سميح القاسم أو الشخصية الدرزية الفلسطينية الحقيقية
صدى وادي التيم – متفرقات /
كان لي شرف التعرف إلى سميح القاسم عام 2000 عندما رافقت الرئيس وليد جنبلاط إلى الأردن من ضمن وفد حزبي ضم الرفيق غازي العريضي والرفيقين المرحومين المقدم شريف فياض والمحامي دريد ياغي للقاء وفد من الشخصيات الوطنية الدرزية من الداخل الفلسطيني المحتل عام 1948، في سياق مسيرة رفض التجنيد الإجباري في جيش الاحتلال الإسرائيلي وتثبيت الهوية العربية الإسلامية لدروز الداخل المحتل بعد كل ما تعرضت له من تشويه على يد المؤسسة الصهيونية.
بتندره المرير، لم يخف القاسم يوما مراراته من تعامل العرب مع أبناء الداخل المحتل، وهو تعامل تدرج من التجاهل إلى حدود التخوين ممن لم يفهم موعظة البقاء في الأرض التي مثلها سميح القاسم وعزمي بشارة وتوفيق زياد وغيرهم من الشخصيات الوطنية، سياسيا وثقافيا، والذين صنعوا ثقافة جديدة لمواجهة الاحتلال بطريقتهم الخاصة، فكمنوا في أرضهم رغم كل المعاناة، وقاتلوا ضمن ظروف بقائهم الذي تحول مع الوقت إلى معضلة جذرية لدولة الاحتلال الإسرائيلي.
أدبيا، أكتفي بالقول إن البقاء في فلسطين أرهق سميح القاسم إنسانيا وروحيا وظلمه أدبيا، فيما أنصف التشتت محمود درويش أدبيا، وهو يستحق ذلك وأكثر، وقد أضناه روحيا وإنسانيا. وفي وقت أحيت فيه أشعار محمود درويش وأفكار غسان كنفاني ورسومات ناجي العلي فكرة العودة بالكفاح، فإن أدب البقاء المتجذر في فلسطينيته شكل الزاد الأساسي لفكرة الانتماء الفلسطيني والعربي التي عاشت بفضل ثقافة المقاومة بين أظفار العدو وتحت مسام جلده، وكان سميح القاسم من أبرز أركانها إذا لم يكن أبرزهم على الإطلاق .
عندما سئل القاسم، الفلسطيني العربي الدرزي ابن بلدة الرامة، من أحد الصحافيين عن رده على من انتقده من العرب لقبوله الجنسية الإسرائيلية، أجاب بالقول: “إذا ما خيروني بين أن أدمغ نجمة داوود على جبيني أو على قفاي أو أن أترك بلدتي الرامة، لاخترت الدمغ على ترك قريتي .
في ذكرى رحيل الشاعر سميح القاسم في 19 آب 2014 تحضرني فكرتان:
أولا: لم يكن البقاء خيارا متاحا لدى أبناء الشعب الفلسطيني الذين هجرتهم المجازر الإسرائيلية، وعددهم 800 ألف، وكذلك فإن البقاء لم يكن استراتيجية لدى من بقوا في أرضهم، بل كان فطرة وغريزة أملتها فكرة الارتباط بالأرض، لكن هذا البقاء تحول مع الوقت إلى واقع ديموغرافي وقانوني وسياسي يمثل معضلة كبرى لدولة الاحتلال التي استخفت عام 1952 بمعنى بقاء 150 ألف فلسطيني في دولة الاحتلال الناشئة، حيث كان رهان المؤسسة الصهيونية على تطويعهم ضمن فكرة الأسرلة أو خلق الهوية الإسرائيلية المأمولة، وقد تحولوا اليوم إلى ما يزيد على مليوني عربي يعيشون في “دولة إسرائيل” ويمثلون 22 في المئة من مجمل الناخبين الإسرائيليين، مقابل سبعة ملايين ونصف مليون يهودي وفق آخر إحصاء لدائرة الإحصاء المركزية الإسرائيلية، مع ما يعنيه ذلك من فرص مستقبلية في مجرى الصراع، الذي وإن كانت غزة والضفة ميدانه الدامي اليوم، فلا بد أن يأتي وقت يصبح عرب الداخل المحتل جزءا أصيلا من مساحة هذا الصراع مع الاحتلال وديناميته، وما إقرار الكنيست الإسرائيلية لقانون يهودية الدولة عام 2018 إلا استدراك واعتراف إسرائيلي متأخر بفشل تجربة الأسرلة وإعلان الهلع من وجود العرب والبحث عن سبل للتخلص منهم، رغم القصور السياسي الكبير من القوى والكتل والشخصيات الممثلة للعرب في صياغة موقف متناغم بالحد الأدنى، إذا لم نقل صياغة موقف موحد في التأثير في مجرى هذه المعركة، مع الاعتراف سلفا بالمحاذير الأمنية والقانونية التي تحيط بمعظمهم نتيجة الممارسات العنصرية لدولة الاحتلال.
ثانيا: لا يمثل الشاعر سميح القاسم نفسه، بل يمثل بداهة فلسطينيته ويمثل بيئته الدرزية وانتماءها الذي عبر عنه خير تعبير كشاعر للمقاومة وقيثارة فلسطين كما كتب عنه أكثر من كاتب، وهو الذي ضج شعره بمعاني الاعتزاز بالهوية العربية والتمسك بالأرض. وبهذا المعنى، وفي خضم الجدل حول موقف العرب الدروز من أبناء الداخل المحتل، فإن سميح القاسم هو النموذج الدرزي الحقيقي والمثال الحقيقي للشخصية الدرزية الفلسطينية، وليس أي شخص أو مرجعية أخرى تنقلب على هويتها وتاريخها وانتمائها وتتساوق مع المؤسسة الصهيونية وتدعي عيش هوية إسرائيلية زائفة أنكرتها إسرائيل نفسها، فيما يدعون هم التمسك بوهمها، والمواطنة في دولة أسقطت كل مفاهيم المواطنة، وبات من فيها يشكلون نموذجا هجينا تدفعه المصالح والأنانيات ويستند إلى إرث مستجد، عابر وزائف سياسيا وأخلاقيا وتاريخيا، يعيش على أكذوبة روتها المؤسسة الصهيونية وصدقها بعض السذج والمتآمرين مثل بعض النماذج الخادعة التي يصر الإعلام الصهيوني على تقديمها للواجهة باعتبارها تمثل العرب الدروز من أبناء الداخل المحتل، ومنهم من يعمل في مستعمرة إسرائيلية ولا يحسن نطق اللغة العربية، ويعمل في مكاتب المخابرات الإسرائيلية ولا يمت بأي صلة إلى الإرث التاريخي لدروز فلسطين.
سميح القاسم لم يعبر فقط بشعره، بل كان من أوائل العرب الدروز الذين رفضوا الخدمة الإلزامية في جيش الاحتلال، وعندما سيق بالقوة إلى الجيش رفض حمل السلاح أودع السجن وأجبر بصموده قيادة جيش الاحتلال على تكليفه مهمات غير عسكرية، فأرسل ممرضا إلى غرفة الموتى في مستشفى رامبام في حيفا ثم عاد الاحتلال واعتقله صبيحة يوم 5 حزيران من العام 1967، واستمر في اختبار السجن والإقامة الجبرية والطرد من العمل وفي تمثيل الهوية المركبة للعرب الفلسطينيين الدروز من أبناء الداخل المحتل.
في ذكرى رحيله، يبقى سميح القاسم وعزمي بشارة وسلمان ناطور وقيس فرو وتوفيق زياد وسعيد نفاع التعبير الحقيقي عن حقيقة العرب من ابناء الداخل المحتل، وسيأتي يوم يدرك العرب فيه قيمة بقاء أبناء الداخل، وتبقى قصيدة سميح القاسم أنشودة الشعب الفلسطيني من داخل كيان الاحتلال ومن فوق ركام المجتمع الذي دمره الاحتلال، والذي سينهض وينتصر مهما طال الزمن.
وفي معرض استذكاره، يطيب لنا استعادة بعض من شعره:
“احكي للعالم احكيله
عن بيت كسروا قنديله
عن فأس قتلت زنبقة
وحريق اودى بجديلة
احكي عن شاة لم تحلب
عن عجنة ام ما خبزت
عن سطح طيني اعشب
احكي للعالم احكيله”.