حرب غزة في جنوب الليطاني.. هل تتحول إلى حرب شاملة؟
صدى وادي التيم-امن وقضاء/
ثمة سباق بين إصرار حكومة بنيامين نتنياهو على خوض معركة رفح وبين ما يُبذل من جهود ديبلوماسية حثيثة للتوصل إلى وقف نار مؤقت بما يُعطي فسحة لصفقة تبادل جديدة وتحقيق مطالب فلسطينية أخرى من جهة، ويمنع توسع الصراع في المنطقة ولا سيما مع تصاعد التهديدات الإسرائيلية بشن حرب واسعة ضد لبنان من جهة أخرى. فهل تُنفذ إسرائيل وعيدها؟ وهل “يُستدرَج” حزب الله، متحرراً من كل الضوابط والحسابات التي تحكم أداءه حتى اللحظة؟ قد تطرح أسئلتك هذه على خبراء سياسيين وعسكريين في العاصمة اللبنانية فتأتيك أجوبتهم، لكن تجربتي مع تغطية الحروب جعلتني أتوجه نحو جنوب لبنان لإستطلاع الوضع عن قرب، والإستماع إلى آراء عينة من الأهالي الصامدين في قراهم. على طول الطريق من العاصمة بيروت إلى القاسمية (80 كيلومتراً)؛ وهي أول بلدة في منطقة جنوب نهر الليطاني، لا وجود لأية حواجز أمنية غير “حاجز الأولي” للجيش اللبناني عند مدخل مدينة صيدا ثم حاجز القاسمية. وعندما تُدشن رحلتك جنوب النهر، لا بد من حاجز إلزامي آخر للجيش اللبناني في معظم أقضية الجنوب (حاجز بيت ياحون قبيل مدينة بنت جبيل وحاجز نهر الخردلي قبيل مدينتي مرجعيون وحاصبيا). ومنذ العام 2000، تاريخ تحرير الجنوب اللبناني من الإحتلال الإسرائيلي (دام 22 عاماً)، درجت العادة أن يحصل أي زائر غير لبناني، وحتى المواطن اللبناني من خارج منطقة جنوب نهر الليطاني على إذن خاص من مديرية المخابرات في الجيش اللبناني، يُبرزه عند الحواجز العسكرية اللبنانية للسماح له بدخول المنطقة الحدودية. غير أن الظروف الأمنية التي تحيط بالمنطقة هذه الفترة، نتيجة المواجهات اليومية التي يخوضها حزب الله مع إسرائيل، في إطار “حرب مساندة” المقاومة الفلسطينية في غزَّة، تجعل قرار زيارة منطقة جنوب نهر الليطاني أشبه بالذهاب إلى ساحة حرب يتوجب بلوغها التحلي بحد أدنى من الشجاعة والتحصن بالتطمينات المعنوية واللوجستية. وإذا كنت صحافياً وتحتاج إلى التجول في المنطقة كلها، فحتماً ستحتاج أيضاً إلى التواصل مع مسؤولي العلاقات الإعلامية في حزب الله، وذلك لدواعٍ أمنية في الدرجة الأولى، ومن أجل الإطمئنان على سلامتك.. والأهم من أجل تسهيل مهمتك، خصوصاً وأنك ستصادف في معظم القرى حضوراً ولو مخفياً لعناصر من حزب الله. ساحة حرب لا أحد يزور المنطقة المحاذية للشريط الحدودي مع فلسطين المحتلة في هذه الأيام إلا إذا كان مضطراً لذلك، كحال قلَّة قليلة من الأهالي ممن يتسللون من وقت لآخر لتفقد منازلهم أو للمشاركة في مأتم أحد أقاربهم أو أبناء قراهم. ومن يتسنى له الزيارة والتجول في القرى والبلدات الجنوبية سيتراءى له بأن حرباً مفتوحة آتية لا محال: وحده أزيز المسيًّرات الإسرائيلية ودوي المدافع يكسر الصمت الذي يزيد من رهبة أجواء الحرب. الحركة شبه مشلولة، والأمكنة خالية بعد أن نزح عنها معظم سكانها. فالآلة الحربية الإسرائيلية لا تُفرّق بين مدني وغير مدني، ولا بين منزل آمن وهدف عسكري. القصف الإسرائيلي ـ الجوي بمعظمه ـ يتواصل نهاراً وليلاً بلا هوادة. وقد طال – حتى الآن – حوالي عشرة آلاف وحدة سكنية، جزءٌ كبيرٌ منها تهدم بشكل كامل (ألف وحدة تهدمت وألف للهدم الكلي)، خصوصاً في بلدات مثل بليدا (110 منازل تهدمت أو للهدم الكلي من أصل حوالي 200 منزل في القرية)، عيترون (17 هدم وتدمير كلي)، ويسري ذلك على قرى مثل الخيام وحولا (قضاء مرجعيون)، ويارون ومارون الراس وبيت ليف وعيتا الشعب ومحيبيب (قضاء بنت جبيل)، والضهيرة ومروحين وطير حرفا والجبين والمنصوري والناقورة (قضاء صور). وقد أحصت مؤسسات رسمية لبنانية وقوع خسائر مباشرة (منازل ومتاجر ومؤسسات) بقيمة تزيد عن 800 مليون دولار، فيما رقم الخسائر غير المباشرة ليس محدداً حتى الآن، لكن الإجمالي سيتجاوز المليار دولار، وفق إحصاءات لبنانية أولية. طائرات الإستطلاع الحربية لا تغادر سماء الجنوب، وتجعل من أي شيء يتحرك هدفاً مشروعاً في أية لحظة. وقد استشهد ثلاثة صحافيين (عصام عبدالله، فرح عمر، ربيع معماري) وأصيب خمسة آخرون بإستهداف مباشر من الطيران الإسرائيلي. صار عدد المدنيين الذين سقطوا بحدود الأربعين مدنياً. أما عدد الشهداء المقاومين، فقد تجاوز المائتين وعشرين شهيداً لحزب الله وحده، فيما سقط 11 ينتمون إلى حركة “أمل”. كما سقط شهداء لكل من الحزب السوري القومي الإجتماعي وحركة “حماس” وحركة “الجهاد الإسلامي” من أبناء المخميات الفلسطينية في لبنان.. من الواضح جداً أن إسرائيل تعمدت إبعاد الإعلاميين والمدنيين قسراً. فقبل تلك الاستهدافات المميتة كانت المنطقة تعجُ بمختلف وسائل الإعلام – العربية والغربية – ومن جميع أنحاء العالم. أما الآن فالأغلبية فضلوا المغادرة للسلامة، ومن بقي من الصحافيين اتخذ نقاطاً ثابتة وبات لا يتحرك إلا عند الضرورة القصوى. كذلك كانت هناك شريحة من الأهالي تُصرُّ على الصمود في أرضها، لثقتها بأن “حزب الله يمتلك من القوة ما لا يسمح للعدو بخرق قواعد الاشتباك (*)”. لكنه فعلها، كما أكد معظم من قابلتهم خلال تجوالي في ما تسمى “قرى الحافة الأمامية” وهي القرى الممتدة بعرض 100 كيلومتر من الناقورة غرباً حتى شبعا شرقاً وبعمق يصل أحياناً إلى سبعة كيلومترات.. راضون بـ”حرب المساندة”.. وصابرون محطتي الأولى كانت في صور (أكبر مدن الجنوب). حياة هذه المدينة لا توحي بأن هناك حرباً مندلعة على بُعد بضعة كيلومترات. في “مستديرة البص” التي تأخذك إلى أحياء المدينة القديمة، وعلى مسافة عشرات الأمتار من “مخيم البص” للاجئين الفلسطينيين، تواجهك زحمة إستثنائية: سيارات، بسطات خضار، أصوات باعة، مارة يتجولون هنا وهناك .. وكلما اقتربت من أحياء المدينة من جهة البحر تتراءى لك واجهات المحلات التي تبيع أفخم البضائع الأجنبية، ثم سوق السمك، و”حارة المسيحيين” القديمة التي تعج ليلاً بالساهرين. كانت واجهات بعض المحال لا تزال تعرض زينة عيدي الميلاد ورأس السنة، وقد اختلطت بزينة “عيد الحب” (الفالنتاين) التي كانت أيضاً لا تزال معروضة، وربما عُرضت قبل أوانها بكثير- ربما لتلبية الطلب! يَدُلّك أحد الباعة إلى مدرسة “صور الثانية الرسمية المختلطة” وقد تحوّلت؛ إلى جانب مدرستين رسميتين في المدينة؛ إلى مركز إيواء لعشرات العائلات التي نزحت من القرى الحدودية. وتتولى إدارة الكوارث في بلدية صور مهمة الإشراف على أوضاع هؤلاء المواطنين بالتنسيق مع الهيئة العُليا للإغاثة ومجلس الجنوب والقيادة المحلية لكل من حزب الله وحركة أمل. معظم النازحين إلى هذه المدرسة أتوا من قرى الضهيرة والبستان والناقورة وشيحين وطير حرفا في قضاء صور، في القطاع الغربي. وهناك أيضاً خمس عائلات نزحت من مدينة بنت جبيل. ما أن تدخل باحة المدرسة، حتى تبدأ مظاهر الحرب الدائرة على بعد كيلومترات قليلة تنعكس أمامك: النازحون يعيشون وسط طلبة المدرسة. فالعام الدراسي يسير كالمعتاد، وبدوامين: في الصباح للتلامذة اللبنانيين وفي المساء للتلامذة السوريين اللاجئين. والإدارة اضطرت لحشر 50 عائلة نازحة في 20 من غرف الصفوف، كل غرفة فيها عائلتان أو ثلاث. يقول موسى سلامة (75 عاماً) إنه إضطر إلى بيع قطيع من المواشي بربع ثمنه لأنه كان أمام خيار من إثنين: إما ترك القطيع في قريته البستان مع كل ما يحمله ذلك من مخاطر أو النزوح وبالتالي تحمل كلفة هذا الخيار الصعب. بالطبع كان خيار الأمان هو الأرجح، خصوصاً مع وجود أطفال. يُردّد موسى أن الإحاطة التي يحظى بها النازحون، مهما كانت نوعيتها، لا تعوّضهم عن أرضهم وأملاكهم. وموسى من الذين لم يتركوا قريتهم في عام 2006 في عز الحرب الإسرائيلية على لبنان صيف تلك السنة. أما الآن، فإن مشهدية غزَّة تركت بصمتها في وعي الناس الذين يعتقد معظمهم أن إسرائيل لن تتورع عن ارتكاب المجازر. “هم سيرتكبون ليس مجزرة قانا جديدة بل ربما عشرات المجازر”، يقول أحد أساتذة مدرسة صور الرسمية. زمزم مصطفى (41 عاماً، من بيت ليف) أم لخمسة أطفال، تتشارك إحدى غرف المدرسة مع قريبتين لها (إحداهما لديها أيضاً خمسة أطفال)، أي أن 14 شخصاً يعيشون في غرفة صف واحدة. تقول زمزم إنها قرّرت النزوح لأن صوت القصف يخيف الأطفال كثيراً، وهدير الطائرات الحربية يحرمهم النوم. المدرسة لم تكن محطة النزوح الأولى لعائلة زمزم. أقاموا بضعة أيام عند أقاربهم في صيدا، على أمل أن يهدأ الوضع سريعاً. ثم استأجروا شقة لمدة شهر. وعندما اتضح أن الأمر قد يطول جاءوا إلى المدرسة في صور لصعوبة تأمين إيجارات لفترة طويلة قد تمتد لأشهر وربما أكثر. فرش إسفنجية، أغطية، بساط أرضي، دفاية تعمل على الغاز وتُستخدم في الوقت نفسه للطبخ وإعداد الشاي، وثلاث وجبات يومياً هي كل ما يتوفر للنازحين في هذه المدرسة وفي غيرها من المدارس. يتذمر عدد من النازحين “قليلاً”، إذ أنهم يشكون فقدان الكثير من وسائل الراحة والخصوصية.. “أم عباس” نازحة من الضهيرة تُعبّر عن تفاؤل مطلق بأن “الوضع مؤقت.. وسنعود قريباً إلى منازلنا”. تشتاق “أم عباس” لجيرانها وحاكورتها (حديقة صغيرة) ولقطف الزعتر.. وتأسف لأن موسم زراعة التبغ فاتها وضاعت غلّة هذه السنة (تُزرع الشتول أول السنة، ثم تزرع الحقول في شباط/فبراير وتُقطف مواسم التبغ في نهاية الربيع). “لا عتب.. ولا لوم على حزب الله” إجابة مباشرة وحاسمة يعطيها النازح من عيترون سمير مراد. وهذه حال معظم من إلتقيتهم. ثمة تفهم لقرار حزب الله بخوض “حرب مساندة غزة”. ومن هؤلاء دلال حرب (35 عاماً) التي نزحت من بنت جبيل “فقط لأن الأولاد يرعبهم صوت القصف”. ويقول زوجها: “لا شيء مريحاً هنا، لكن إذا كان حالنا هذا يساعد غزَّة فنحن راضون وصابرون.. كلنا فداءً للمقاومة”. “كلنا فداء للمقاومة”، عبارة يُسارع كثيرون لقولها عندما يجدون أنفسهم يتحدثون أمام أية وسيلة إعلامية. هذه رسالة إلى من يريد أن يسمع “صوتنا” من خارج البيئة الحاضنة للمقاومة في جنوب لبنان، لكن حتماً عند كل عائلة حكاية ومرارة ولكنها تُفضّل عدم البوح بها وخاصة أمام “الغريب”! مائة ألف نازح لقد تبدلت حياة أهل الجنوب منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر الماضي. فبسبب القصف الإسرائيلي، الذي يستهدف المنازل والمؤسسات التجارية والمنشآت الزراعية والسيارات المدنية، اضطر أكثر من 100 ألف شخص (حتى الآن) لترك منازلهم (وفق المنظمة الدولية للهجرة). قسم كبير منهم لا يزالون في مناطق تُعد ضمن حدود جنوب الليطاني، فهم لا يريدون الابتعاد كثيراً عن قراهم، ويصرون على أن نزوحهم “مؤقت”، وأنهم لم يتركوا منازلهم خوفاً من العدو، وإنما تجنباً لغدره ومراعاة لوضع أطفالهم. ومن بين هؤلاء رضوان شامي وشقيقه عدنان وعائلتيهما ووالدتهما. لم يتركوا بنت جبيل إلا بعد الغارة الجوية الإسرائيلية التي أودت بحياة إبراهيم بزي وزوجته شروق وشقيقه علي في نهاية كانون الأول/ديسمبر الماضي. يدير الشقيقان في بلدتهما متجراً للمواد والمعدات الزراعية. لم يرغبا في تركه لقناعتهما بأن كل مزارعي القرى والبلدات المجاورة يعتمدون عليهما. لكن الحرب عطَّلت كل المواسم والأعمال.. فبحثا عن مكان أكثر أماناً في قرية طيردبا “لا تبعد كثيراً عن بنت جبيل. هكذا نتفقد البيت والمتجر كلما سنحت لنا الظروف”، يقول رضوان. وبحسب ما يؤكد مدير مبادرة “وتعاونوا” عفيف شومان (أبو فضل)، فإن 81 بالمائة من الذين نزحوا عن قراهم يقيمون مع أقاربهم أو انتقلوا إلى منازل أخرى يملكونها في مناطق مختلفة (في الجنوب وبيروت والبقاع)، و2% فقط يتوزعون في 14 مركز إيواء جماعي (بين صور وحاصبيا). أما البقية فقد استأجروا شققاً. ويشدّد شومان، في حديث مع “180 بوست”و”أوريان 21”: “حاولنا قدر الإمكان تجنب إيواء النازحين في المدارس”. ولا يحب شومان التحدث عن حالات النزوح على أنها مشكلة. ويشدّد على أن “هؤلاء خرجوا من بيتهم الأول وسكنوا في بيتهم الثاني”، في إشارة إلى المنازل التي تبرع بها أصحابها لتكون “محطة إقامة مؤقتة لمن يحتاجها”. ويضيف شومان: “أهالي جبل عامل بينهم مشاعر التضامن والتعاضد. وبفضل هذه المشاعر المشتركة واجهوا وتغلبوا على الكثير من المحن التي مرت عليهم عبر التاريخ.. أكثر من 2500 شقة (حتى الآن) تبرع بها أصحابها بمبادرة ذاتية وأصبحت ملجأ مؤقتاً لمن احتاجها، وآخرون كثر قدموا تبرعات مالية كبيرة لتكون بدل إيجار لمئات العائلات”. ثمة من يقول إن الجنوب متروك من قبل الدولة المركزية، وإن حزب الله يلعب “دور الدولة” في هذه الأزمة. فماذا يقول شومان؟ “كل القوانين والدساتير والأعراف الإنسانية تنص على أن الدولة معنية بحماية المواطنين وتأمين كافة احتياجاتهم في زمن السلم والحرب. ولكن هذا لا يعني أن الأحزاب والجمعيات الأهلية والمبادرات الفردية والجماعية ليست كذلك. وحزب الله جزء من هذه الجهات، ونحن نتحمل مسؤولياتنا كاملة في الدفاع عن الأرض والإنسان”. إقرأ على موقع 180 إنتخابات المغرب.. صافرة نهاية الإسلام السياسي ويشدّد شومان على ما يعتبره “مفارقة” سيسجلها التاريخ، وهي أنه “بعد حوالي خمسة أشهر من الاعتداءات الإسرائيلية الشرسة لم يتجاوز عدد النازحين في لبنان حاجز المائة ألف نازح، برغم كل ما يعانيه من أزمات اقتصادية ومالية واجتماعية وإمكانيات صمود متواضعة جداً.. بينما هناك أكثر من 100 ألف مستوطن إسرائيلي نازح من الشمال (الجليل)، برغم كل جبروت إسرائيل وما تملك من قبة حديدية وغيرها”. الشريط الحدودي بحماية أهله من صور، سلكت طريق العباسية ـ برج رحَّال ـ صريفا وصولاً إلى مشارف وادي الحُجير، وتحديداً عند بلدة برج قلاوي. كان لافتاً للإنتباه أنه كلما توغلت جنوباً كلما حضرت أجواء الحرب أكثر وخفَّ حضور الناس في القرى. وعندما تدخل قضاء بنت جبيل من جهة بلدة السلطانية، تصبح الحركة شبه معدومة. وفي الوقت نفسه، تشعر أن طائرات الـ”إم. كا” (يسميها الجنوبيون “أم كامل”) وغيرها من المُسيّرات لا تفارق السماء فوق رأسك. إسقاط الطائرة من دون طيّار “هيرمس 450” بصاروخ أرض ـ جو، دشّن في الساعات الأخيرة مرحلة جديدة من المواجهة المفتوحة بين إسرائيل وحزب الله، وبالتالي صار السؤال مشروعاً: هل يملك حزب الله مفاجآت جديدة في مسار الحرب المتدحرجة منذ نحو خمسة أشهر؟ بنت جبيل، مثل عيتا الشعب وعيترون ويارون ومارون الراس والقرى والبلدات الأخرى المجاورة، أصبحت بمثابة “خط نار” و”مناطق عسكرية” التجول فيها محظور. والدمار في عدد من أحيائها يُذكّر زائرها بما خلّفته حرب تموز/يوليو. تُعرف بنت جبيل بـ”عاصمة التحرير”. هناك تحدثنا إلى عرفات محسن (تاجر ألبسة)، وهو من الصامدين مع نحو 6-8 بالمائة فقط من أهالي البلدة (معظمهم من دون أطفالهم وزوجاتهم)، فأخبرنا عن توافر الكهرباء من 4 إلى 8 ساعات فقط في اليوم، وكيف أن فيروز “الصامدة”؛ كما تحب أن تُسمى؛ تساهم في جعل حياة الصامدين أفضل “فهي تخبز لنا على الصاج، ولا تمانع في مساعدة كل من يحتاجها في الطبخ”. أحمد سلوم هو أيضاً من الصامدين. يقول إن بقاءه في بلدته (مجدل سلم) “من مبدأ واجب الدفاع عن الأرض إذا لزم الأمر.. ولن نتكل على الأمم المتحدة”، في إشارة إلى قوات حفظ السلام الدولية في لبنان (“يونيفيل“). ويوافقه الرأي عبد الله عطية الذي بقي صامداً في بلدته (الخيام) مع عائلته طوال الأشهر الثلاثة الأولى من الحرب، “ولكن عندما بدأت إسرائيل تخرق القرار 1701، وتضرب المدنيين يميناً وشمالاً، قررت النزوح”. عبدالله يعيش اليوم في بيت أحد الأصحاب في أرنون قرب النبطية “حيث المكان أكثر أماناً لعائلته”. “اليونيفيل” والقرار 1701 نظرياً، القرار الدولي 1701، الذي وضع حداً لحرب استمرت 33 يوماً في العام 2006، لا تزال مفاعيله سارية حتى يومنا هذا، إلا أنه بات في موضع التهديد الفعلي جراء تصاعد المواجهات. كما أن قوات “اليونيفيل”، الموكلة إليها مهام التأكد من إلتزام طرفي الصراع ببنود هذا القرار، ورصد الأعمال العدائية وإيقافها، أصبحت نفسها مهددة، وقد تعرضت مقارها لقصف إسرائيلي أدَّى إلى إصابة عدد من جنود البعثة. في حديث خاص مع “180 بوست”و”أوريان 21″، قال المتحدث باسم “يونيفيل” ورئيس الاتصالات الاستراتيجية والإعلام في البعثة، أندريا تينينتي، “إن الوضع في جنوب لبنان تغير منذ 8 تشرين الأول/أكتوبر، وأصبح مقلقاً للغاية ويشكل تهديداً حقيقياً. المواجهات تتصاعد وتتوسع وتمتد إلى مساحات كبيرة في عمق الأراضي اللبنانية (وآخرها قصف بلدة بوداي قرب مدينة بعلبك في العمق اللبناني).. وأي حادث غير محسوب بشكل جيد يمكن أن يتحول لشرارة تفجر المنطقة وتقلب الأوضاع رأساً على عقب.. الجميع يعرف أن ما يجري اليوم على الحدود بين لبنان وإسرائيل له علاقة مباشرة بما يجري في غزَّة. وبالتالي يجب على العالم وجميع المنظمات الدولية أن توحد جهودها وتعمل من أجل وقف الحرب وإعادة الإستقرار للمنطقة”. من المطالب التي تتمسك بها إسرائيل كشرط أساسي للتهدئة، إنسحاب “قوات الرضوان” (وحدات النُخبة في حزب الله) لمسافة تبعد على الأقل 30 كلم عن الحدود، أي إلى شمال نهر الليطاني، وتطبيق القرار الدولي 1701، أي أن تكون المنطقة الممتدة من الحدود وحتى نهر الليطاني (القاسمية) خالية من كل وجود مسلح (غير الجيش اللبناني و”يونيفيل”)، وعودة الوضع على الجبهة الشمالية إلى ما كان عليه قبل 8 تشرين الأول/أكتوبر. فالإشكال الحقيقي لإسرائيل اليوم هو إستعادة أمن المستوطنات في الشمال وإقناع أكثر من 100 ألف مستوطن بالعودة إلى منازلهم. حزب الله يرفض الفكرتين جملةً وتفصيلاً، ويصفهما بـ”غير الواقعيتين”، ذلك أن الأغلبية العُظمى من مقاتليه في المنطقة يتحدرون أصلاً من القرى والبلدات المحاذية للحدود مع فلسطين، ويقيمون فيها حتى في أوقات السلم، والدليل على ذلك أن أكثر من سبعين بالمائة من شهداء حزب الله في هذه الحرب هم من أبناء قرى الجنوب اللبناني. وقد يكون أفضل جواب على مطلب إسرائيل انسحاب مقاتلي حزب الله إلى شمال نهر الليطاني هو ما قاله رئيس مجلس النواب نبيه برّي: “الأسهل أن يأتوا بنهر الليطاني إلى الحدود مع فلسطين”! ماذا يقول حزب الله؟ يقول مسؤول العلاقات الإعلامية في حزب الله، محمد عفيف، في حديث خاص مع”أوريان 21″ و”180بوست”، إن حزب الله يتصرف ميدانياً على أساس أن إسرائيل “عدوٌ قد يلجأ في أية لحظة إلى افتعال خطوات تصعيدية”، وهذه حال الميدان منذ انطلاق معركة “طوفان الأقصى” في السابع من تشرين الأول/أكتوبر وانخراط حزب الله فيها. فما يجري اليوم على جبهة الحدود بين لبنان وفلسطين المحتلة “حربٌ حقيقية، ويومئ في كل لحظة بأن الوضع قابل للإنفجار. وهو وضع ليس بجديد. فبين حزب الله وإسرائيل تاريخ من الصراعات يمتد لأكثر من أربعة عقود، وأسباب تجدده موجودة دائماً، وحرب غزَّة أحدث مسببات تجدد التوتر”. وكان حزب الله قد تفاعل سريعاً مع حرب غزَّة. فما إن بدأت إسرائيل عملياتها العسكرية ضد القطاع، حتى بادر في اليوم التالي، 8 تشرين الأول/أكتوبر، إلى إطلاق مجموعة قذائف صاروخية على مزارع شبعا المحتلة، ردَّ عليها الإسرائيليون بقصف مناطق حدودية وقرى تقع على تخوم الحد الفاصل بين لبنان وفلسطين المحتلة.. ولا يتردد كبار المسؤولين الإسرائيليين في إطلاق سيل من التهديدات على مستوى “سنسحق حزب الله.. سنجعل لبنان غزَّة ثانية.. سنعيد لبنان إلى العصر الحجري”. وكانت هيئة الأركان ووزارة الحرب قد طالبتا؛ في بداية الحرب على غزَّة؛ بتوجيه ضربة استباقية لـ”حزب الله”، على أساس أن ذلك سيزيح “الخطر الأكبر” عن إسرائيل ويساعد في تقويض نفوذ إيران (الهدف الأساس الذي يسعى رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو إلى تحقيقه منذ سنوات). لكن الترويج لإستراتيجية “ضرب حزب الله أولاً ثم تصفية الحساب مع غزة بهدوء وحسم” رفضها الأميركي “لأنه يعلم تداعياتها وأضرارها السياسية والاقتصادية الجسيمة المتوقعة ومخاطرها الإستراتيجية على التوازن الدولي، خصوصاً وأن الحرب في أوكرانيا لم تنته بعد. فـ”قرار أي حرب في الشرق الأوسط موجود عند الأميركي فقط”، يقول أحد الخبراء الإستراتيجيين. ومع ذلك، كما يتصاعد التوتر في الميدان كذلك ترتفع حدَّة التهديدات المتبادلة. فقبل أيام هدَّد وزير الحرب الإسرائيلي، يؤاف غالانت، أن العمليات العسكرية ضد حزب الله لن تتوقف، حتى وإن تم التوصل لإتفاق وقف إطلاق النار والإفراج عن الأسرى في غزَّة. وتوعد رئيس الأركان الإسرائيلي، هرتسي هليفي، خلال جولة له عند الحدود الشمالية (الثلاثاء)، بأن “حزب الله سيدفع الثمن غالياً جداً”! وكان لافتاً للإنتباه أنه بالتزامن مع توسع جغرافيا القصف الإسرائيلي للبنان،/ ومفاوضات باريس والقاهرة والدوحة حول صفقة جديدة لتبادل الأسرى، هدّد الأمين العام لحزب الله، السيد حسن نصرالله، بتوسعة الحرب إذا قرَّر الإسرائيلي توسعتها، وذلك ضمن معادلة يرسيها حزب الله منذ العام 2006: العين بالعين والسن بالسن. إستهداف المدني يقابله استهداف مدني، وإستهداف عسكري يقابله إستهداف عسكري، أي الحرص على أن يكون الرد متوازياً ومتناسباً. لكن ما هي الاعتبارات التي قد تدفع إسرائيل نحو خيار التصعيد وتوسيع الحرب؟ يوضح مسؤول العلاقات الإعلامية في حزب الله محمد عفيف: “هناك رأيان داخل إسرائيل. رأي للمؤسسة العسكرية يدفع باتجاه الذهاب إلى حرب مفتوحة مع حزب الله لأنه يشكل تهديداً إستراتيجياً ووجودياً على الكيان.. فبعد عملية طوفان الأقصى قالوا بما معناه بدلاً من أن نذهب إلى غزَّة فلنذهب إلى لبنان.. نتخلص من حزب الله الذي هو عامود محور المقاومة فنتخلص من كل حركات المقاومة في المنطقة، بما فيها حركة حماس. وأصحاب هذا الرأي يرون أن الفرصة أكثر من مؤاتية وقد لا تتكرر: الجيش مستنفر وعلى جهوزية تامة، الاحتياط تم استدعاؤه، حاملات الطائرات الأميركية موجودة في المنطقة، والدعم الدولي موجود بما فيه الفيتو في مجلس الأمن، وكذلك التأييد الشعبي المحلي (الإسرائيلي).. وبالتالي بالإمكان تطوير الحرب: تُرسل إسرائيل قوات إلى الحدود مع لبنان، يرد عليها حزب الله، فتتدحرج الأمور إلى ما تريده”. والرأي الثاني السائد في إسرائيل يقول؛ بحسب محمد عفيف؛ بضرورة تجنب فتح جبهة ثانية مع لبنان “لأن إسرائيل بالكاد تستطيع إدارة حرب غزَّة، ذات المساحة الجغرافية الصغيرة (360 كيلومتر مربع)، والمحاصرة والمطوقة من كل الجهات منذ أكثر من 17 عاماً، ورغم ذلك استطاعت أن تصمد لنحو خمسة شهر. فكم ستدوم الحرب مع لبنان حيث ستكون جبهة الحرب بعرض أكثر من 100 كيلومتر، وعمق يمتد من الحدود الإسرائيلية-اللبنانية إلى طهران (أي بعمق 1800 كيلومتر)؟”. وهذا الرأي عبَّر عنه أيضاً؛ مؤخراً؛ العميد المتقاعد في الجيش الإسرائيلي، إيفي إيتام، عندما حذَّر حكومة بلاده من فتح جبهتين في وقت واحد، قائلاً: “سنكون مثل الذي يضع نفسه في فخ كماشة. جيشنا لم يتم تأهيله ليكون قادراً على القتال على جبهتين، فكيف والجبهتان متباعدتان: واحدة في الجنوب مع قطاع غزة، وأخرى في الشمال مع حزب الله. هذا سيعني انتحارنا”. لكل حادث حديث ويضيف محمد عفيف: “الإسرائيلي يعلم جيداً قُدرات حزب الله والعدد الضخم للمقاتلين في صفوفه. ويعلم أيضاً أن الحزب حتى اللحظة لم يستخدم سوى 10% من قدرة المقاومة. وفي الآونة الأخيرة فقط بدأ يستخدم الصواريخ الموجهة (من طراز “بركان” و”فلق” وغيرهما) إلى جانب الصواريخ المضادة للدروع، وقبل أيام استخدم صاروخ أرض-جو (أسقط طائرة مسيرة إسرائيلية من نوع “هرمز 450″ فوق منطقة إقليم التفاح جنوبي لبنان)، فماذا لو بدأ يستخدم الصواريخ البعيدة المدى والدقيقة التي بالإمكان إطلاقها من حيث لا يستطيع الإسرائيلي أن يرصدها، وحتى من دون الحاجة لرؤية الهدف؟ ماذا لو بدأ يوسع دائرة أهدافه التي يملك بنكاً منها، وتشمل معامل الأمونيا، وموانئ حيفا، ومنصة ‘كاريش‘؟.. ماذا لو أخرج موانئ الاحتلال عن الخدمة وأطبق حصاراً على الملاحة البحرية الصهيونية في البحر المتوسط فيما اليمنيون يطبقون ذلك في البحر الأحمر؟”. ورداً على سؤال يقول محمد عفيف “إن احتمال أن تتوسع الحرب أكثر يبقى موجوداً. فالمواجهات اليوم بين حزب الله وإسرائيل لم تعد مقتصرة على مناطق معينة. والأمين العام للحزب سماحة السيد حسن نصرالله قال للإسرائيليين ‘إذا أردتم الذهاب إلى حرب شاملة سنذهب إليها من دون ضوابط ولا قواعد ولا حدود ولا سقوف‘، أي أن المقاومة مستعدة لكل الاحتمالات. لكن الأمين العام قال ما قاله من منطلق الردع ومنع توسيع الحرب، حرصاً على لبنان. فهذا الموضوع يأخذه حزب الله بعين الاعتبار وعلى محمل الكثير من الجد.. أما إذا نفذت إسرائيل تهديداتها.. وجرت المنطقة إلى حرب شاملة، وتدخلت أميركا مباشرة في المعركة.. فلكل حادث حديث”.