راشيا الفخار: زمن الفدائيين والاتفاق الجنتلمان مع الحزب

صدى وادي التيم-اخبار وادي التيم/

هي بوابة الجنوب من ناحية البقاع الغربي. وهي أيضاّ حارسة سفح جبل الشيخ، وجارة بلدات وقرى العرقوب، شريكتها في “احتضان” العمل الفدائي في أواخر ستينيات القرن الماضي.

هي “راشيا الفخار”، أو راشيا الفوقا. تميزت منذ تكوينها قبل أكثر من خمسمئة عام، بصناعة الفخار، ليصبح اسمها معلماّ من معالم الجنوب ولبنان عموماً، ومقصداً للتجار والمهتمين.

كان” المكارية” يجرون حميرهم وبغالهم، من راشيا الفخار إلى فلسطين وسوريا وسائر المناطق اللبنانية، ينقلون إنتاجهم من الفخار، الذي اشتهرت فيه هذه البلدة الجنوبية. يبدأ ارتفاعها عن سطح البحر بـ800 متر وينتهي بأكثر من ألف ومئتي متر في أعلى تلالها، التي تكسوها الثلوج شتاءّ.

الفدائيون والاجتياح الأول
استقبلت راشيا، كما بعض جاراتها، لاجئين فلسطينيين في بيوتها في العام 1948، ثم نازحين سوريين من قرية الغجر والجولان إبان حرب العام 1967.

وفتحت “راشيا الفخار”، بلدة اليسار اللبناني (الحزب الشيوعي اللبناني) والحزب السوري القومي الإجتماعي، بيوتها وأرضها للمقاتلين الفلسطينيين مطلع العام 1968، الذين بقوا فيها حتى العام 1978، تاريخ الاجتياح الإسرائيلي الأول لجنوب الليطاني.

في ذلك التاريخ، لم يبق في راشيا الفخار منزل واحد مرتفع عن الأرض. فأكثر من 95 بالمئة من بيوتها، وغالبيتها من العمارة القديمة وحجر الكدان، دمرت بالكامل على يد الاحتلال الإسرائيلي مع جارتها كفرشوبا، اللتين كانتا تشكلان قاعدة للمواجهات مع الاحتلال، الذي كان ينفذ عمليات كومندوس فيها، واستشهد داخل كنيستها حيث لجأ إليها الأهالي من القصف الإسرائيلي، 3 أشخاص وأصيب آخرون.

بيار عطالله: نحن من نسيج الجنوب
وفق نائب رئيس بلدية راشيا الفخار، الزميل بيار عطالله، فإن أهالي راشيا الفخار، الذين يبلغ تعدادهم حالياّ حوالى خمسة آلاف فرد، وحوالى 2000 على لوائح الشطب الانتخابية، قد أعادوا بناء بيوتهم حجراّحجراّ بعد اجتياح العام 1978.

وقال عطالله لـ”المدن”، إن راشيا الفخار التي طغى عليها الجو اليساري، لم تبخل تجاه القضية الفلسطينية والدفاع عن أرض الجنوب، حيث زج بالعشرات من شبانها في معتقل الخيام، وأنا من بينهم، إبان الاحتلال الإسرائيلي، الذي امتد حتى أيار العام 2000. وكانت أحزاب البلدة (القومي والشيوعي..) أول من “بايع” الفدائيين في العام 1968، مذكراً بأن راشيا كانت ممراّ للسلاح من سوريا في ثورة العام 1958. وخالفت كل المناخ المسيحي آنذاك بمعارضة الرئيس كميل شمعون، وصولاً إلى حمل السلاح ضده. ولقد دفعت ثمن موقفها انذاك غالياً.

ويضيف عطالله، بلدتنا تعتمد على القطاع الزراعي، لا سيما الزيتون والعنب وسواها، إلى جانب قطاع الدواجن، حيث يوجد على أرضها 12 مزرعة دواجن، تؤمن مقومات العيش بالحد الأدنى وفرص عمل لعشرات العائلات، لافتاّ إلى تراجع العمل بحرفة الفخار من خمسين مشغلاً إلى أربعة فقط. وهي لا تعمل في ظل الوضع الأمني وفراغ المنطقة من غالبية أهلها.

45 عائلة فقط
وفيما يتعلق بالوضع الحالي، لجهة فتح جبهة الجنوب والاعتداءات الإسرائيلية، يوضح عطالله لـ”المدن”، أنه ومع اندلاع النار في جبهة الجنوب، عقد رؤساء بلديات ومخاتير وكهنة من تجمع قرى “درب التجلي”، وهي راشيا، ديرميماس، البويضة، القليعة، كوكبا، مرجعيون، أبو قمحة، إبل السقي، وبرج الملوك، اجتماعاً مع النائبين الياس جراده، وعلي فياض من حزب الله، في بلدية مرجعيون، وكان هناك نقاش وتفهم لتحييد هذه البلدات قدر الإمكان. وكان اتفاق “جنتلمان”.

ويلفت عطالله أن راشيا، التي بقي فيها إلى الآن 45 عائلة من أصل 122، يرفض أهلها أي مزايدة عليهم، وأي تلميح إلى التزامهم الوطني. ويتذكر أهالي راشيا الفخار التاريخ جيداً، وخصوصاً دخول الثورة الفلسطينية إلى بلدتهم، وكيف احتضنها الأهالي ودفعوا الثمن غالياً منذ العام 1968 وحتى العام 1978 يوم قصف الطيران البلدة ودمرها عن بكرة أبيها، ولم يستثن كنيسة القدّيس جاورجيوس الأثرية التي سقط فيها ثلاثة شهداء.
ويشدد عطاالله على أن البلدات المسيحية الجنوبية، ومنها راشيا الفخار، من نسيج الجنوب ومعدنه. وهي شرعت أبوابها خلال حرب 2006 أمام النازحين…
واستطراداً، فإن الدعوة إلى تحييد راشيا الفخار والأهالي المسالمين فيها، واحترام خصوصياتها لا يشكل أي انتقاص من التزامها الوطني. كما تنبع هذه الدعوة من الحرص على عدم تكرار مآسي الماضي ودماره.

جريس عواد: قلنا للفدائيين بيوتنا بيوتكم
ينشط المربي جريس عواد (78 عاماً) في الحقل العام على مستوى بلدته والمنطقة. ويؤكد عواد، وهو أحد قدامى الشيوعيين، أن راشيا الفخار لطالما كانت سنداً فعلياً للقضية الفلسطينية وفتحت بيوتها للعمل الفدائي المقاوم، بكل قناعة وطيبة خاطر، فاستقبلت في لقائين منفصلين العام 1968 قيادات من حركة فتح. الأول، مع منظمة الحزب الشيوعي في راشيا. والثاني، مع منفذية الحزب السوري القومي الإجتماعي، شُرّع على ضوئهما العمل الفدائي الفلسطيني، وقلنا لهم بيوتنا بيوتكم.

ويقول عواد لـ”المدن”، إن راشيا تعرضت لمسلسل طويل من الاعتداءات الإسرائيلية وعمليات الكومندوس 1970 و1972 وتدمير شامل في آذار 1978، حين لم يسلم أي من منازلها. مؤكداّ بأن ارتباط أهالي راشيا بفلسطين عمره عشرات العقود من الزمن.
ويستذكر عواد ما كان يسرده له والده. فيقول “إن والدي كان مثل غالبية أبناء راشيا يعملون في حرفة صناعة الفخار وتجارته، فكان ينقل إنتاجه إلى فلسطين، وتحديداّ إلى منطقة صفد القريبة من بلداتنا. وكان لديه مستودع للفخار في قرية الخالصة، التي تجثم عليها مستوطنة كريات شمونا، يوزع من خلاله بضاعته على الأسواق الفلسطينية عبر البغال”. مضيفاً، “كان لوالدي علاقات طيبة جداّ مع أبناء شمال فلسطين، الذين لجأ عدد منهم إلى راشيا في العام 1948”.

وسيم خليل: حرفة الفخار تواجه الاندثار
ورث وسيم خليل حرفة تصنيع الفخار من والده، مثل الكثيرين من أبناء بلدته راشيا الفخار، ويرأس حالياّ تعاونية تم تأسيسها سابقاّ، أطلق عليها “التعاونية الحرفية لإنتاج وتسويق الفخار”، في محاولة للحفاظ على حرفة الأجداد.

ويقول خليل لـ”المدن”، لا يوجد تاريخ مدوّن لحرفة الفخار. لكنه بحسب توارد الأجيال، فإن هذه الحرفة تعود إلى مئات السنين، حين كان الأجداد والآباء يصدرون إنتاجهم من الأواني المتعددة والمتنوعة بشكل رئيسي إلى فلسطين ونواحي الجنوب كافة.
وأضاف، إن ميزة حرفة صناعة الفخار أنها تؤخذ بالوراثة، كما هو حالنا، إذ كسبت تصنيع الفخار عن والدي وقبله جدي. وقليلون ممن عملوا في الحرفة لم يكن بالوراثة.

ويلفت خليل إلى أنه كان يوجد في راشيا أكثر من 60 مشغلاً لصناعة الفخار في أواخر ستينيات القرن الماضي. وبسبب الاعتداءات الإسرائيلية على راشيا والمنطقة في بداية السبعينيات، وما رافقها من تهجير، بدأت هذه الحرفة تتراجع، لتستقر على 4 مشاغل فقط. وللأسف، لا تعمل منذ سنوات وتحديداّ منذ انتشار وباء كورونا والأزمة الاقتصادية في العام 2019. مشيراً إلى أن التعاونية نظمت دورات عديدة لعدد من أبناء راشيا والجوار بهدف تواصل الجيل الجديد مع هذه الحرفة، إلا أنها لم تلق تفاعلاّ.
وأشار خليل أنه يوماً بعد يوم تواجه هذه الحرفة، التي ارتبط جزء من اسم بلدتنا بها (راشيا الفخار)، خطر الاندثار في أهم بلدة لبنانية في تصنيع الفخار، مرت بعقود طويلة من الأمجاد.

المصدر: حسين سعد-المدن

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى