الأنف… خطّ دفاعنا المناعي المتقدّم

صدى وادي التيم – طب وصحة /

كتب روني عبد النور _
أغلب الظن أن قوى الطبيعة ستخيّب ظنون المراهنين على عدم بروز وشيك لجائحة أخرى من عيار “كوفيد-19”. فقد تكون الأزمة الصحية المقبلة قاب قوسين أو أدنى من انقضاض عامل ممرّض متربّص ما. قبل أيام, أعلنت منظمة الصحة العالمية أن ارتفاع حالات الإصابة بمرض جدري القردة يشكّل حالة طوارئ صحية عامة. لكننا, بالطبع, لسنا هنا بإزاء مصدر القلق الوحيد. فالتأهّب المستدام لخطوط دفاعنا الصحية ضرورة ملحّة. والأنف أحد أبرز الخطوط تلك.
حلّل تقرير لبرنامج الطوارئ الصحية التابع للمنظمة في حزيران/يونيو الماضي أدلّة على وجود 1652 مسبّباً فيروسياً وبكتيرياً للأمراض. وجرى تحديد 33 من المسبّبات كمخاطر وبائية محتملة. القائمة تضمّنت فيروس جدري القردة إيّاه. كذلك الأمر بالنسبة لفيروسات الإنفلونزا “أ” وفيروسات “كورونا” المرتبطة بمتلازمة الالتهاب الرئوي الحاد.
والحديث عن الإنفلونزا و”كورونا” لا يستقيم إلّا باستحضار الأنف بخلاياه المناعية وأوعيته الدموية وأغشيته المخاطية, كجبهة تصدّ للالتهابات الفيروسية والبكتيرية. لا بل ذهبت دراسة نُشرت نهاية الشهر الماضي في مجلة “Nature” إلى تصويره, ومجرى الهواء العلوي, كمعسكر تدريب خلوي. ففي ذلك المعسكر “تتذكّر” الخلايا المناعية مسبّبات الأمراض وتتسلّح دفاعياً بوجه هجمات الكائنات الحية الدقيقة المستقبلية.
الدراسة أشارت إلى “ترسانة” الخلايا المناعية القادرة على محاربة التهابات الجهاز التنفسي في مجرى الهواء العلوي لدى الشباب وكبار السن (وعادةً ما تعاني الفئة الثانية من استجابات مناعية أقلّ زخماً). صحيح أن أبحاثاً سابقة ركّزت على الخلايا المناعية في الدم ومجاري الهواء السفلية لسهولة الوصول إليها, بحسب الفريق البحثي. بيد أن “كوفيد-19” أبرزت كفاءة تكاثُر فيروسية عالية في المجرى العلوي, ما حثّهم على سبر أغوار تلك المنطقة على وجه الخصوص.
شهرياً ولأكثر من عام, جمع باحثون من معهد “لا جولا” لعِلم المناعة الأميركي مسحات من قرابة 30 بالغاً سليماً. فوجدوا فيها ملايين الخلايا المناعية, بينها تلك التي تغذّي الذاكرة المناعية. كما توصّلوا لمسْح اللحمية الأنفية التي يصعب بلوغها لوقوعها في مؤخرة الأنف. فالأخيرة, إذ تتقلّص في مرحلة البلوغ, تحلّل الهواء المستنشَق وتحتوي على هياكل تُسمّى المراكز الجرثومية. والهياكل تلك, المتواجدة أيضاً في غير نسيج مناعي, تتيح للخلايا البائية داخلها صنْع أجسام مضادة فعّالة.
اللافت كان ظهور مراكز جرثومية نشطة في اللحمية الأنفية بغضّ النظر عن أعمار المشاركين. كما أن أنوف مَن أصيبوا بينهم بـ”كوفيد-19″ أثناء الدراسة, حملت الخلايا البائية المتخصّصة باستهداف فيروس “SARS-CoV-2”. وهكذا, تطويراً للّقاحات, يُؤمل من تقنية المسح المذكورة إيضاح ما يثير نشاط المراكز الجرثومية وكيفية تشكيل العدوى الفيروسية للاستجابات المناعية.
على جانب آخر, تمثّل أحد الألغاز المحيّرة التي أفرزتها “كوفيد-19” بتفادي البعض للإصابة تماماً, مقابل إصابة متكرّرة لبعض آخر. لكن تعاوناً بين كليّة لندن الجامعية ومعهد “ويلكوم سانجر” و”إمبريال كوليدج لندن” في بريطانيا, شكّل محاولة لفكفكة ذلك اللغز. وجاء ذلك باستخدام العلماء لـ”تجربة تحدّ” عرّضت متطوعين (أصحّاء, غير ملقّحين وغير مصابين سابقاً بالفيروس), عمداً بواسطة رذاذ الأنف, لجرعة مخفّفة من السلالة الأصلية لفيروس “SARS-CoV-2”.
لطالما أثارت تجارب التحدّي الجدل لناحية تشكيك خبراء في أخلاقيات التعريض العمدي لشخص ما لمسبّبات الأمراض. لكن الباحثين هنا أرادوا تتبُّع تصرّفات مجموعة من العوامل المناعية في الدم وبطانة الأنف, قبل وبعد التعريض, أملاً بتشريح مفصّل لزمان ومكان نشاط العوامل تلك. فأخضعوا المتطوعين لمراقبة حثيثة, تزامناً مع أخذ العيّنات, لدراسة استجابتهم للفيروس في بيئة آمنة وشديدة التحكّم.
الدراسة, التي نُشرت أيضاً في مجلة “Nature” قبل شهرين, جمعت عيّنات من الأنسجة الواقعة في المنتصف بين الأنف والحلق, إضافة لعيّنات دم من 16 متطوعاً (أُخذت قبل تعرُّض المشاركين للفيروس, لتحديد قياس معياري, وعلى فترات منتظمة بعد ذلك). وبواسطة تقنية تحليل الخلايا المفردة, وجد الباحثون أن تعريض المتطوعين لنفس الجرعة من الفيروس, لم يؤدّ لإصابتهم جميعاً بالمرض.
في التفاصيل, تعرّض ستة متطوعين لإصابة خفيفة نموذجية لأيام عدّة مرفوقة بما يشبه أعراض البرد. وأصيب ثلاثة آخرون بعدوى متوسطة وأعراض محدودة في الأنوف سرعان ما لجمتها أجسامهم. في حين لم يُصب السبعة المتبقّون نهائياً ولم تظهر عليهم أي أعراض. وهو تناقُض بشي بأن النشاط السريع في موقع العدوى قد يمنع الفيروس من التجذّر.
كذلك, بيّن مصابو العدوى المتوسطة تراكماً حادّاً وفورياً للخلايا المناعية في الأنف بعد يوم من الإصابة. ذلك بعكس مجموعة الإصابة الخفيفة, حيث تأخّرت الاستجابة للإصابة خمسة أيام. وحُدّدت الخلايا المحفّزة لدى هؤلاء بواسطة استجابة دفاعية مضادة للفيروسات في كل من الأنف والدم. ونتحدّث هنا عن استجابة “الإنترفيرون”, حيث أن “الإنترفيرونات” – كوسائل بثّ إشارات لجهاز المناعة – تسهم في الإضاءة على التهديد الفيروسي, وجذْب الخلايا المقاوِمة للعدوى.
تجلّت المفاجأة باستجابة الدم قبل الأنف, ما يعني انطلاقاً سريعاً لردّ الفعل الأنفي المناعي. وهو تفسير لقدرة الجهاز المناعي على استشعار حدث ما ونقله إلى الجسم حتى قبل اكتشاف الخلايا المستهدَفة له. تزامن ذلك مع تحديد الخبراء لاستجابة مناعية أكثر كفاءة من خلال جين “HLA-DQA2” الذي جرى التعبير عنه  بمستوى أعلى بكثير لدى من تجنّبوا عدوى الأيام المتعدّدة.
في نفس السياق, دقّقت ورقة بحثية أميركية, حُمّلت على خادم “bioRxiv” بداية العام الحالي, في الدور الوظيفي للخلايا التائية (CD4+ وCD8+) ضد العدوى الفيروسية في كل من الجهازين التنفسيّين العلوي والسفلي. وعرّضت التجربة الفئران المعدّلة وراثياً لجرعات متفاوتة من متغيّر “BA.1.351” الفرعي لفيروس “كورونا”. فوقعت تقييمات الاستجابة المناعية على أدلة على وجود عدوى فيروسية في الجهازين التنفسيّين المذكورين. غير أن ما أثار الدهشة هو ضعف تنشيط الخلايا التائية في الرئتين. وفي ذلك إشارة لأمرين: الدور المحدود للخلايا التائية في الالتهابات المرتبطة بالرئتين؛ ونشاطها الفاعل في تجويف الأنف والشبكة التنفسية.
بالعودة إلى العامل العمري, يميل الخبراء للاعتقاد بأن توازن الخلايا الأنفية يرتبط به مباشرة, ما يحتّم التركيز على الشيخوخة عند تطوير العلاجات المقبلة. لكن ثمة عاملاً آخر لا يقلّ أثراً. فقد أظهرت دراسة, نُشرت في مجلة “Journal of Allergy and Clinical Immunology” العام المنصرم, أن انخفاض درجات الحرارة يجعل الخلايا الأنفية أقلّ إفرازاً للمواد الواقية الصغيرة المحيِّدة للجراثيم. والحال أن المخاط الأنفي يحتوي على حويصلات صغيرة خارج الخلية تنشط, أثناء العدوى, على خطّ مكافحة الفيروس. لكن درجات الحرارة المنخفضة تعيق عملية الإطلاق الخلوي لها بغية شلّ حركة الفيروس, ما قد يفسّر شيوع نزلات البرد والتهابات الجهاز التنفسي العلوي شتاءً.
تأثير الحرارة المنخفضة يطال أيضاً “الإنترفيرونات” آنفة الذكر, محدّاً من نشاطها هي الأخرى. وهكذا, بحسب الباحثين, يمسي الدور الوقائي لارتداء الكمامات (المكروهة من كثيرين) مزدوجاً: منْع استنشاق الجسيّمات الفيروسية, أوّلاً؛ والحفاظ على درجات حرارة أنفية عند مستوى أعلى نسبياً من البيئة الخارجية, ثانياً.
هو الأنف, إذاً, بقدراته غير القليلة. ذلك العضو الذي يوصّفه بنيامين بليير, أخصّائي الأنف والأذن والحنجرة في مستشفى “ماساتشوستس” الأميركي للعين والأذن, بنقطة اتّصالنا الأولى بالعالم الخارجي. فهل ثمة مبالغة باعتباره خطّ دفاعنا المناعي الأكثر تقدّماً أيضاً؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!