الحرب والقلق يحاصران متنزّهات الليطاني الجنوبيّة.. نفتح أو لا نفتح؟
صدى وادي التيم – لبنانيات /
يحضر نهر الليطانيّ في كلّ الحروب التي تشنّها إسرائيل على لبنان، ليس منذ “طوفان الأقصى”، أيّ منذ ثمانية أشهر سلفت فحسب، بل من نحو ثمانية عقود، منذ احتلال فلسطين، وما حصل بعدها من اعتداءات على جنوب لبنان، وصولًا إلى إطلاق اسم “عمليّة الليطانيّ” على العملية العسكريَّة الّتي قام بها جيش الاحتلال الإسرائيليّ على الجنوب في العام 1978.
يشكّل نهر الليطاني في الوقت عينه، مصدرًا معيشيًّا لمئات العائلات التي تنتشر على جانبيه، ونطاقًا حيويًّا لما حوله، وخصوصًا في مناطق عبوره الجنوبيّة، بعيدًا عمّا إذا كان هذا المصدر تشوبه الفوضى، أو مكرّسًا في الأطر القانونيّة أو غير مقونن. وهو كذلك متنفّس سياحيّ بارز لآلاف العائلات الجنوبيّة أو حتّى العائلات التي تقصده صيفًا من مختلف المناطق اللبنانيّة، إذ تنتشر على ضفّتيه عشرات المتنزّهات والاستراحات والمطاعم، بدءًا من الدلّافة قرب حاصبيا، وصولاً إلى مصبّه في البحر عند القاسميّة، قرب مدينة صور.
ينطلق الموسم السياحيّ على ضفّتي نهر الليطاني، عادة في أواسط شهر حزيران/ يونيو من كلّ عام، وقد جعلت بعض المتنزّهات لها محطّات متنوّعة ودائمة طوال أيّام السنة. اليوم وبعد ثمانية أشهر من الحرب الدائرة في غزّة وفي المناطق الجنوبيّة، لا سيّما في البلدات والقرى الحدوديّة التي تتعرّض يوميًّا إلى وابل من القصف والغارات وسقط فيها وحولها أكثر من 300 شهيد فضلًا عن أكثر من 90 ألف نازح، كيف تأثّرت مجموعة المتنزّهات بهذه الحرب؟ وإلى أين تتّجه مع حلول موعد موسمها السياحيّ الصيفيّ والحرب لمّا تزل قائمة، بل وتشتدّ عنفًا وتصعيدًا يومًا بعد يوم؟
سياحة في أجواء الحرب؟
يعيش أصحاب هذه المتنزّهات هاجسًا مقلقًا تجاه فتح أبواب مؤسّساتهم أم إبقائها موصدة، مع حلول موعد انطلاق الموسم الصيفيّ على ضفاف الليطاني، ومردّ ذلك إلى أنّ المعارك والقصف والغارات، وإن كانت بعيدة نوعًا ما عن مجرى الليطاني الممتدّ من البقاع إلى حدود حاصبيا فإلى محاذاة صور الساحليّة، فقرار تجميع الناس في وسط هذه “المعمعة” فيه كثير من المسؤوليّة الوطنيّة والأمنيّة، خشية وقوع أيّ حادث غير مرتقب قريب من مجرى الليطاني الجنوبيّ، أو في محاذاة هذه المتنزّهات والمطاعم؟
يضاف إلى ذلك الكلف المتوقعّة لإعادة تجهيز هذه المتنزّهات ورفدها بكلّ ما يلزم للموسم السياحيّ، مثل كلّ عام، من معدّات ولوازم وتأهيل وموظّفين، في مقابل عدم ضمان حضور الزوّار والزبائن والسائحين إلى منطقة تشهد هذه السخونة على دويّ القصف الذي يسمع إلى مناطق واسعة من الجنوب، خصوصاً أنّ عددًا من البلدات التي تتعرّض للقصف اليوميّ تقع على الضفّة الجنوبيّة المقابلة للنهر، ناهيك بالتحليق الدائم للمسيّرات المعادية وللطائرات الحربيّة الإسرائيليّة التي لا تتوانى عن اختراق جدار الصوت، ما يسبّب رعبًا مفرطًا للمواطنين على مختلف أعمارهم.
قرار أصحاب المتنزّهات
جعل هاجس القلق الذي يعتري أصحاب المتنزّهات تجاه قرار فتح “مؤسّساتهم” أو التريّث، أو إلغاء الفكرة طالما أنّ الحرب لم تنتهِ بعد، في تردّد تامّ، خصوصاً أنّ مناطق الليطاني تختلف في ما بينها لجهة قربها من المناطق الساخنة أو بعدها، إذ كلّما اتّجهنا غربًا ونزولًا، كلّما تراجعت حدّة القلق والخوف، نظرًا إلى المسافات التي تصبح أكثر بعدًا كلّما دنونا من الغرب باتّجاه البحر. لذلك ذهبنا نحو “استمزاج” بعض أصحاب هذه المتنزّهات، مّمن استطعنا إليهم سبيلًا.
اختصرت ناتالي حسين وهي صاحبة مسبح سياحيّ قرب الدلّافة ردّها على سؤال “مناطق نت بعبارة: “لن نفتح هذا الموسم”. ثمّ تضيف وسط إلحاحنا: “إنّه من غير اللائق أن نفتح بابًا للفرح واللهو في منطقة ساخنة وتتعرّض يوميًّا للقصف. وإذا فتحنا من سيأتي؟ الناس في محيطنا غير جاهزة ومستعدّة للمسابح وغير المسابح، معظم المنطقة مهجّرة، ليس الموسم موسم فرح”.
حذر في منطقة “الخردلي”
ننتقل إلى غربيّ مرجعيون حيث يعبر مجرى الليطاني من محاذاة بلاط ودبّين نحو القليعة ودير ميماس فالطيبة أسفل قلعة الشقيف. نسأل سعدالله ونّا من القليعة عمّا يحضّر لموسم الصيف في استراحته المعروفة بكنيته “استراحة أبو شربل” وتقع قرب جسر “الخردلي”؟ فيردّ مباشرة: “أيّ صيف؟ نحن عم نلوّح بأيدينا الفارغة، من سيأتي لعندنا فقط ليقول لنا: مرحبًا؟ انظروا إلى الطريق كيف هي خالية من السيّارات، ولا سيّارة منذ أسابيع طويلة وصلت لعندنا أو لعند جيراني أبو حسن وأبو ميشال”.
ويتابع في حديث إلى “مناطق نت”: “لولا أنّني أربّي هنا قليلًا من السمك ولن أتركها تنفق، لما حضرت أنا وزوجتي إلى النهر. منذ أن بدأت الحرب والأحداث لم نعد نرى أحدًا عندنا. لقد تساقطت عدّة قذائف في المنطقة المقابلة، لم تصل إلينا، لكنّها حوّلت المنطقة إلى منطقة مهجورة ومحذورة ومشلولة”.
لا يفكّر “أبو شربل” بالخسارة التي تقع عليه بسبب إقفال مصدر معيشته الوحيد “لكن نريد أن نأكل فقط، هذا ما أفكّر به أنا وزوجتي، لقد هرمنا ونحتاج إلى من يخدمنا، راح الموسم علينا وراح رأس مالنا ولا أحد يعرف حجم خسارته طالما أنّ الحرب مستمرّة، وإن لم نشتغل سنستدين، ومن سيديّننا؟”.
كانت استراحة ونّا تعيل صاحبها وستّة عمّال آخرين. وكان من يقصده يحتاج إلى موعد مسبق، خصوصاً في “عزّ الموسم الذي يبدأ عادة في مثل هذا الشهر ويستمرّ نحو خمسة أشهر متتابعة” يختم أبو شربل.
متنزّهات ما بعد التحرير
يتابع نهر الليطاني خريره فيعبر في أسفل يحمر (الشقيف) ثم جنوبيّ بلدتيّ زوطر الشرقيّة وزوطر الغربيّة. في المنطقة الممتدّة من الخردلي في أسفل مرجعيون ووصولًا نحو قاعقعيّة الجسر وكفرصير فالزراريّة، لم تكن متنزّهاتها قد قامت قبل عام التحرير في سنة 2000، حيث انتشرت هناك مجموعة من الاستراحات والمتنزّهات والمطاعم في أملاك خاصّة تعدّت (طبعًا) على الأملاك النهريّة العامّة، ومنها في الأملاك العامّة، لكنّها شكّلت في ما شكّلت حركة سياحيّة واقتصاديّة لمئات العائلات على ضفاف الليطاني.
حتّى الآن، لم يبادر نعيم إسماعيل صاحب “استراحة الجنوب” إلى فتح استراحته أو يحضّر للموسم الصيفيّ. يقول لـ”مناطق نت”: “لم أفتح أبدًا، ولن أفتح طالما أنّ الوضع الأمنيّ لم يزل على حاله، أنا لا أستطيع أن أتحمّل مسؤوليّة إنزال الناس إلى النهر، مع العلم أنّه لم يحصل شيء حتّى الآن، لكن نتحسّب، أن تخاف الناس إذا ما حصل شيء قريب أو حتّى سماعهم جدار الصوت”.
ويتابع: “أنا عندي شاليه على النهر، ولأجله كنت لا أقفل استراحتي طوال السنة، لكن منذ اندلاع الحرب في تشرين الأول/ أكتوبر العام الماضي، قرّرت إقفال الاستراحة، وأكرّر: لست مضطرًّا إلى تحمّل مسؤوليّة الناس. كنت أشتغل عدّة مواسم، من الربيع إلى الصيف وحتّى الخريف، لكن انطلاقة الاستراحة كانت تبدأ بعد 25 حزيران/ يونيو مع العائلات التي تبدأ بالتوافد وهو الموسم الفعليّ الذي نحسب له كلّ حساب”.
يؤكّد اسماعيل أنّ استراحته تتّسع لنحو 400 شخص “وكانت تمتلئ في نهاية الأسبوع كاملة”. ويقدّر خسارته للموسم الحالي إذا ما بقي الوضع على ما هو عليه “ليس أقلّ من 17 ألف دولار، وتصل إلى نحو 25 ألف دولار، وتصل أيضًا مع خسارة الشاليه إلى 30 ألفًا”. ويخلص إلى أنّه لا يعرف “إذا كنّا سنلحق شيئًا من الموسم أم لا، والعلم عند الله”.
نهر “القاعقعيّة”
بعد الزوطرين، يعبر نهر الليطاني بين أسفل جنوب بلدة قاعقعيّة الجسر (النبطية) ومن شمال دير سريان وفرون (مرجعيون)، لكنّه يُعرف هناك بنهر “القاعقعيّة”، نسبة إلى البلدة. تنتشر على ضفاف النهر نحو 10 متنزّهات تحت تسميات مختلفة، كان يعمل فيها قبل الحرب مئات الشبّان، لا سيّما من متخرّجي التعليم المهنيّ، قسم الفندقيّة.
“بهذا الوضع لن يمشي الحال، التجهيز للموسم يحتاج إلى كلف ومصاريف، ونحن بحِيرة من أمرنا، إن وضعنا هذه الكلف هل سنستفيد أو أنّها ستذهب هدرًا، على الفاضي؟” يتساءل المسؤول عن استراحة “ميّ وفيّ” قرب “جسر القاعقعيّة” علي سلامة.
يفرّق سلامة في حديثه إلى “مناطق نت” بين كلف تشغيل المنتجعات (المتنزّهات) الكبيرة “التي بمستوى استراحتنا وبين تلك المتنزّهات أو المقاهي الشعبيّة التي يديرها أصحابها وعائلاتهم، وتقتصر على خيمة من قصب وإسمنت وكراسٍ وطاولات. هؤلاء يمكنهم أن يحضروا إليها في كلّ يوم، فإن أتى زبون هم موجودون ويمكنهم استقباله، وإن لم يأتِ فهم لن يخسروا شيئًا؛ لكن نحن علينا مسؤوليّات كبيرة كي نفتح، بحاجة إلى موادّ ولوازم وإلى عمّال وموظّفين، والتشغيل في ظلّ هذه الظروف مغامرة بحدّ ذاتها”.
ويتابع سلامة: “الخسارة اليوم ليست خسارة مادّيّة فقط، بل عدّة خسارات، ومنها الخسارة المعنويّة، حتّى لو كنّا مقفلين فثمّة خسارة حاصلة، منها الأضرار التي ستلحق بالمعدّات والآلات والبرّادات وطلمبات الضخّ بسبب عدم التشغيل، وهذا ضرر كبير بحدّ ذاته، لكنّه لن يكون بحجم التشغيل من دون التأكّد إذا كنّا سننجح أم أنّ الحرب لن تسمح لنا بذلك”.
كامل جابر – مناطق نت
ويشير إلى أنّ استراحته التي تتّسع إلى ما بين 300 و400 زبون، تعتمد على السيّاح “الذين يحضرون عادة من خارج المنطقة وهم كثر، هذا عدا عن المناسبات والأفراح والأعياد، نحن خسرنا فرصة عيد الفطر، وكذلك فرصة عيد الأضحى الذي سيحلّ قريبًا وكان يمكن أن نستفيد منها مدّة أسبوع كاملة”.
يعمل لدى “ميّ وفيّ” بين 25 و30 موظّفًا، “كان عددهم يتجاوز الـ40 قبل 2018، أيّ قبل الأزمة الاقتصاديّة والانهيار الماليّ، لكنّ الوضع الحاصل خرّب كلّ شيء. نحن قرارنا واضح، لن نفتح طالما أنّ الوضع الأمنيّ على حاله، وإن هدأت الأمور، فلن نحتاج إلى أكثر من 10 أيّام كي نجهّز وننطلق من جديد” يختم سلامة.
كفرصير وطرقاتها
تتعرّج طرقات كفرصير وسط تضاريس صعبة للوصول إلى النهر في أسفلها، حيث تقع عدّة متنزّهات. يقول عبد الرحمن سبيتي المسؤول عن “استراحة جرادي” أسفل بلدة كفرصير لـ”مناطق نت”: “المكتوب يُقرأ من عنوانه، وعنوان المكتوب هو الحرب، فمن سيقصد المتنزّهات الجنوبيّة اليوم في ظلّ هذه الحرب؟”.
ويضيف سبيتي: “نحن في قلب نهر الليطاني، أيّ في قلب الجنوب، في قلب الحرب، لذلك يمكن القول: صفر شغل، لا أحد هنا، مع أنّنا نفتح كلّ يوم، نحن نبدأ فعلًا في أوّل شهر حزيران، ثم نصعد موسمًا تلو موسم، ولا مرّة كان موسمنا قبل الحرب متراجعًا، لكن منذ ثمانية أشهر لا شيء يحصل، الموسم الماضي طلعنا وإيّاه صلحًا، كنا على آخره وبدأت الحرب”.
يفنّد سبيتي خسائر استراحته، “بين موظّفين ومصاريف المصلحة اليوميّة، من كهرباء ومازوت وتجهيزات كثيرة، علمًا أنّ عدد الموظّفين يصل عندنا في كثير من الأحيان إلى 70 موظّفًا، خصوصًا في ازدحام المدارس والمجموعات، بدأنا هذا الموسم بـ15 موظّفًا ولا نعلم إذا كنا سنتابع أم لا”.
ويشير سبيتي إلى أنّه يتلقّى اتّصالات من عديد من الزبائن “يسألنا الجميع عن الوضع، وعن الطريق إذا كانت آمنة للوصول إلى الاستراحة والنهر، طبعًا لا يمكن أن أعطي جوابًا مطمئنًا لأحد، لا يمكنني أن أتحمّل هذه المسؤوليّة الصعبة”. وتكمن خشيته في استهداف السيّارات المتنقّلة على هذه الطرقات.
ويؤكّد أنّ “مصلحتنا هي مصلحة عائلات بامتياز، هذه العائلات تحضر إلينا من بيروت ومن مناطق لبنانيّة أخرى، من المؤكّد أنّها لن تصل إلى هنا، حدّها منطقة الجيّة قبل صيدا”. ويتساءل ختامًا: “من سيجرؤ على القدوم إلى الجنوب في هذه الأيّام الصعبة؟ الجنوب كلّه استراحات وجميع أصحابها لديهم زبائن من خارج المنطقة، فالمعاناة واحدة عند الجميع والخسائر كبيرة ولا تقدّر”.
استراحات نهر “الزراريّة”
بعد قاعقعيّة الجسر تعتبر الزراريّة موئلاً لعدد كبير من المتنزّهات تتجاوز 12 متنزّها متفاوتًا من ناحية جسر 6 شباط في الوادي القريب من طرفلسيه إلى عدد مماثل من جهة الغرب باتّجاه القاسميّة. ويُنسب مجرى نهر الليطاني هناك إلى الزراريّة البلدة.
يقول نصر مروّة القادم منذ أيّام من أفريقيا: “نحن جهّزنا أنفسنا لأن نفتح، نظّفنا وأعددنا صيانة لكلّ شيء، وننتظر ما سيؤول إليه الوضع. ننتظر لأنّنا في حال فتحنا ولم يأتِ روّاد إلينا معنى ذلك أن استعدادنا المطلق سيكون خسارة، نحن نأتي في كلّ يوم ونترقّب، وأمامنا أيام قبل الانطلاق الفعلي للموسم في النصف الثاني من الشهر الجاري، حزيران، فلننتظر”.
نتلمّس من مروّة أمله في أن يتوقّف “إطلاق النار” وبعدها “نبدأ بالشغل”. وإن لم يحصل ذلك؟ يقول مروّة لـ”مناطق نت”: “نحن لدينا شغل في أفريقيا، وتحسّبًا للوضع الأمنيّ لن نهمل هنا وهناك، سنركّز على جهة”. ويشير إلى أنّ استراحته تتّسع ما بين 300 و400 شخص كانت تمتلئ بهم في عزّ الموسم “لكنّ ذلك لن يتحقّق حاليًّا في ظلّ الوضع القائم. صحيح أنّ معظم زبائننا هم من أبناء المنطقة، لكنّهم من المقيمين في خارجها، وكانوا ينتظرون موسم الصيف على أحرّ من الجمر كي يحضروا إلى هنا، وهم لن يفعلوا ذلك اليوم والحرب تدور على مقربة من هنا”.
في ظلّ التهديدات الإسرائيليّة اليوميّة التي تتوعّد بمزيد من العنف والتدمير تجاه لبنان، ينضمّ القطاع السياحيّ على مجرى نهر الليطاني إلى القطاعات الحياتيّة الأخرى التي انهارت وتراجعت منذ بدء العدوان، كالزراعة والتجارة والمواصلات، بانتظار هدوء المدافع وعودة النازحين إلى بيوتهم، وعودة الحياة.