مكتبات لبنان العامة تخوض معركة الصمود بوجه الأزمات

صدى وادي التيم-لبنانيات/

تنتشر في لبنان عشرات المكتبات، بعضها عام والآخر خاص. وتتضمن مئات آلاف الكتب والوثائق، وعلى رغم الأزمات المتعددة من كورونا وإلى اليوم فإنها لا تزال صامدة وتحافظ على حضور متنوع وأهداف كثيرة.

بعد الانتشار الواسع لتكنولوجيا الاتصالات ومواقع التواصل الاجتماعي وتلهي اللبنانيين، كبيرهم وصغيرهم في أجهزة الهواتف المحمولة، وبما تحمله من برامج ومواقع ومشاهد وأفلام خلقت حالاً من الإرباك والبلبلة الاجتماعية والتربوية و”الأخلاقية”، بقيت المكتبات العامة الورقية التي تتوزع على الأراضي اللبنانية الملاذ التربوي السليم، الذي يردف المهمات المدرسية ويغذي الجيل الجديد بما يستحق من علوم ولغات وتربية، تنمي مفهومه وذهنه ومعلوماته وتسهم في ضبط سلوكه وتعزيز قدراته، خصوصاً الفنية والتربوية.

ووجدت البلديات في المكتبات العامة التي أنشأتها في العقدين الأخيرين، عملاً بقوانينها التي تشجع على إقامة المكتبات، لغة تخاطب مع الجيل الصغير وتلامذة المدارس وطلابها، وإن بقيت هذه المكتبات متواضعة في عدد كتبها ودورياتها ومواضيعها، في حين أخفقت عشرات البلديات في التأسيس لهذا الجهد الثقافي التربوي، وللغة التواصل مع أبناء المدن والقرى من خلال الكتاب وما يدور على هامشه من نشاطات فنية وثقافية واجتماعية.

أكثر من 130 مكتبة عامة مسجلة في وزارة الثقافة تنتشر في مختلف المناطق اللبنانية وفي العاصمة بيروت، تضاف إليها نحو 10 مكتبات جامعية كبرى، ومكتبات بعض فروع الجامعة اللبنانية، يمكن أن ينهل من محتوياتها الضخمة والمتنوعة مئات الطلاب الجامعيين في درسهم وأبحاثهم ومشاريعهم الجامعية.

لكن ثمة شكوى تتكرر في مكتبات المناطق من تخلي وزارة الثقافة عن دعمها في الأعوام الأخيرة، ورفدها بمخزون جديد من الكتب والدوريات والمجلات العلمية، وبخاصة في ظل الانهيار المالي والاقتصادي الذي قلص من نشاط هذه المكتبات، التي لم تكن تقتصر على المطالعة وإعارة الكتب فحسب، بل كذلك على إقامة نشاطات ودورات فنية وتربوية وبرامج تقوية في اللغات. وعمدت بعض إدارات هذه المكتبات إلى تجميد نشاطاتها بانتظار تحسن الأوضاع الاقتصادية والمالية، خصوصاً أن فتح المكتبات وإدارتها تحتاج إلى كلف تتمثل في الموظفين والكهرباء والإنترنت وغيرها.

حكاية أول مكتبة عامة

كان المؤرخ اللبناني الفيكونت فيليب دي طرازي (1865 – 1956) من هواة جمع الكتب النادرة ومؤرخ الصحافة العربية، فأسس عام 1919 دار كتب في منزله. وشكلت مجموعته الخاصة التي كانت تحتوي على نحو 20 ألف وثيقة مطبوعة و3000 مخطوطة بلغات عديدة، نواة هذه الدار.

وبسبب ضيق المساحة نقل المكتبة عام 1921 إلى بناية المدرسة البروسيوية المعروفة بمدرسة “الدياكونيس” في وسط بيروت، وأطلق عليها اسم “دار الكتب الكبرى”.

وفي هذا الوقت ظل يحاول جاهداً في مفاوضة السلطات لتعترف بها وتضمها إلى سائر دوائرها الرسمية، حتى تم له ذلك في الثامن من ديسمبر (كانون الأول) 1921، فأصبحت مؤسسة رسمية وباتت منوطة بمديرية المعارف العامة.

وجرى بتاريخ الـ25 من يوليو (تموز) 1922 تدشين المكتبة في موقعها الجديد في مدرسة “الدياكونيس”، برعاية الجنرال غورو المفوض السامي الفرنسي في لبنان حينها، وحضور أركان السلطتين اللبنانية والفرنسية، وجمع غفير من أعيان البلاد وأدبائها. وعين دي طرازي أميناً عاماً لها حتى عام 1939.

وخلال عام 1935، أقر مرسوم يضع النظام الأساسي للمكتبة الوطنية التي أصبحت مصلحة ملحقة بوزارة التربية الوطنية. وبعد عامين انتقلت المكتبة ومجموعتها المؤلفة من 32 ألف كتاب إلى مقرها الجديد الذي عمل على إنشائه المهندس مرديروس الطونيان في مبنى مجلس النواب في ساحة النجمة في بيروت. وبقيت المكتبة في مركزها هذا حتى اندلاع الحرب الأهلية عام 1975.

الحرب تشتت المكتبة الوطنية

وبحسب أرشيف وزارة الثقافة، اعتبرت المكتبة مرجعاً مهماً للجامعيين والمدرسين والمسؤولين الإداريين، وباتت تساعد المكتبات العاملة في لبنان خصوصاً الجامعية منها. وخلال عام 1975 اندلعت المعارك في وسط بيروت حيث تقع المكتبة الوطنية. وخلال أعوام الحرب تعرضت المكتبة لأضرار جسيمة، فوفقاً لبعض المصادر، فقدت 1200 مخطوطة نادرة ولم يبق أية ذاكرة عن كيفية تنظيم المكتبة وطرق سير العمل فيها.

وبعد أربعة أعوام أصدرت الحكومة مرسوماً قضى بتجميد نشاطات المكتبة الوطنية، وأوكلت مهمة حفظ المجموعة التاريخية “المخطوطات واللوحات الزيتية والأعداد الأولى للدوريات اللبنانية من مجموعة دي طرازي، إلى مصرف لبنان ومن ثم إلى مؤسسة المحفوظات الوطنية.

وخلال عام 1983 نقلت الكتب والدوريات إلى مستودع في قصر “اليونسكو” بهدف المحافظة عليها، إلا أن أضرار الحرب لحقت بها. وفي عام 1993 أنشئت وزارة الثقافة والتعليم العالي، وأصبحت إدارة المكتبة الوطنية من صلب مهامها. وتقرر أن يوضع مبنى كلية الحقوق في الجامعة اللبنانية في الصنائع، تحت تصرف وزارة الثقافة لإقامة المقر النهائي للمكتبة الوطنية.

وخلال عام 2003 انطلق مشروع إعادة تأهيل المكتبة الوطنية، والذي انتهى عام 2006 بموجب الاتفاق مع بعثة المفوضية الأوروبية، وأنجز دفتر الشروط الهندسي لمقر المكتبة في الصنائع، وأعدت هيكلة أولية للمكتبة وحددت مهامها ووظائفها. وبتاريخ الـ16 من مارس (آذار) 2016 صدر مرسوم يقضي بتنظيم المكتبة، وكيفية تأليف مجلس إدارتها وتحديد مهامه وصلاحياته وقواعد تسيير أعماله، وكيفية ممارسة سلطة الوصاية رقابتها عليه.

البلديات والجمعيات والمكتبات

لعبت بعض البلديات دوراً إيجابياً في تعزيز المكتبات العامة في أحياء بيروت وفي المناطق اللبنانية والأطراف، واستطاعت بالتعاون مع وزارة الثقافة والإرساليات والسفارات الأجنبية في لبنان والمراكز الثقافية رفد هذه المكتبات بكتب اللغات الفرنسية والإنكليزية وبعض الدوريات. وكذلك فعلت بعض الجمعيات والمراكز الثقافية التي أنشأت مكتبات عامة، وفتحتها أمام التلامذة والطلاب والباحثين لكي يستفيدوا من محتوياتها، وسهلت عملية المطالعة وإعارة الكتب فضلاً عن النشاطات التي تدور في فلك المكتبات ومهامها.

وأقامت جمعية “السبيل” شراكة مع بلدية بيروت لإنشاء وإدارة مكتبات عامة داخل العاصمة، وباتت تدير ثلاث مكتبات عامة تنتشر في “الباشورة” وهي الأكبر في بيروت، و”الجعيتاوي” في حديقة اليسوعية، و”مونو” في الأشرفية. وتقدم المكتبات الثلاث والتي تفتح أبوابها طوال النهار وحتى في الآحاد وبعض العطل، خدماتها مجاناً. وتجاوزت طلبات استعارة الكتب منها في العام الماضي 30 ألف كتاب. وتعزز الجمعية مكتباتها بنشاطات ثقافية وحلقات حوار بمختلف اللغات، وقراءة القصص ومسابقات سنوية باللغة العربية، وكذلك ورش عمل ومحترفات إبداعية ولقاءات مع بعض الكتاب حول إصداراتهم و”نادي السينما” الذي يعرض إنتاجاً محلياً.

مكتبة بعقلين الوطنية

تحتضن بلدة بعقلين (الشوف) أكبر مكتبة عامة مناطقية خارج بيروت، داخل القصر العثماني الذي بناه السلطان عبدالحميد الثاني عام 1897، وتحول إلى دار محكمة ثم إلى مركز للبلدية فسجن، قبل أن يتم ترميمه وتحويله إلى مكتبة عامة افتتحت عام 1987.

ويلفت مدير المكتبة غازي صعب إلى “أن المكتبة الوطنية في بعقلين لم تقفل أبوابها يوماً أو تعطل حتى في أيام جائحة كورونا، ولم تتأثر بالضائقة الاقتصادية التي لحقت بالبلاد، فنحن نداوم بصورة طبيعية وعندنا برامج إعارة خارجية مجانية بلغت 21220 كتاباً عام 2023، وقبله خلال عام 2022 كانت الأوضاع المالية للناس أفضل، فبلغت الإعارة 26 ألف كتاب”. ويتحدث صعب عن “برنامج خاص بالدراسات العليا، متاح من خلاله لكل لبناني أن يأتي ويستعير في حدود 10 كتب أو مراجع، حتى نوفر عليه كلف المواصلات والذهاب والإياب”.

ويؤكد صعب أن محتويات المكتبة فاقت “220 ألف كتاب، و100 ألف مطبوعة دورية ومجلة وصحيفة”. ويضيف “نقوم بنشاطات شبه يومية وبرنامجنا هذا العام مقفل بالمواعيد حتى آخر أغسطس (آب) المقبل، ونقدم نحو 250 نشاطاً متنوعاً في العام الواحد، ونقوم بدورات تقوية مجانية للتلامذة والطلاب”.

وتتنوع نشاطات المكتبة ودوراتها بين “التمثيل والموسيقى والغناء والخط العربي والفنون التشكيلية والزراعة وتمكين المرأة، مع الحفاظ على أهمية المطالعة التي تعتبر نسبتها عالية جداً في المنطقة، وتجعل المكتبة تغص دائماً بالطلاب والقراء والباحثين، إضافة إلى الزوار والوفود والمدارس التي تأتي إلينا من مختلف المناطق”.

وعن تمويل المكتبة وأنشطتها، يأسف صعب “إننا نتبع لوزارة الثقافة لكن من دون أية موازنة مستقرة، عندنا جمعية أصدقاء المكتبة الوطنية، تقيم كل عام أو اثنين حفل عشاء يعود ريعه لتمويل خدمات المكتبة الوطنية ونفقاتها”.

مكتبات بعلبك

وفي بعلبك مكتبة عامة وحيدة في “مجلس بعلبك الثقافي”، لكنها ضعيفة ومتعثرة ولا يتجاوز عدد كتبها 4000 كتاب. ويقول الباحث الدكتور محمد شرف “هنا في بعلبك المكتبات الخاصة تتفوق على المكتبات العامة التي تكون شبه معدومة، لذلك فإن كل طالب أو باحث عليه أن يذهب إلى أفراد يقتنون بعض المكتبات إذا ما توافر لديهم مراده. ونحاول في بعلبك تكوين مكتبة عامة في المجلس الثقافي، وصار عندنا عدد لا بأس به من الكتب، لكنها لا تتلاءم مع احتياجات الباحثين والطلاب الجامعيين، لذلك هم يلجأون إلى مكتبة الجامعة اللبنانية في كسارة في البقاع أو في بيروت، ومكتبة كلية في كسارة جيدة لكنها لا تعير الكتب والأبحاث غير الأساتذة ويمكن للطلاب الاطلاع عليها في الداخل”.

وفي بعلبك توجد أكبر مكتبة خاصة في لبنان، تعود للمربي الراحل عبدو مرتضى الحسيني (1918- 2007) “لم تجد كل المحاولات التي جرت لتحويلها إلى مكتبة عامة، وهي من كبرى المكتبات الخاصة في لبنان والعالم العربي، واشتغل عليها طوال حياته وسعى إلى أن تكون مكتبة عامة ولم يفلح”، وفق الباحث شرف.

حلم لم يتحقق

وفي أغسطس عام 2007 كشف وزير الثقافة السابق طارق متري عن مشروع بناء مكتبة وطنية في بعلبك، تضم محتويات مكتبة الراحل عبده مرتضى الحسيني “الذي توفي وفي قلبه غصة بأن مقتنيات مكتبته لن تكون في مكتبة عامة باسمه في بعلبك”.

ويقول نجل الحسيني جهاد، الذي يدير مكتبة والده حالياً “أهتم بها بصورة خاصة، وأرفدها بين الحين والآخر بما تيسر، لكن من المؤكد ليس بالزخم الذي كان أيام والدي، لأنها تحتاج إلى عناية والمبنى القديم يحتاج إلى ترميم، إضافة إلى أن المكتبة من دون تبويب وترقيم”.

ويلفت إلى أن المكتبة كي تفتح أمام العامة “تحتاج إلى فريق عمل، نظراً لعدد كتبها ومطبوعاتها التي تتجاوز اليوم 600 ألف مطبوعة بين كتاب ومجلة وصحيفة، وهي أهم مكتبة شخصية في الشرق الأوسط، وكان عددها مليون مطبوعة، لكن والدي قام ببيع الكتب المكررة، فتدنى عددها”.

مكتبة الهرمل

وتراجعت نشاطات المكتبة العامة في المركز الثقافي في الهرمل البعيدة جغرافياً عن بيروت، في فترة جائحة كورونا وفي ظل الأوضاع المالية المتردية. ويقول مديرها المربي عبدالله ناصر الدين “لقد تراجعت الإمكانات بالنسبة إلى النشاطات التي كانت تقدم بالتعاون مع وزارة الثقافة التي لم تقدم الدعم المالي المباشر، بل كانت ترفدنا ببعض النشاطات وتوقيع الكتب فنحصل بعض المصاريف، وهذا الأمر لم يعد يتكرر منذ أكثر أعوام”.

ويلفت ناصر الدين إلى أن “نظام الإعارة ما زال مستمراً في مكتبة الهرمل العامة، إذ ثمة نشاطات تقوم بها المدارس تحت عنوان تحدي القراءة مما يدفع بالتلامذة نحو المطالعة وقراءة الكتب للتباري والاستعارة من المكتبة العامة أو الحضور إليها، ويضاف إلى ذلك أن لدينا مكتبة متنقلة تتحرك بالتواصل والتنسيق مع المدارس حتى نبقي على هذا الجو التربوي الثقافي”.

ويختم ناصر الدين “لقد قلب الوضع الاقتصادي الأمور رأساً على عقب، كنا في صعود متواصل واليوم جمدنا في موقعنا، لن أقول تراجعنا لكننا لا نتقدم، وهذا الأمر قلص أنشطتنا كثيراً”.

مكتبة النبطية

وانطلقت مكتبة بلدية النبطية في جنوب لبنان عام 2011 بنحو 6000 كتاب “اليوم تحتوي على أكثر من 18 ألف كتاب، ونصل قريباً إلى نحو 20 ألفاً، وتم تصنيفها وبرمجتها ببرنامج إلكتروني بحسب تصنيف ديوي العشري. وهذا الأمر يخول كل شخص عبر بطاقة الانتساب إلى المكتبة العامة استعارة ثلاثة كتب لمدة 21 يوماً” بحسب ما تقول مديرة المكتبة لينا بيطار.

وتضيف “قمنا بخطوة الأونلاين عبر موقع بلدية النبطية، التي تمكن أي فرد من أن يعرف إذا كان الكتاب الذي يبحث عنه موجوداً عندنا أو غير موجود”.

وفي موضوع التنشيط الثقافي تقول بيطار “حولنا المكتبة من مركز مطالعة إلى مركز تنشيط ثقافي وصفوف تدريب تتضمن الرسم، وتستهدف الأطفال بداية من عمر أربعة أعوام، وبرامج خاصة بالسيدات، والموسيقى والتصوير الفوتوغرافي والحياكة والكروشيه ودورات متخصصة بأشهر الصيف، ومنها فن الطبخ للأطفال”.

المصدر: كامل جابر-independent عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى