطوائف والمذاهب، ممّا يُعزّز الترابط بين أبناء المنطقة. وفي خلال تدشين المزار، حضرت شخصيّات من مختلف الطوائف، ممّا يؤكّد أهميته كنقطة التقاء بين الأديان، ويُساهم في تعزيز الترابط الدينيّ والثقافيّ بين أبناء المنطقة، وهو يُمثّل رمزًا مقدّسًا للمسيحيّين والمسلمين على حدٍّ سواء.

مزار سيدة حرمون ويستقطب أعدادًا كبيرة من الزوّار سنويًا
يعرض أبو نقّول لـ”مناطق نت” تفاصيل إضافيّة عن مزار “سيدة حرمون”، فيقول: “بدأ بناؤه في 7 أيار (مايو) العام 2019 واستمرّ حتّى 17 تشرين الأول من العام نفسه، وقد بلغت تكلفة المشروع نحو 250 ألف دولار. وشهدت عمليّة البناء مشاركة واسعة من قبل عديد من المتبرّعين من مختلف الطوائف، إذ ساهم حوالي 600 شخص في رفع تمثال السيّدة العذراء وبناء البرج. وقام قائد الجيش بتدشين الطريق المؤدّية إلى المزار، ممّا سهل وصول الزوّار إليه وأسهم في تعزيز أهمّيّته كوجهة دينيّة وسياحيّة.

تمَّ تدشين المزار في آب (أغسطس) 2022، وتبع ذلك نشاطات عدّة، من بينها إقامة أعراس ومهرجان كبير استمرّ مدة ثلاثة أيّام في آب 2023. وقد جذب هذا المهرجان آلاف الزوّار وكان له أثر إيجابيّ على الاقتصاد المحلّيّ، إذ وفّر فرص عمل جديدة من خلال إقامة نقاط بيع للمنتجات المحلّيّة والقرويّة.

لكن، مع اندلاع الحرب، أصبح المزار يقتصر على سكّان المنطقة فقط، وتوقّفت النشاطات فيه، لأنّه يقع على تلّة عالية، ممّا أثار مخاوف الناس. فالاهتمام بالسياحة الدينيّة تراجع بشكل كبير، ممّا أثر سلبًا في مختلف القطاعات.

شهدت عمليّة بناء مزار “سيدة حرمون” مشاركة واسعة من قبل عديد من المتبرّعين من مختلف الطوائف، إذ ساهم حوالي 600 شخص في رفع تمثال السيّدة العذراء وبناء البرج

التنوّع في المنطقة حقيقة وليس تمثيلًا!

ويعلّق أبو نقول على التنوّع الطائفي في منطقة حاصبيّا قائلًا: “إنه نعمة لأنّه ليس قائمًا على تمثيل، بل هو حقيقة يُدركها الجميع بعمق. هم مقتنعون بأنهم سيعيشون جنبًا إلى جنب، فالتنوّع والاختلافات هما غنى”. وأشار إلى أنَّ الناس في المنطقة يشترون الأراضي من بعضهم البعض من دون تمييز بين الطوائف.

وفي لفتة تضامنية، قررت بلدية كوكبا عدم إقامة مهرجانها السنوي هذا العام، رغم أن البلدة مسيحيّة وغير معرضة للقصف. جاء هذا القرار تأكيدًا على التضامن مع أهالي القرى المجاورة التي تعاني من ويلات الحرب. وفي هذا السياق، أوضح رئيس البلدية قائلًا: “لا تسمح لي أخلاقي أن أقيم مهرجانًا للرقص والأغاني بينما القرى المجاورة تتعرض للقصف.” يُذكر أيضًا أنَّ كوكبا تحتضن عددًا من العائلات الجنوبية الّتي نزحت من قراها جرّاء القصف الاسرائيلي، ويقطنون في مراكز إيواء افتتحتها البلدية عند بدء النّزوح.

التنوّع الطائفي مصدر غنى

من جهته يتحدّث الشيخ إسماعيل زهرة من بلدة شبعا، عن أهمّيّة التنوّع الطائفيّ الذي تتميّز به منطقة حاصبيّا، فيعتبر أنّ “هذا التنوّع مصدر غنى وقوّة للمجتمع، وليس مجرّد حديث مألوف”. ويقول الشيخ زهرة لـ”مناطق نت”: “نحن نعيش في هذه القرى على مبدأ التعاون بيننا، ونسعى جميعًا إلى تحقيق الخير والمصلحة العامّة. إنّ هذا التنوّع في الطوائف دليل على قدرة الناس على الاندماج والتفاعل، وهو ما ينعكس إيجابًا على علاقاتنا الإنسانيّة والاجتماعيّة.”

ويوضح الشيخ زهرة أنّ “التنوّع في الطوائف والمذاهب يعزّز ثراء الحياة الاجتماعيّة والثقافيّة في المنطقة، ويعزّز المصالح الاقتصاديّة والاجتماعيّة”، مشيرًا إلى أنَّ “التفاعل بين مختلف الأطياف يساعد على بناء علاقات متينة تقوم على الاحترام المتبادل والتعاون في سبيل الخير العام”. ويؤكّد أنَّ “العمل بما يرضي الله هو المبدأ الذي يجب أن نلتزم به جميعًا، بغضّ النظر عن الطائفة أو الدين، ذلك لأنّ التنوّع في الطوائف ليس إلّا وسيلة لتعزيز الانتماء إلى الدين وإظهار صورة إيجابيّة عن مجتمعنا”.

الباحة الخارجية لمزار خلوات البياضة
ميزة المنطقة هي مشاركة الأهالي بعضهم لبعض في معظم المناسبات، إذ إنَّ العلاقات بينهم تظهر بصورة واضحة أنّهمَ يحافظون بقدر المستطاع عليها، بعيدًا من “الخلافات” السياسيّة والاجتماعيّة الّتي تعرقل كلّ مساعي العيش. وضمن هذا السّياق، يؤكّد الشّيخ زهرة أنَّ المشاركة في الأفراح والأتراح والمناسبات المختلفة هي جزء أساس من النسيج الاجتماعيّ في المنطقة”، معتبرًا أنَّه “من واجبنا الإنسانيّ والأخلاقيّ والدينيّ. فنحن نؤدّي هذا الواجب تجاه جيراننا بعفويّة وحسن نيّة، سعيًا إلى تعزيز الروابط والقربى والمودّة بين الأطياف.”

ويؤكّد “أنّ تعّدد الطوائف لا يعني إلغاء طائفة أو تمييز طائفة على أخرى. بل على العكس، هذا التنوّع يعزّز الروابط الدينيّة والاجتماعيّة.”

أبوابنا مفتوحة للنازحين

من جهة أخرى، وفي ظلّ الظروف الأمنيّة الصّعبة التي تعيشها المنطقة، إذ يواجه السّكان تهديدات الحرب والعدوان الإسرائيليّ، يشار الشيخ إسماعيل زهرة إلى أنّ الأهالي في القرى المجاورة فتحوا أبوابهم لاستقبال النازحين، قائلًا: “هذا الموقف يعكس الكرم والأصالة التي يتمتّع بها أهل الجنوب. لقد استقبلوا إخوانهم النازحين بقلوب مفتوحة، وهذا يعزّز تلاحم المجتمع في مواجهة التحدّيات”.

ويلفت الشيخ إلى أهمّيّة مراعاة ظروف العائلات النّازحة، “وعدم استغلالها من حيث رفع الإيجارات”، ويشدّد بالقول: ” يجب على أيّ مالك ألّا يرفع سقف الإيجارات، لأنَّ هذه الظّروف يجب أن تكون وسيلة لتعزيز العلاقات وليست فرصة لتحقيق الأرباح على معاناة الآخرين”.

من الواضح أنّ منطقة حاصبيّا ليست مجرّد بقعة جغرافيّة على الخارطة، بل هي مرآة تعكس تعايشًا عميقًا وتاريخًا غنيًّا من التنوّع الدينيّ والروحيّ. وعلى رغم التحّديات التي واجهت المنطقة عبر السنين، تبقى حاصبيّا رمزًا للتآلف والتسامح، وطموحًا في استعادة دورها الرياديّ كمركز يجمع بين مختلف الأديان والطوائف، مع تعزيز السياحة الدينيّة كمحرّك اقتصاديّ محلّيّ وروح تعاون بين سكّانها وزوّارها.

المصدر: بلال غازية – مناطق نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى