الزّواج في زمن الحرب أعراس مؤجّلة وأخرى صامتة
صدى وادي التيم – لبنانيات /
للحرب القائمة على الحدود الجنوبيّة راهنًا، آثار نفسيّة وجسديّة وماديّة، ومآس إنسانيّة وحكايات لا تُروى في العلن، عن فقر وجوع وعوز وشعور بعدم الاستقرار، وسط خسارات النّاس الكبرى، لأحباب ومعارف ومنازل كانت مليئة بالذّكريات وشذرات ماض، ما اضطرّ نسبة غير قليلة منهم إلى ترك أماكن سكنهم والابتعاد عنها، فيما دخل كثر في حال من فقدان الشّغف والحافز للقيام بأبسط الأنشطة الحياتيّة وصولًا إلى المهمّ منها.
وعلى هذا المنوال، بات الإقدام على الزّواج، خطوة مؤجّلة في ظلّ الظّروف الرّاهنة، لأسباب شخصيّة واجتماعيّة ونفسيّة من جهة، وبسبب ارتفاع التّكاليف المادّيّة من جهة أخرى، في حين اختار البعض عقد الزّواج في جمعة عائليّة بسيطة متواضعة والتّخلّي عن مراسم الاحتفال التي إعتادها الجنوبيّون في مثل هذه المناسبات.
في الحقيقة، بدّل الوضع الحالي المشهد العامّ في الجنوب، بتأكيد غالبيّة الجنوبيّين، وهذا ما يبدو واضحًا في أحاديثهم وجلساتهم وتصريحاتهم وحتّى كتاباتهم على الـ”سّوشيال ميديا”. علمًا أنّ بعض من قابلتهم “مناطق نت” آثر عدم الحديث عن مسألة تأخّر أو تأجيل مواعيد زفافهم، على اعتبار أنّه ليس أولويّة في زمن الحرب، فيما روى البعض الآخر صراحة كيف أثّرت الحرب عليهم مادّيًّا ونفسيًّا فلجأوا إلى خيار تأجيل الزّواج أو عقده على عجلة.
عقد مؤجّل
الشّابة الجنوبيّة سارة (فضّلت عدم ذكر كنيتها)، واحدة من هؤلاء الّذين اختاروا تأجيل عقد الزواج. هي الآن نازحة وعائلتها في بيروت، تقول لـ”مناطق نت”: “تراجعنا عن موعد الزّفاف الذي كان مقرّرًا في وقت قريب بسبب الحرب، كنت أهمّ في تجهيز منزليّ، لكنّنا الآن لا نعلم إنّ سيكون لنا بيت نسكنه حينما تنتهي الحرب أم لا، كلّ ما نعرفه أنّنا مهجّرون الآن، وأعمالنا متوقّفة”.
يقع منزل سارة العاملة وخطيبها على تشييده منذ سنوات عديدة، في بلدة خطيبها ميس الجبل (قضاء مرجعيون) التي تعرضت لكثير من القصف والدّمار على مرّ الأشهر الماضية، ولا تعلم اليوم إنّ أصابه ضرر ما. كذلك توقّف خطيبها عن العمل منذ قرابة خمسة أشهر بسبب وقوع مشغله (صناعة المفروشات) في نقطة حدوديّة مستهدفة دائمًا. وبحسب التقديرات الرسميّة الأوّليّة فإن القصف الإسرائيليّ سبّب تدمير أكثر من ألف منزل وتضرّر أكثر من خمسة آلاف أخرى، ونزوح أكثر من 90 ألف شخص من البلدات الحدوديّة.
مخاوف كثيرة تعيشها سارة منذ بدء الحرب، لجهة تأزّم الوضع أكثر فأكثر، وأن تدخل بعد ذلك في دوّامة البحث عن منزل بديل (إيجار). تقول: “المستقبل مجهول. يصعب البدء من الصفر مجدّدًا، وفي مكان آخر، الأمور ليست بهذه السّهولة. تبدّلت جميع خططنا، وفي أفضل السّيناريوهات لن نكون قادرين على الزّواج في وقت قريب، لأسباب مادّيّة على الأقلّ”.
دمار أكبر من الفرح
عديدون وكثر مثل سارة تضرّرت مصالحهم في الجنوب، لا سيّما في خط المواجهة الأول، من الناقورة الساحلية إلى كفرشوبا جارة جبل الشيخ، حتّى محال بيع السّلع الغذائيّة أقفلت أبوابها، نتيجة الدّمار الكبير الحاصل هناك، إذ عمدت قوّات الاحتلال إلى تدمير شبه كامل لأحياء برمّتها في قرى وبلدات على طول الخطّ “الساخن” جار فلسطين المحتلّة، وقطعت الطرق الفرعيّة والعامّة كي يصعب الوصول إليها، بعد أن كانت تعمل على تدمير منزل أو حيّ داخل هذه البلدات، وهذا ما تظهره مقاطع فيديوهات مصوّرة منتشرة على مواقع التّواصل الاجتماعيّ.
كما أشارت أرقام الشركة الإحصائيّة “الدوليّة للمعلومات” إلى تعطّل الدّورة الاقتصاديّة في نحو 46 بلدة وقرية جنوبيّة.
وبيّنت الشكوى التي قدّمتها وزارة الخارجيّة اللبنانيّة إلى الأمم المتّحدة ضدّ إسرائيل تسجيل 3486 اعتداء اسرائيليًّا على الجنوب حتّى 15 شباط الماضي، وأتت على الشكل التالي: عيتا الشّعب (259 اعتداءً)، تلتها حولا (251) والنّاقورة (212) وعلما الشّعب (191) وطيرحرفا (175) وعيترون (141) وميس الجبل (140) ومروحين (124) والجبّين (121) ويارون وكفركلا (114 لكلّ منهما)، وهذه الأرقام ارتفعت راهنًا بفعل ازدياد وتيرة الاعتداءات خلال الشّهرين الأخيرين.
معدّلات الزواج إلى النصف؟
يؤكّد الباحثُ في قضايا الأسرة والمجتمع الدكتور زهير حطب أنّ “معدّلات الزواج في المنطقة الحدوديّة، ستتراجع إلى النّصف تقريبًا خلال العام الحاليّ، بفعل الأحداث الراهنة، وستبقى متراجعة على المدى المنظور، مدة ثلاث أو أربع سنوات تقريبًا”. ويقول في حديث مع “مناطق نت”: “هذا أمرٌ طبيعيّ” على اعتبار أنّ كلّ تغيير يطرأ على المجتمعات بشكل عام، ينعكس على المواضيع الأساسيّة في حياة الأفراد، بما فيها، الزّواج والمهنة واختيار اتّجاهات المستقبل.
ويضيف: “الأحداث الحدوديّة التي يعيشها النّاس، هي أحداث مأسويّة، وكذلك عنفيّة وحربيّة، تطال بشكل أو بآخر الشّعور بالأمان والاستقرار، الذي يفتقده كثر راهنًا، وهذا ما يؤثّر في اتّجاهات الأفراد، وخصوصًا الشّباب، في ما يخصّ تكوين الأسرة وتحمّل المسؤوليّة، كما اختيار الاختصاص والمهنة، وتكوين رؤية لنوع العمل والدخل وإلى ما هنالك من أمور حياتيّة أساسيّة. إذ لا يعود أيّ إنسان قادرًا على تصوّر مستقبله، ليس القريب منه ولا البعيد، بسبب شعورهم بالعجز في الوقت الحاليّ”.
وبإشارة إلى أنّ الزّواج في بلداننا “مرتبط بإشباع الحاجات الجنسيّة”، يقول حطب: “الزّواج هو الغلاف الشّرعيّ للعلاقات، حتّى لو بدت مجتمعاتنا متحرّرة من القيود وخارجة عن الضّوابط إلى حدّ ما، خصوصًا في المنطقة الحدوديّة حيث الضّوابط الدينيّة والمذهبيّة ظاهرة وطاغية، لذا نجد أن كثرًا لم يرغبوا بإلغاء الزّواج أو تأجيله، بل على العكس أكّدوا حصوله”.
ولا يعتقد حطب “أنّ هذه الفئة من النّاس قد حصل معها أيّ حدث أمنيّ، على عكس من اختار تأجيل هذه الخطوة إلى فترة تكون مناسبة أكثر، ربّما بعد عام، نتيجة الضّرر المباشر الّذي أصابهم جرّاء قصف الاحتلال الإسرائيليّ المستمرّ هناك”.
الزواج في زمن الحرب
وفي هذا السّياق، آثر كثر عدم تأجيل مواعيد الزّواج، وإتمامها على رغم الحرب. فاطمة إبراهيم، ابنة بلدة برج الشّمالي (قضاء صور)، واحدة من هؤلاء، عقدت قرانها في منتصف كانون الأوّل/ ديسمبر الماضي، وانتقلت للعيش مع زوجها في الكونغو- برازافيل.
تقول إبراهيم لـ”مناطق نت”: “كأيّ فتاة عشرينيّة كنت أحلم بإقامة حفل زفاف يكون فيه كلّ الأقارب والأصدقاء. لكن قرّرنا، أنا وخطيبي، ترتيب عشاء عائليّ، وأخذنا بعض الصّور للذّكرى. نخجل أن نضحك في ظلّ كلّ المآسي الراهنة، فكيف يمكن لنا أن نقيم الاحتفالات؟”.
تروي إبراهيم كيف أثّرت فيها الحرب القائمة في الجنوب نفسيًّا، وكذلك مشاهد الإجرام في فلسطين المحتلّة، “عايشتُ الخوف والقلق. كنتُ أخاف أن تتطوّر الأحداث ولا يأتي خطيبي إلى لبنان، لذلك فضّلت الإسراع في هذه الخطوة، على أمل أن ينتهي كابوس الحرب قريبًا”.
كذلك فعلت لمى أيّوب، إذ أقامت حفل زفاف “صامت” بحسب تعبيرها، وذلك قبل نحو ثلاثة أشهر بعدما ألغت حجزها في إحدى صالات الأفراح في محلّة الحوش (صور)، تقول لـ”مناطق نت”: “خفنا أن تطول مدّة الحرب، فلا بوادر حلول تلوح في الأفق”.
وتضيف: “أثّرت الحرب فينا نفسيًّا وماديًّا، توقّفت أعمال زوجي (متعهّد عقارات)، حتّى إنّنا استخدمنا كلّ الأموال التي ادّخرناها سابقًا، وبحثت عن عمل لمساندته في هذه الأوقات الصّعبة ريثما تعود الأمور إلى عهدها السّابق”.
الزواج “عن بعد”؟
وبسبب الأوضاع الرّاهنة، لجأ البعض إلى عقد القران عبر تقنيّة الـ”فيديو كول”، بحسب ما يفيد أحد سكّان بلدة مرجعيون الّذي ما زال يقيم هناك حتّى الآن، ويقول لـ”مناطق نت”: “لمسنا اضطرار عديدين إلى اعتماد هذه الطّريقة من الزّواج في بلدتنا والبلدات المجاورة، كون الشّريك موجود في خارج البلاد، ويصعب عليه القدوم إلى لبنان في إبّان الحرب، لذا تمّ الزّواج “أونلاين”، لتنتقل بعدها الزوجة وتعيش معه في الخارج”.
ويضيف: “في داخل البلدات الحدوديّة، تضرّرت كثير من المنازل، جزئيًّا أو كلّيًّا، بعضها كان قيد الإنشاء، ولأجل ذلك، اضطرّ النّاس إلى استئجار شقق سكنيّة ومنازل بعيدة عن القرى الحدوديّة الملاصقة لفلسطين المحتلّة، ومنهم عِرسان جدد”.
وقد اعتاد الجنوبيّون إقامة حفلات الزّواج في فصل الصيف أكثر منه في الفصول الأخرى، لذا سيكون موسم الأعراس هذا العام مرهونًا بتوقّف الحرب الحدوديّة. تقول غنوة بسمة، وهي صاحبة إحدى الصالات التي تقام فيها الأعراس والمناسبات في الحوش (صور) لـ”مناطق نت”: “إن حجوزات الأفراح ألغيت كلّها بعد مرور شهرين على بدء الحرب، لقد أقفلت الصالة كلّيًّا منذ ذلك الوقت، حتى صالات الأفراح المجاورة لا تقام فيها أيّة احتفالات”.
ما قبل الحرب؟
ليست هذه النماذج سوّى دلائل تحكي واقعًا معاشًا وملموسًا في المنطقة الحدوديّة، حيث تبدّلت الخطط المرسومة بفعل الدّمار وضيق الأحوال وارتفاع تكاليف الزّواج وتضرّر المصالح، وأكثر من ذلك، الوضع النفسيّ الضّاغط على غالبيّة النّاس هناك.
إلّا أنّ آخر أرقام نشرتها “الدوليّة للمعلومات” قبل بدء الحرب في العام 2023، أشارت فيها إلى تراجع معدّلات الزواج في لبنان، لسببين أساسييّن هما: الأزمة الاقتصاديّة وفيروس كورونا المستجدّ، وتبعاتهما التي أرخت بظلالها على اللبنانيّين كافّة منذ أواخر العام 2019.
وتبيّن الأرقام أنّ معدلات الزواج تراجعت بنسبة 18 في المئة بين العامين 2018 و2022، فيما تراجعت نسبة الولادات بنحو 32 في المئة، علمًا أنّه لوحظ تزامن هذا الأمر مع ارتفاع نسب الطلاق في الفترة نفسها.
وتظهر أرقام الشركة، أنّ عدد عقود الزواج كانت 36287 في العام 2018، انخفضت إلى 34076 في العام 2019 وانخفضت أكثر في العام 2020 حيث وصلت إلى 29493 عقد زواج، ثمّ ارتفعت قليلًا في العام 2021 ووصلت إلى 33661 عقد زواج، لتعاود بعدها الانخفاض إلى 29770 عقدًا في العام 2022.
حنان حمدان – مناطق نت