قصرنبا بلدة الورد هل تنصفها الدولة وتضعها على قائمة مهرجاناتها السياحيّة؟

 

صدى وادي التيم – لبنانيات /

لماذا لم تُتوج قْصَرنبا مليكة الورد في لبنان؟ ولماذا تبقى إلى الآن نسيا منسيًّا، كأنّها، كما سائر الأرياف، لا تنتمي إلى جغرافيا الوطن؟ ومن ينصف الجمالَ المسكونِ بضوعِ العطرِ يَسرده الوردُ للصبايا الحالمات في موسم القطاف؟ ولماذا التأخّر في اعتماد مهرجان الورد في قصرنبا مناسبة سنويّة تُزيِّن الخارطة السياحيّة في لبنان؟

من هذه الأسئلة نعبر إلى قصرنبا، البلدة البقاعيّة الرابضة عند السفح الشرقيّ لسلسلة لبنان الغربيّة، وهي التي تشتهر باحتضانها ثاني أكبر معبد، بعد بعلبك، يرقى تاريخه إلى الحقبة الرومانيّة ويعرف بـ”قصر البنات” أو “قلعة العذارى”، وقد عثر على اسم ” قصر نابو” مدوّنا على أحد المعالم الأثريّة في البلدة، ما يرجّح أن يكون اسمها مرتبطا بـ”نابو” الإله الآشوريّ القديم، مع احتمال فرضيّة القصر الذي بناه أحد أباطرة الرومان لابنته وكان اسمها “نبا”.

قصص وحكايات

إلى جانب معبدها القديم تشتهر البلدة بحقولها المغروسة بالورد الشاميّ، وتعدّ سوريّا المجاورة المصدر الأساس لهذه الوردة التي تعود زراعتها إلى مئات السنين، بحسب أهل البلدة، وكانت تستعمل قديما كسياج شائك طبيعيّ جميل، يمنع دخول الماشية والحيوانات إلى الأراضي المزروعة، إلى أن امتلأت الحقول بها، وصارت تعتمد كمصدر رزق موسميّ يستفيد منه أصحاب الحقول والعاملون في هذه الزراعة، بعدما أبدع أجداد وجدّات هذه الأرض في تحويلها إلى صناعات غذائية، تمثّل اليوم جزءًا من الإرث الشعبيّ.

جانب من آثار بلدة قصرنبا

ما بين  بنات وعذارى قصر “نبا” التاريخيّ ومعبدها قصص وحكايات رواها لحقول الورد كلّ من سكن هذه المنطقة وغرسها في ذاكرة ووجدان أهلها، إلى أن اختلط عبق الورد مع التاريخ وفاح عطره حبًّا وعطاءً جعل من سيّدات هذه القرية الجميلة خلايا نحل نشيطة هنّ اليوم ملكاتها، يشقّنّ مع بزوغ الفجر طريقهن نحو المنحدرات المغروسة باللون الزهريّ فيشرق مع عملهن المعنى الحقيقيّ لـ”صباح الورد”  و”صباح الخير”.

150 طنًّا ماء ورد

تنتظر زهراء السيّد أحمد، ابنة قصرنبا البقاعيّة والمدرّبة في مجال التصنيع الغذائيّ، كبقية أبناء بلدتها موسم قطاف الورد الشامي في القرية، لتقطف ما تيسّر من رزق، تضيف إليها كمّيّات أخرى تشتريها، كي تحوّلها بالعمل المجبول بالحبّ إلى ماء الورد وشرابه والمربيّات، ولا يفوتها الورد المجفّف لمختلف الاستعمالات، منها الزينة والحلويّات والزهورات وبعض المؤونة، وللعطور حصتها الحاضرة أيضًا.

تقول زهراء لـ”مناطق نت”: “منذ تفتّحت عيناي على الحياة وأنا أعمل في حقول الورد، نجمعه ونقطّره تمامًا كغالبية أبناء قصرنبا، أو ما يعادل الـ40 بالمئة منهم، فحكاية الورد حاضرة هنا في الحقول والبيوت، وفي تاريخ بلدتنا، فالأراضي المغروسة بالورد الشامي تناهز 600 دونم، ويكاد لا يخلو بيت في القرية من وجود “كركة” لتقطير ماء الورد، إن كان  للاستخدام الشخصيّ والهدايا أو للتجارة بمنتوج يقارب 150 طنًّا كلّ عام”.

زهراء السيّد أحمد
جودة وتميّز

وتتحدّث زهراء عن مشروعها الخاص بفخر واعتزاز، فتشير إلى أنّه “في العام 2019 بدأت بمشروعي الخاص وهو أوّل مؤسّسة مسجّلة في الدوائر الرسميّة باسم سيّدة، خلافًا للسائد في منطقتنا، وهذه الخطوة أرى فيها أهمّيّة كبيرة لجهة تثبيت عملي وإعطائه حقّه في علامة واسم تجاريّ”.

وترى أنّ “منتجاتنا البلديّة من الورد والمؤونة البيتيّة هي مدعاة فخر لي، من حيث الجودة التي تميّز ورد حقولنا، ومن حيث الإتقان في العمل، بدءًا من غرس الحقول ورعايتها وقطف الورد وتشذيبه وصولا إلى تصنيعه”.

صعوبات وتحدّيات

عن التحدّيات التي تواجهها قاطفات الورد تؤكّد زهراء أنّ “الحديث عن الورد والموسم الأجمل على مدار السنة في قريتي ليس ترفًا بالنسبة للعاملات، لأنّ فيه كثيرًا من الصعوبات”، لافتة إلى أنّ “فترة الحصاد لا تتعدّى 25 يومًا، ما يتطلّب مجهودًا كبيرًا وسرعة ودقّة في العمل في وقت محدّد يبدأ مع ساعات الصباح الأولى حتّى الساعة الحادية عشرة قبل الظهر، تجنّبًا لحرارة الشمس وحفاظًا على الورد”.

وتتحدّث عن “أنّنا نعمل في أراض طبيعتها وعرة وغير منبسطة (جلول)، ما يكبّدنا مشقّات إضافيّة”، وترى أنّ “كلّ هذا طبيعيّ واعتدناه، إلّا أنّ المستجدّ حلّ مع الأزمة الاقتصاديّة وغياب الدعم من الوزارات المعنيّة وجشع بعض التجّار ممّن تخلّوا عن مسؤوليّاتهم تجاه المزارعين وزبائنهم مقابل المال، إلى جانب أسواقنا التي غزتها المنتجات الأجنبيّة، والتي هي حتما لا تضاهي منتجاتنا في جودتها”.

وتضيف زهراء بتحسّر: “لقد شكّل لنا ارتفاع أجور اليد العاملة نسبيًّا بالنسبة لسعر الورد، وبما أنّنا نحتاج في موسم القطاف القصير إلى مزيد من العمال، عبئًا إضافيًّا ومشكلة نعمل على حلها بتكاتفنا كعائلات في القطاف، كي نوفّر قدر الإمكان”.

وتختم حديثها: “ننتظر موسم الورد في قصرنبا بفارغ الصبر، وهو يحمل الخير والرزق لكثيرين منّا، وهو من أجمل الأشياء التي تميّز قريتي، لذلك نسعى جاهدين مع الجمعيّات إلى ديمومة هذه الثروة، وعبر الإعلام للإضاءة على هذا الإرث في زمن تخلّت فيه الوزارات عن مسؤوليتها في دعمنا”.

ابنة حقول الورد

تقول تاج الديراني، الناشطة في الشأن الاجتماعيّ مع التجمّع النسائيّ الديمقراطيّ لـ”مناطق نت”: “أنا ابنة حقول الورد، حصلت على إجازتي الجامعيّة في الجغرافيا، وعملي اليوم هو ضمن برامج ومشاريع تعتمد بطبيعتها على المشاركة بين الجمعيّات لتنمية قدرات ومهارات النساء في منطقة البقاع. أمّا عن عملي الثاني كمزارعة، فهو فقط في موسم الورد الذي تشتهر به بلدتي قصرنبا، الذي يبدأ في أواخر نيسان (أبريل) وينتهي مع حلول منتصف أيّار (مايو).

تشير الديراني إلى أنّ “مساحة أربعة دونمات ورثها زوجي عن والده في العام 2005 هي المساحة التي أعمل بها مع أولادي، بعدما غرسناها بشتول الورد التي ابتعناها من جيراننا المزارعين”.

تاج الديراني

وتضيف: “أسوة بكثير من أراضي بلدتنا الزراعيّة اخترنا الورد لخبرتنا به ولمردوده المادّيّ السريع، وفترة العمل القصيرة، ما يمكّننا من مزاولة مهن وأعمال أخرى بقيّة السنة”، لافتة إلى أنّ “هذا العمل لا يتطلّب منّا سوى حراثة الأرض مرّة أو مرّتين في السنة وغرس الشتول وتسميدها طبيعيًّا في تشرين الأول (أكتوبر)، ثمّ تركها لترتوي من مياه الأمطار فقط في خلال فصل الشتاء، ولا نعود للعمل إلا قبيل تفتّح الورد لتعشيب الأرض وتحضيرها للقطاف”.

من “الحراج” للسوق أو التقطير

تتابع الديراني: “لا ينفي ما ذكرته أنّنا نواجه تحدّيات عدّة لجهة القطف اليدوي وعوامل الطقس خلال فترة القطاف، وضيق سوق التصريف المحلّيّة المغزوّة بالمنتجات المعتمدة على التركيبات الكيميائيّة بدل الورد”، وترى أنّ “موسم الورد يأتي هديّة من الله على رغم المنافسة الخارجيّة، فينعشنا مادّيًّا بعد شتاء صعب، يتطلّب كثيرًا من المصاريف من دون إنتاج في مناطقنا البقاعيّة عامّة”.

قبيل بزوغ الفجر تبدأ تاج بجمع بعض العاملات في سيّارتها لنقلهم إلى الحقل، تقول: “هكذا أبدأ نهاري في موسم الورد”، وتشير إلى أنّه “مع وصولنا إلى مكان العمل  نتزنّر بـ “الحراج” أيّ الكيس المصنوع من القنّب أو الخيش لنجمع به الورد، نتسابق مع كلّ دقيقة من وقتنا، نقطف بها ما حان قطافه من الورد قبل تعرّضه لأشعة الشمس التي تهدّد بسقوطه أرضًا أو احتراقه، وبالتالي خسارته”.

وتتابع الديراني: “بعد جمع الورد ووضعه في أكياس كبيرة أقوم بنقله إلى نقاط البيع المعتمدة في المنطقة حيث أقوم بتوزينه وبيعه مباشرة، أو إلى المنزل لتصنيعه وتقطيره. شخصيًّا أبيع محصولي الخام  لتجّار الورد بعد اتّفاق مسبق معهم، وما أصنعه من ماء الورد هو للاستعمال الشخصيّ والهدايا، وقد ابيع بعضه لكن قليلاً ما يحصل هذا”.

وتضيف: “إنّ 200 كيلوغرام هي الكمّيّة اليوميّة الأكبر التي نقطفها من أربعة دونمات، يراوح سعر الكيلوغرام بين 150 إلى 200 ألف ليرة، وقد يختلف من يوم إلى يوم، وهو سعر رخيص نسبة للمجهود الذي يتطلّبه الورد وكلفات قطافه”. وتتمنّى “لو أنّنا نحظى بدعم واهتمام الوزارات المعنيّة والتعاونيّات الزراعيّة، إن كان لجهة تزويدنا بالأسمدة أو الشتول أو لجهة تأمين أسواق لتصريف الإنتاج. لكنّنا اليوم بحال أفضل، ما يشجّعنا ويجعلنا أكثر تركيزًا على تطوير هذا القطاع والاهتمام به، فهو بالنسبة لنا جزء لا يتجزّأ من تراث بلدتنا”.

أعباء الورد على المرأة

تحوز مي ديراني على ماستر في الفلسفة وعلم الاجتماع من الجامعة اللبنانيّة من خلال نشاطها الاجتماعيّ ومسيرتها الحافلة في دعم السيّدات كعضو في التجمّع النسائيّ الديمقراطيّ وجمعيّتها “بناء الإنسان (نبا)”، فضلا عن عملها الحاليّ كمسؤولة حماية في المجلس الدنماركيّ للاجئين في البقاع، ومدرّبة على إدارة حالات العنف وحقوق الإنسان وتعليم الكبار، تسعى إلى النهوض بالبلدة إلى أعلى المستويات، فتبادر ثقافيًّا واجتماعيًّا وإنمائيًّا وبيئيًّا للمحافظة على إرث قصرنبا التاريخيّ والحضاريّ.

في حديثها لـ”مناطق نت” تقول: “يعتمد هذا الموسم بغالبيّته على همّة وعمل سيّدات القرية، فهنّ الفئة الأكبر التي تعمل في الورد بدءًا من قطفه إلى تصنيعه وبيعه، وهذا العمل يكبّد المرأة أعباءً إضافيّة ولا يمنحها المردود الذي يوازي المجهود الذي تبذله، ولا يكفيها سداد بعض الديون أحيانًا، فالنساء كما جرت العادة لهنّ الحصّة الأكبر من تحمّل المشقّات والتضحية بتعبهنّ لصالح العائلة، عوضًا عن أن تكون هي المستفيدة بالمردود المادّيّ، ما يمنعها من تطوير إمكانيّاتها. كما أنّ عملها في أراضٍ غالبًا ما يملكها ذكور العائلة أو كأجيرة،  يبقيها مرتهنة للعائلة في مجهودها وتعبها”، وترى أنّ “غياب دعم الوزارات المعنيّة جعل العاملات في الورد في  مواجهة مع تحكّم التجّار بالأسعار وغياب المراقبة”.

دعم قطاع الورد

وتضيف: “شخصيًّا لا أعمل إلّا قليلًا في قطاف الورد، لكثرة التزاماتي في النشاط الاجتماعيّ، ولكنّ هذا لا يلغي دورًا كبيرًا أقوم به وأتحمًله بمسؤوليًة تجاه دعم قطاع الورد والسيًدات العاملات فيه، وذلك من خلال الدورات التي نستهدف بها السيّدات، كما نحاول تأمين الدعم لتيسير مسار العمل وإقامة النشاطات والتدريبات المرتبطة بهذا الموسم، علما أنّ الجهات المانحة اليوم ابتعدت عن دعم الزراعة، وخصّصت معظم تمويلاتها لبرامج تدريبيّة تستهدف موضوعات أخرى كالجندر والتمييز والعنف وإدارة النزاعات والتنمّر وغيرها”.

وتتابع ديراني: “كانت هناك سابقًا محاولات لإنشاء تعاونيّة زراعيّة، إلّا أنّ هذا لم يحصل، فمن وجهة نظري تعود الحصّة الأكبر في تطوير دعم هذا القطاع والمحافظة عليه كإرث وتنميته لبعض السيّدات اللواتي يعملن ضمن مبادرات فرديّة، الأمر الذي يسلّط الضوء على ضعف العمل الجماعيّ”، وترى أنّ “النهوض بهذا القطاع، يحتاج حتمًا إلى عمل جماعيّ وتكتّل لإنشاء اتّحاد خاص بالمزارعات، وتعاونيّة زراعيّة تنتج علامة تجاريّة تخصّ قصرنبا، المتميّزة أصلًا بجودة ورودها والصناعات المشتقّة منها، فضلًا عمّا تؤمّنه التعاونيّات من تطوير واستدامة عملهنّ على مدار السنة، عوضًا عن بقائه محصورًا بموسم”.

مهرجان سنوي للورد

وتشدّد ديراني على “ضرورة السعي لنيل حقّ النساء في الاستفادة من الضمان الاجتماعيّ والصحّيّ”، لكن،  “إلى أن يتحقّق ذلك أناشد السيّدات للاتّحاد ووضع استراتيجيّة عمل والتشبيك مع الوزارات المعنيّة، وصولًا إلى تحقيق هذه الأهداف وتثبيت المزارعات في أعمالهنّ بعد أن شهدنا في الآونة الأخيرة توجّه الفتيات للبحث عن وظائف لهنّ وتركهنّ العمل الزراعيّ”.

تحلم ديراني وتعمل لتكريس مهرجان سنويّ يتزامن مع فترة قطاف الورد وتصنيعه، في خطوة ذات بعد ثقافيّ وإنمائيّ للقرية، وتقول: “أسعى لتحقيق هذا الحلم بالتشبيك مع أهالي القرية كافة الذين هم أيضًا يتمنّون تحقيق هذا الهدف، ولكن الأمر يحتاج إلى دعم كبير، ويتطلّب مع تضافر جهودنا قيام الوزارات المعنيّة والهيئات الرسميّة والإعلاميّة أيضًا بدورها الطبيعيّ، وهذا ما سنعمل جاهدين لتحقيقه”.

لم تنكر العاملات في إنتاج الورد في قصرنبا ما يدرّه عليهنّ هذا الموسم من خير ورزق، وأنّه يساعدهنّ في الصمود لأشهر قليلة خلال السنة، أو لوفاء دين أو قضاء حاجة، بل يؤكّدن أنّه يمثّل بارقة أمل لهنّ في المناطق التي تخلّت فيها الدولة عن القيام بدورها لجهة تنميتها ودعم اقتصادها، إلى أن صارت المواسم تمثّل لكثير من العائلات فرصة تمكّنها من وضع الطعام على موائدها.

ويبقى الأجمل في الأدوار المختلفة التي تؤدّيها السيّدات، أنّ معظمهنّ لسن مزارعات بالضرورة، بل هنّ سيّدات فاعلات في المجتمع، مبادرات ومثقّفات اكتسبن تقنيّات الزرع والقطف والتصنيع بفطرتهنّ السليمة وحبّهنّ لقريتهنّ وتعلّقهنّ بأرضهنّ، يعبّرنَ عن انتمائهنّ لها بالعمل الدؤوب والتكاتف، وفي السعي لتظهير إرث هذه البلدة بأبهى الصور مع كثير من الإصرار على الإنجاز وتخطّي العقبات.

فاديا جمعة – مناطق نت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى