سلال وفخّاريات عصام شحادة تجوب الجنوب على حدود القصف

صدى وادي التيم-لبنانيات/

لم تعد أصوات القصف وغارات الطيران الحربيّ والمسيّرات التي لا تغيب عن سماء الجنوب شيئاً غريبًا في القرى القريبة من المنطقة الحدوديّة، ربّما صارت شيئًا مألوفًا اعتاده الناس، وباتوا يتابعون حركة حياتهم بشكل شبه طبيعيّ، وإن بدت تلك الحركة خجولة، يتكرّر ذلك منذ الثامن من تشرين الأول/ أكتوبر من العام الماضي.

في أثناء تجوالك في بلدة السلطانيّة القريبة من الحدود نسبيًّا، لا بدّ أن تصادف رجلًا نحيلًا اكتسح رأسه شيب فضّيّ زحف كذلك إلى لحيته، يقف بجانب بسطة ركنها إلى جوار الطريق الرئيسة في البلدة، تضم تلك البسطة أوانٍ منزليّة وفخاريّات من جرار وأباريق ومزهريّات، وسلال قشّ وفناجين قهوة وغيرها من الأدوات التي أصبحت للزينة والتذكار أكثر منها للاستخدام.

الحاج عصام علي شحادة في بسطته في بلدة السلطانية

يجلس ابن بلدة شقرا الحاج عصام علي شحادة البالغ من العمر سبعة وسبعين عامًا على كرسيّ إلى جانب بسطته، ينتظر زبائن عابرين، لعلّه “يستفتح” بأحدهم كيّ يسدّ رمق نهاره، فيعود ظافرًا إلى عائلته المكوّنة من عشرة أنفار، ستّة صبيان وأربع بنات.

راديو وألوان بهجة

تشعر للوهلة الأولى كأنّ بسطة الحاج عصام وما تتضمّنه، وصاحبها ينتمون إلى عصرٍ مختلف، إذ إنّ أول ما يلفت انتباهك ذلك الراديو الكبير المغلّف بجلد بنّي يجاور صاحبه، فيذكّرك على الفور بإذاعة لندن و”صوت العرب” وغيرها من الإذاعات التي ضاع صوتها وأصبح صدى لأيّام عبرت منذ سنين طويلة، ولا تدري إن كان ذلك الراديو متصالحًا مع محطّات اليوم ويسمح بعبورها عبر أثيره، أم إنّ الحاج عصام وضعه ديكورًا يتمّم مشهد بسطته الملونة.

ينشر الحاج عصام الأباريق الفخّاريّة المتنوّعة بألوانها المتعدّدة المبهجة، وكذلك أغطيتها المزركشة المطرّزة، إلى جانب سلال القش وفناجين القهوة، عند رصيف الطريق، تبدو كأنّها لوحة إلى جانب الشجر وألوان الطبيعة الربيعيّة التي تكتسي الحقول.

من حرفي إلى تاجر

يتنقّل ابن بلدة شقرا بين معامل الفخّار وأدوات الزينة، يذهب إلى راشيّا الفخّار وأحيانًا إلى دير القمر، باحثًا عن شيءٍ يلفت النظر كي يبيعه للناس. سبق له وأن اشتغل منجّدًا مدّة طويلة قبل 30 عامًا. يقول لـ”مناطق نت” التي التقته أمام بسطته في السلطانيّة: “لقد انقرضت مهنة التنجيد وانتهى زمن الأعمال اليدويّة، وتلاشى الطلب عليها، لذا انتقلت بعدها إلى تجارة الأدوات المنزليّة، أشتري وأبيع للناس، إلى أن جاء فيروس كورونا وسجننا في المنزل، ومنعنا من التبسيط في الأسواق، فصرت عاطلًا عن العمل من جديد”.

يتنقّل ابن بلدة شقرا بين معامل الفخّار وأدوات الزينة، يذهب إلى راشيّا الفخّار وأحيانًا إلى دير القمر، باحثًا عن شيءٍ يلفت النظر كي يبيعه للناس. سبق له وأن اشتغل منجّدًا مدّة طويلة قبل 30 عامًا

يتابع الحاج عصام: “ألزمنا فيروس كورونا البطالة والركون إلى المنزل، نعيش على المساعدات والإعاشات، لكن لقمة الشفقة لا تشبع، فعاودت بيع الأدوات المنزليّة والفخّار من جديد”.

فخّار على اسم راشيّا

يتسوّق الحاج عصام بضائعه من محترفات راشيّا الفخّار، ينتقي ما يعجبه من الفخّار على أنواعه. بالنسبة له “الفخّار الذي تنتجه راشيّا المسمّاة باسمه لا يُعلى عليه، بإمكان فخّار راشيا أن يستبدل البرّاد في منازلنا، وهو صحّيٌّ لشرب المياه، وبرأيي الناس ما زالت مهتمّة بهذه الحرف القديمة، تحبّ أن تقتني الفخّار من جرار ومقليات وركاء (جمع ركوة) وصحون، وليس فقط من أجل الزينة”.

يقصد الحاج عصام ببسطته القرى والبلدات، خصوصًا تلك التي تقام فيها أسواق أسبوعيّة شعبيّة، قبل أن تعطّلها الحرب، يحلّ أينما حلّ رزقه “كنت أبيع الفخّار في بلدة تبنين، وانتقلت ببسطتي إلى بلدة السلطانيّة بعدما منعونا من البيع هناك. البيع هنا في السلطانيّة جيّد، كلّ يومٍ بيومه، ولكن في بلدة تبنين كنت ارتزق أكثر لأنّ بسطتي كانت عند التقاطع الذي يجمع بين عدد من الضيع المجاورة، ولكن في كلّ الأحوال، ربحنا من بيع الفخار قليلٌ بالنسبة إلى سعره، فأنا ربّما أبيع الجرّة بنحو 500 ألف ليرة لبنانية، بينما ربحي منها هو 75 ألف ليرة ليس أكثر” يقول الحاج عصام.

تعب على قارعة العمر

لم نعرف أعمار أبناء عصام شحادة، ولا بأيّ منهم يُكنّى، لكن ما نعرفه أنّ أمثاله وبعمره، يجب أن يكونوا قد بلغوا سنّ التقاعد من هَمّ العمل ومتاعب الحياة، وانصرفوا إلى الراحة يمضون ما تبقّى من أعمارهم بهدوء واطمئنان. لكن هذا لن يحصل في بلد لا يلحظ كرامة الإنسان في شبابه ولا يلتفت إليه، فكيف في شيخوخته التي يجب أن تكون مصانة، وهذا ما يتجلّى مع الحاج شحادة الذي ما زال يجهد ويكدّ في سبيل تأمين لقمة عيش كريمة لعياله، مغمّسة بالتعب والصبر والترحال من مكان إلى مكان بحثًا عنها.

على مدى 30 عامًا يتنقل الحاج عصام ببسطته بين المناطق، هي الثابت الوحيد على رغم تبدّل الزمن والأسواق والمهَن والأحوال، واليوم في زمن الحرب وعلى هدير المسيّرة المعادية MK وبينما هو جالس أمام الفخاريّات بانتظار رزقه في الشارع، لا تخرج من فمه إلّا كلمة “الحمدلله”.

المصدر: فاطمة ياسين-مناطق

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
error: Content is protected !!