متى سيصبح لبنان جاهزًا لدمج الأشخاص ذوي الإحتياجات الخاصة؟
صدى وادي التيم-لبنانيات/
لا شكّ أنّ الدّمج في جميع المجالات، والتربويّة منها بشكلٍ خاصٍ، هو الخيار الوحيد الذي يضمن حقوق الأطفال والأشخاص ذوي الإعاقة. وهناك تجارب وخبرات في لبنان قدّمت نموذجًا للدّمج المدرسيّ يمكن الاستفادة منها، وتجارب أُخرى كانت فاشلة ومتعثّرة أو ضعيفة ولكن ما زالت مستمرّة.
أما آن الأوان اليوم لننتقل إلى نوعٍ جديدٍ من الخدمات التي تصب بالدّمج الصّحيح؟ ما هي المشاكل التي تواجهها المؤسسات وكيف باستطاعتنا الانتقال إلى دورٍ أفضل؟ ومتى ستصبح المدارس بمجملها جاهزة لدمج الأطفال ذوي الإعاقة من دون أي عوائق؟
التّدخل المُبكر أساس للدمج السليم
تعتبر مسؤولة المؤسسة اللبنانية للضرير والأصمّ ماري روز الجميّل، أنّ “التّدخل المُبكر هي المرحلة الأساسية لدمج الأشخاص ذوي الإعاقة، سيّما قيامهم بالتّدريبات في السّنوات الثلاث الأولى مع أهلهم من خلال زيارتنا للمنازل. فالعائلة كما تقول، هي مرحلة تؤسّس لمشروع حياة مع ذوي الإعاقة وخصوصًا البصرية حيث لديهم لجنة أهل تعمل انطلاقًا من هذا المفهوم وهم شركاء ويعتمدون على بعضهم.
الصفوف مقسّمة ما بين الإعاقة البصرية والسّمعية والصّعوبات التعلمية، فكل نوع إعاقة منفصل تمامًا عن الآخر إن كان من ناحية اختيارنا الأساتذة أو البرامج أو الوسائل التربوية التي يتمّ استخدامها خاصةً منذ جائحة كورونا”.
وتقول: “البرنامج المُتّبع، هو البرنامج الأكاديمي المُعتمد من وزارة التربية. فالكتب تُدرّس بالحروف النافرة، أو الخطوط الكبيرة، بالنسبة للشّخص الضّرير.
أمّا بالنسبة للشخص الأصّمّ، فالموضوع مختلف، لأنّ الدفتر هو الدفتر الذي يُستخدم لجميع طلاب لبنان لذلك، نعتمد على الوسائل الإيضاحية في الصّفّ، وبرامج وزارة التربية. ونحن مسعفون من قبل وزارة الشؤون الاجتماعية التي تغطّي كلفة الولد داخل المؤسسات. وحتّى الآن لا زلنا نأخذ بدلاً يومياً 36 ألف ليرة لبنانية للولد الواحد، لكنّها سترتفع في المستقبل القريب. ولأنّ الإمكانيات ضئيلة، والوضع الاقتصادي صعب، تأثر دورنا كمؤسسات رعائية مع أطفالنا، لذلك نركّز على موارد خارجية لنبقى صامدين”.
وتشير ماري روز إلى أنّ المؤسسة “تؤمّن العصا البيضاء والكمبيوتر والبرامج اللازمة والمعينات البصرية لأنّ الدمج حق. إلّا أنّ البعض، بطبيعة الحال، يتّجه نحو الموسيقى، النحت، والبرامج المهنية.
وأيضًا، تؤمّن للأشخاص الصم، السماعات والمتخصّصين. لكنّ البعض يتوجه مهنيًا لأنّ عملية دمجهم تحتاج لجهدٍ مضاعفٍ نتيجة النقص في إمكانياتنا الأكاديمية ونتيجة عدم توحيد لغة الإشارة حتّى الساعة”.
للأسف، يُحرم الشخص الأصم من الكشف المُبكر، ممّا يؤخّر عملّية التدّرب المُبكر التي تسهّل عملية الدّمج. لذا من الضروري مراعاة هذه الخصوصية واتّباع منهجيّة منذ ولادته لتسهيل انخراطه ودمجه في المدرسة والمجتمع.
وتقول رودينا سابا عقاد، رئيسة جمعية أولياء الصمّ في لبنان وأمّ لشاب أصمّ، إنّ “مشكلة الطفل الأصمّ هي مشكلة تواصلية، تتطلّب تأهيلًا سمعيًا يرافقه تأهيلًا تربويًا مبكٌّرًا من خلال ممارسة العملية المُبكرة، تشجيع العمل مع الفريق المُتكامل مثل أخصائيي النّطق والسّمع وعلم النفس، ضرورة وجود برنامج تعليم فردي IEPوتعديل البرنامج التّربوي الرئيسي ليتلائم مع احتياجاته الخاصّة. والأهمّ، تواجد وسيلة التواصل أي لغة الإشارة في الصف”.
وتلفت إلى أنّ “المعلومة لا تصل بالطريقة السهلة، ليس بسبب عدم مقدرة الطّفل الأصمّ على الاستيعاب، إنّما بسبب عدم التواصل وعدم السّمع. لذلك، اعتبرت أنّ قرارات الدولة لم تكن منصفة بحقّ الأطفال الصم. لذلك، نطالب بمعادلة شهاداته أسوة بالطّلاب السّامعين والذين يحملون جوازات سفر أجنبية، أو الأخذ بعين الاعتبار الصّعوبات اللغوية التي يواجهونها مثل اللغة العربية. هذا ما أجبرني للسفر إلى كندا مع ابني راني، لمتابعة تخصّصه الجامعي في برمجة الكمبيوتر”.
آثار الواقع الاقتصادي
تشدد المؤسسة على ضرورة وجود المدارس الدامجة، ولكن “أمّنوا الأدوات اللازمة والقوانين التي تحميهم، والبرامج المختصّة والبيئة التربوية الملائمة. لكن هنا التكلفة ستصبح على عاتق الأهل، وتأمين المتخصصين الذين هاجروا، بات أمرًا صعبًا”.
وفي السّياق، يرى رئيس جمعية الشبيبة للمكفوفين د. عامر مكارم، أنّ “مؤسسات الرعاية المختصّة التي تتضمن نظام تعليم للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية في لبنان، قامت بدورٍ أساسيٍ سابقًا. وكانت الخيار الوحيد لتعليمهم.
ولكن مع ظهور خيار الدّمج المدرسي وتراجع الموارد المالية، تراجع عدد الملتحقين بها، وأصبحت هناك تساؤلات عديدة عن واقع التعليم والرعاية داخل هذه المؤسسات. ويبدأ الدمج التربوي بتحضير المدارس من ناحية، وتوفير الخدمات الداعمة والمختصة للتلاميذ في جميع المراحل التعليمية، من ناحية أخرى”.
ويرى د. مكارم أنّ “هذه المؤسسات تفتقر للعديد من المتخصّصين وأصحاب الكفاءة والخبرة في مجالات أساسية لتعليم ورعاية المكفوفين في لبنان وتأهيلهم. كما أنّ العديد من المتخرجين من هذه المؤسسات يفتقرون إلى العديد من المهارات التي تمكّنهم من العيش باستقلالية، بسبب المستوى التعليمي الضعيف الذي يعيق متابعة تعليمهم في الجامعات والمعاهد المهنية. لذلك لا بدّ من تفعيل خطط الدمج المدرسي من قبل وزارتي التربية والشؤون الاجتماعية على أن تأخذ الجمعيات والمؤسسات المختصة دورًا في تنفيذ هذه الخطط وتطويرها”.
من ناحيتها، تكشف المحامية المتدرّجة طوني مخايل، وهي خرّيجة من المدرسة اللبنانية للضرير والأصم، أهم الثّغرات التي من المُفترض أن يتمّ العمل عليها وتطويرها في المؤسسات. وتقول إنّ “الأساتذة بغالبية الأحيان هم غير متخصّصين، ونواجه البطئ بسير المناهج لأننا نجد مستويين من الطلاب في الغرفة نفسها فيضطر بعض الطلاب أحيانًا إلى إعادة صفّهم رغم قدراتهم بسبب عدم توافر الإمكانيات الماديّة والمعلمين.
ونواجه أيضًا نقصاً في تأمين الوجبات ذات القيمة الغذائية الصّحيّة للأطفال، ممّا يؤثر على نموّ الأولاد، بالإضافة إلى مشكلة قطع التيار الكهربائي بشكلٍ متكررٍ”.
وتضيف مخايل أنّ “هناك مشكلتين أساسيتين تواجههما المؤسسة، أولًا في عدم توفير التدفئة والمياه الساخنة بشكلٍ دائمٍ، ثانيًا في عدم تأمين الدعم اللازم للطلاب، فيضطر الأهل في هذه الحالة أن يخصصّوا لهم أستاذًا على نفقتهم.
اما الطّلاب من ذوي المستوى التعليمي الضعيف فهم يواجهون صعوبات تحّد من متابعة تعليمهم في الجامعات والمعاهد المهنية.
ولكن رغم الصّعوبات، تلفت مخايل إلى أنّ “الطّلاب داخل المؤسسة، يشعرون بالانتماء والمسؤولية، لذلك تقوى شخصيتهم وينمو لديهم حسّ الإنسانية والتعاطف، تحديدًا تُجاه الأطفال”.
تعلّم الموسيقى حقّ مكتسب
تسلّط مسؤولة العلاج اللغوي في المؤسسة هنادي الحموي، الضوء على أهمية تأهيل المدرّسين في المدارس الدامجة والمؤسسات، والعمل على برامج متمايزة. لذلك، من المهم جدًا معرفة المكان السليم والمناسب لدمج الأولاد فيه.
وتفيد بأنّ “الطالب، يتدرّب منذ المرحلة البدائية، على كل المهارات السمعية وحفظ الإيقاع والتمييز بين الأصوات. فكلما كان التدريب مبكّراً، كلّما كانت النتيجة أفضل. ويساهم المعلمون المختصون، في تدريب الأطفال من خلال تطبيق التمارين الإيقاعية، وتمارين السمع وحفظ النوتات والتذكُر والحفظ. وطبعًا كلما كان للأشخاص بقايا سمعية، كلّما كان التواصل الشفهي أسهل. ومن حق كل شخص أصمّ أو لديه بقايا سمعية، أن يسمع الموسيقى ويتدرب على النوتات ويمارس هوايةً يحبّها”.
بدوره، يشير الأستاذ كابي خليل، وهو معلّم موسيقي في المؤسسة التي تخرّج منها، إلى “أنّنا قُمنا بتجارب سمعية ناجحة هذا العام وكانت تحدياً لنا”. لافتاً إلى إنّ الدمج يطلق الطلاب إلى سوق العمل.
ويؤكّد أستاذ فؤاد وهو ابن المؤسسة ويعّلم مادّة الكمبيتور، رغم أنّه غير متخصّص لكنّه ضليع في المجال، أنّ “الشخص المكفوف يخضع لبرنامج أكاديمي منذ صغره، ليتعرف على الحاسوب أولًا، وليحفظ الـkeyboard ثانيًا، لأنه لا يستطيع استخدام الـscreen أو الـmouse . ويكتسب جميع مهارات الـwindows والـmicrosoft، حتّى نصل إلى استخدام الإنترنت بكلّ راحةٍ”.
ويعتبر أنّ “الكمبيوتر في مدارسنا هي مادّة أساسية وليست ثانوية كباقي المدارس العاديّة، لأنّها المادة الوحيدة التي تعزّز التواصل بين شخصين، وبالتالي تحقّق الدمج بشكلٍ كاملٍ مع باقي أفراد المجتمع”.
من جهتها، تلفت مسؤولة الدمج للمكفوفين في المؤسسة جوزفين خويري، إلى أهمية تقبّل إدارات المدارس فكرة الدمج ومسؤولية تقبّل الطّلاب ذلك، شرط تهيئة الإدارة والمعلمين والأهل والطلاب، فهي حلقة متكاملة .
وأخيرًا.. بات للشخص الأصمّ الحقّ في متابعة تعليمه
نادرة سماحة، هي شخص أصمّ، لديها أخت أكبر منها وهي أيضًا شخص أصمّ. درست في مدرسة التدريب على السمع والنطق IRAP، بعد أن تركت مدرسة النظام العام بعد عامين فقط، لأنها لم تكتسب المعلومات الكافية، لأنّ المعلمة كانت تواجه صعوبةً في تعليمها. لذلك، انتقلت إلى مؤسسة مختصّة.
ولأنّ طريقة التعليم اختلفت، على حدّ قولها، “تحسّنت أموري، وأصبح بإمكاني فهم ما تقوله المعلّمة. ولأنّ عدد الطلاب تقلّص من 30 إلى 8 أشخاصٍ، أتقنتُ جميع الموادّ رغم الصعوبة التي كنتُ أواجهها في اللغة العربية، فأنا أفهم من خلال نظري واعتماد لغة الإشارة، وقراءة الشفاه.
وعندما أصبحتُ في صف “البريفيه”، نجحتُ بدرجة جيد جدًا، في زمنٍ، كانت المدرسة ذات النظام التعليمي العام لا تؤمن بقدرات الأشخاص الصم. يومها، كانت المدرسة تعتبر أنّ صف “البريفيه” هو المستوى الأعلى للأشخاص الصم، علمًا أنّ اليوم تغيّرت المفاهيم وبات بإمكان الجميع متابعة دراساتهم العليا. توجهتُ مهنيًا، ودرستُ في الكفاءات التي كانت تؤمّن أساتذة متخصصين يعتمدون لغة الإشارة وقراءة الشفاه. واليوم يساهم التطور التكنولوجي ودخوله في الجامعات، بتحقيق الدمج في المجتمع، ليجعلنا أفرادا ناجحين وفعّالين في بيئتنا”.
هل من تقصير؟
تشكرُ نادرة والديها على وعيهما لأنّهما ساهما في نجاح مسيرتها المهنية والتعليمية. أما بالنسبة لمدرسة IRAP، فهي “أعطتني الماكسيموم وها هي اليوم، تُحسّن من نشاطاتها وأساليبها نحو الأفضل”.
وتلفت إلى أنّ المشكلة هي أنّ البعض لا يعرفون كيفية التعامل مع ابنهم الأصم، ولكن، من خلال التعامل مع مدرسة مختصّة، من خلال التدريبات والتمارين، ضروري جدًا تعلم لغة الإشارة، وتوحيدها، بهدف التواصل مع الولد الأصم. وتطالب من الحكومة اللبنانية، أن تتكفّل بوضع شخص مُترجم في الصف لأنّ من حق كل التلاميذ أن يتعلم مهما كانت حالته.
التعليم حقّ يضمنه الدّستور اللبناني
أن يكون الوضع الاقتصادي أو السياسي، حجةً لعدم سماع طلباتنا ودمج الأشخاص ذوي الإعاقة، بات أمرًا مرفوضًا. وفكرة أن نطالب في القرن الـ21، بحقّ التعليم ودمج الأشخاص ذوي الإعاقة في مدارسهم ليس سوى تهميش بحقّ فئة كبيرة من الناس، كانت ولا زالت وستبقى تواجه حالات إعاقة حتّى نهاية الدّهر.
فمتى سيصبح لبنان جاهزًا لدمج الأشخاص ذوي الإعاقة؟ ومتى ستتحّول المؤسسات لتصبح مراكزًا لدعم الدمج؟
المصدر:مارينا عندس وليال نصر – الأفضل نيوز