صناعة المراكب في لبنان… مهنة تعود لعهد الفينيقيين

صدى وادي التيم – لبنانيات /

تتدحرج صناعة المراكب البحرية في لبنان على أرصفة الموانئ والمرافئ في عواصم المحافظات والأقضية الساحلية وفي مخابئها وأزقتها، تخرج إلى الضوء في مراحل التجفيف، ثم تختبئ بانتظار مركب سيولد من جديد.

لم تعد هذه الحرفة كسابق عهدها، وإنما تستمر بوتيرة بطيئة جداً مقارنة مع عزها الذي كان سائداً خلال سنوات خلت، ربما قبل أن تحل الضائقة الاقتصادية العامة وتلقي بتبعاتها على الجميع: أسياد الحرفة من صانعي المراكب والهواة والبحارين والصيادين، وعلى مرافق الحياة التي تدور في فلكهم، وعلى المهنة الموغلة في التاريخ والذاكرة وواقع الحياة.

برأي أصحاب المهنة التي تتوحد فيها أكثر من حرفة كالهندسة والتصميم والنجارة والطلاء وأعمال الميكانيكا وتجهيز المحركات والحس الفني المتربع على عرش الأولوية، فإنها لن تموت ما دامت هناك مراكب تمخر عباب البحر لصيد السمك، أو في رحلات سياحية أو ترفيهية.

من عهد الفينيقيين

في تاريخ صناعة المراكب بالمدن الساحلية في لبنان، وتحديداً في مدينتي صور وجبيل القديمتين، تعود هذه الصناعة إلى عهد الفينيقيين (قبل أربعة آلاف سنة تقريباً)، إذ كانوا أول من خاضوا البحار بمراكبهم وسفنهم القوية المتينة المصنوعة من خشب لبنان، يتحدون العواصف والأمواج العاتية لينقلوا على متونها أبجديتهم وحرفهم وفنونهم إلى كل العالم. لذلك استوطنت صناعة المراكب منذ عهود قديمة أكثر من مدينة ساحلية.

ففي صيدا وصور جنوب لبنان، يتوارث صناع المراكب الحرفة أباً عن جد، لكن دائرتها باتت في قيد انحسار، إذ تراجع عدد العاملين فيها من عشرات إلى أعداد قليلة. ولم يبق في مدينة صور إلا عائلة إيليا بربور الأشهر في صناعة المراكب السريعة خلال العقود الستة الأخيرة، وقد رحل رب العائلة عام 2017 عن نحو 88 سنة، تاركاً المهنة لثلاثة من أبنائه شاركوه عزها: إلياس وجورج ومايكل.

وتقوم الحرفة اليوم على أكتاف جورج، يساعده شقيقاه بين الحين والآخر، لكن إذا لم يرث أحد من الأبناء مهنة الجدود ستقفل آخر مرابعها في عاصمة الفينيقيين جنوباً، هذا ما يؤكده جورج الذي يرى عدم انخراط أي من أبناء الأشقاء الثلاثة في مهنة آبائهم.

أما في صيدا، فثمة خمس ورش تتوزع إما على ميناء الصيادين أو في الصرفند أو جنوبي صيدا أو في الجية شمال المدينة.

أباً عن جد

يقول أشهر حرفيي المراكب حالياً في صيدا ناصر عقاد، “أقوم بصناعة مراكب الصيادين والمراكب السياحية على ميناء صيدا بعدما ورثت مهنتي عن أبي أحمد سعد الدين العقاد الذي ورثها عن والده. بدأت أعمل فيها مذ كان عمري 12 سنة، أنزلني والدي إلى مصنعه وقال لي: هذه مهنتك إلى آخر العمر. وها أنا أعمل فيها منذ خمسة عقود وأكثر”.

ويضيف، “لا يتعلم هذه المهنة الجميلة إلا أبناء أربابها، لا يدخلون غريباً عليها، وإن أتى أحدهم من خارج العائلة فلن يستمر طويلاً أو يتعلمها على أصولها، هذا مستحيل”.

يسرد عقاد بعض مراحل هذه المهنة التي كانت لها أيام عزها، “كان الشغل لا يتوقف ويصنع المعلمون المراكب والزوارق والفلائك في كل اتجاه للصيادين أنى كانوا، اليوم يتكاثر عديد الصيادين لكن وتيرة الصناعة تسير ببطء شديد، خصوصاً في ظل الانهيار الاقتصادي الذي نعاني منه منذ قرابة خمس سنوات. حتى إن الصيد في حد ذاته لم يعد مثلما كان سابقاً بسبب العشوائية والفوضى التي ترافق أصول المهنة، مما يجعل كميات الأسماك ضئيلة مقارنة مع عديد الصيادين والعائلات التي تعتاش من الصيد البحري”.

بحسب عقاد فإن المراكب أو الزوارق “تعيش نحو ربع قرن أو 30 عاماً إذا لم تتعرض لصدمات محطمة، بعدها تحتاج إلى حفلة صيانة وترميم وطلاء، وقد تعيش بعدها على قدر عمرها الأول وأكثر، طالما أنها تخضع لشروط العناية والصيانة السنوية، ومنها ضرورة إخراجها من الماء المالح مرة كل سنة في الأقل، لتنظيفها من عوالق البحر وتفقدها وطلاءها إن استدعى الأمر”.

من خشب لبنان

يؤكد الرجل أن آل العقاد من صناعي المراكب هم خمس عائلات تتقاسم الورش بين ميناء صيدا وميناء الصرفند وميناء الجية، “لنا أكبر ورشة في لبنان تتوزع بين المرافئ الساحلية وصولاً إلى الدورة في ضاحية بيروت الشرقية، نصنع المراكب الجديدة من خمسة أمتار وحتى 20 متراً، وأكثر منها إن جد الطلب عليها. أما الخشب المستخدم في الصناعة فهو من جذوع الكينا والسرو والصنوبر والتوت والزنزلخت، وكلها من أشجار لبنان، وما اختيارنا لها إلا لصلابتها، وقد نستورد بعض المنحنيات أو الدوائرة من أخشاب صلبة كخشب الـ”موغونو” (Mogonu) أو خشب إيروكو الأفريقي، الذي يستخدم في مقدمات بعض المراكب الكبيرة”.

يشتري صانعو المراكب الخشب من مناطق لبنانية مختلفة بالأطنان، “إذ كان سعر الطن أيام كان الدولار بـ1500 ليرة بنحو 120 دولاراً أكثر أو أقل. ونقوم بعدها بتقطيع وتشريح هذه الجذوع بأشكال طولية وبسماكة توازي حاجتنا ليس أكثر، كي يسهل حملها واستخدامها في التفصيل وخلف المنشورات”، يقول عقاد.

تستر ولا تغني

بدأ جار عقاد، كامل عطية العمل بهذه الحرفة منذ 40 سنة، تعلمها على يد والده “الذي كان يهواها ولم يتفرغ لها، ومع ذلك أصر على تعليمي إياها، ولم أتوقف عنها منذ 40 عاماً متواصلة”. مضيفاً، “ورشتي الحالية فيها ثلاثة مراكب قيد التأسيس والصنع، أشتغل فيها بشكل متواز ولا يمكنني أن أشتغل بأكثر من ثلاثة، إذ إن المساحة المتاحة لي هنا على ميناء صيدا لا تكفي”.

ويتابع، “لدي في الداخل مركب من 14 متراً طولاً، ويحتاج إلى أربعة أشهر في الأقل كي ينتهي بناء ويصبح جاهزاً للنزول إلى البحر. لا أشتغل به بشكل متواصل وأتنقل بين المراكب الثلاثة، لكن ثمة واجباً آخر يقع على عاتق أصحاب الورش هنا، وهو التفرغ لإصلاح أعطال مراكب الصيادين اليومية سريعاً لأنها تشكل باب ارتزاق لهم ولا يمكن تجاهلها”.

يمكن في خلال صناعة مراكب طويلة أو كبيرة تمرير “فلوكة” صغيرة بين خمسة أمتار أو ستة، لا تحتاج إلى جهد كبير، يقول عطية، “لكن الطلب عليها خف كثيراً، أخيراً، مع تراجع الصيد البحري وعدم قدرة الصيادين على تأمين مبالغ تراوح ما بين سبعة و10 آلاف، كان يمكن تأمينها قبل الأزمة الاقتصادية التي وقعنا جميعاً تحت وطأتها”.

كامل جابر – اندبندنت عربية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى