الجَهل المتعمَّد كإحدى استراتيجيّات العقل
صدى وادي التيم-متفرقات/
نسمع كثيراً عن انتهاج النّاس “ثقافة النّعامة” أو دفْن الرؤوس في الرّمال. فليس نادر الحدوث أن نعمد إلى تجاهُل تطوّرات أو رفْض التعامُل مع أحداث أو حتّى الاعتراف بحقائق معيَّنة. علماء النّفس يتساءلون عن أسباب إشاحتنا النّظر عن مُعطى ما والتظاهر بأن الأمور على ما يُرام. توفير الأعذار، إشباع الأنا الأنانيّة وإدامة العيش في عالَم “افتراضي” مرغوبٍ تتصدّر الاحتمالات. وفي معرض التنقيب عن إجابات، يطلّ الجهل المتعمَّد برأسه. إنّه التجنُّب الطوعي لمعلومات قد تفضح العواقب السلبية المحتمَلة لأفعالنا.
كاستراتيجية رائجة في مختلف مناحي الحياة، قد يبدو الجهل المتعمَّد مفيداً للوهلة الأولى بالنسبة لمعتمِديه. لكنّه لا يخلو من مضارٍ تطال بانعكاساتها الفرد والمجتمع في آن. مِن رفض التعامل مع حيثيّات الاحترار المناخي إلى تجاهُل الظروف القاسية التي يتكبّدها عمّال المصانع المنتِجة للسِلع الرخيصة وما بينهما. كثيرة هي السياقات التي يلجأ فيها الناس إلى هذه الاستراتيجية تحريراً لأنفسهم من الشعور بالذنب وزيادةً لمكاسبهم إلى حدود قصوى. وهذا ما تناوله مؤخّراً فريق باحثين في جامعة أمستردام في أوّل تحليل شمولي للأدلة التجريبية للجهل المتعمَّد.
نتائج التحليل أوردتها مجلة “Psychological Bulletin” الصادرة عن جمعية عِلم النفس الأميركية. وقد جرت خلاله مقارَنة نتائج 22 دراسة شملت أكثر من 6000 مشارك إمّا عن بُعدٍ أو مختبرياً. قَسّم الباحثون المشاركين إلى أزواجٍ، وطلبوا من أحد طرفَي كلّ زوج – مطلِقين عليه تسمية “صانع القرار” – انتقاء أحد خيارين من شأن كلّ منهما تحديد مدى الإفادة لنفسه ولشريكه. كيف ذلك؟ في سياق شفّاف، تلقّى صانع القرار معلومات حول كيفية تأثير خياره على نفسه والشريك. وفي سياق غامض، اطّلع على أهمية خياره بالنسبة إليه شخصياً فحسب، على الرغم من منْحه إمكانية معرفة تأثير ذلك على الشريك أيضاً.
تَعيّن على المشاركين الاختيار بين الحصول إمّا على 5 أو 6 دولارات. في السياق الشفّاف، تمّ إخبار كلّ منهم بأنّ الشريك سيحصل على 5 دولارات إذا ما اختاروا المبلغ الأقلّ. أما إذا اختاروا المبلغ الأعلى، فلا يحصل الشريك سوى على دولار واحد فقط. وفي السياق الغامض، تجلّى سيناريوهان محتمَلان: في الأوّل، إذا اختار صانع القرار 6 دولارات لنفسه، يحصل الشريك على دولارٍ واحدٍ؛ وإذا اختار 5 دولارات، يحصل الشريك على 5 دولارات أيضاً (كما في حال السياق الشفّاف). أما في الثاني، فأُتيح لصانع القرار أخْذ 6 أو 5 دولارات، ما يمنح الشريك 5 دولارات أو دولاراً واحداً فقط، على التوالي.
لِمدّ الفريق بآلية تقييم اعتماد الجهل المتعمَّد لدى المشاركين، زوّدت التجارب صانع القرار بفرصة فكفكة الغموض عن طريق الاستفسار عن أثر قراره على الشريك. وتوصّل الباحثون إلى ما يلي: في السياق الشفّاف، لجأ صنّاع القرار بأغلبيّتهم (55%) إلى خيار الإيثار – أي التخلّي عن جزء من المبلغ بغية حصول الشريك على مبلغ أعلى. لكن في السياق الغامض، فضّل 40% منهم عدم الاطّلاع على عواقب قرارهم على الشريك. وقد حرّرهم ذلك للتصرّف بأنانيّة، إذ اختار 60% من المشاركين في المجموعة “الجاهِلة” المبلغ الأعلى في السيناريوهات التي جاء فيها الاختيار على حساب الشريك. بينما، من ضمن من توسّلوا مزيداً من المعلومات، تعمّد 36%، فقط، الاحتفاظ بمبالغ أعلى على حساب الشريك.
افترض الباحثون وجود دافعَين محتملَين لخيار الجهل المتعمَّد. أوّلاً، توفير العذر لصانع القرار كي لا يتصرّف بسخاء، حيث أنّ الاستراتيجية تلك تساهم في عدم خدْش مبدأ الاستقامة الأخلاقية أو صورة صانع القرار الذاتية؛ وتفضيل اتّخاذ القرار السهل (أو ما يُعَرَّف بـ”الغفلة المعرفية”) – ومردّ ذلك إلى الكسل، قلّة الاهتمام، أو عدم الرغبة في تخصيص وقتٍ لمعرفة المزيد. لكن، للتحقّق إن كان تعمُّد الجهل في السياق الغامض مقصوداً، أجرى الفريق تحليلاً ثانياً للتصويب على ما يُحفّز المشارِك على طلب معلومات أكثر. وإذ نظر الباحثون في كيفية تصرُّف من بحوزتهم معلومات إضافية، وجدوا أنّ من اختاروا تلقّي المعلومات في السياق الغامض كانوا أكثر ميلاً للإيثار بنسبة 7%.
التحليل، بحسب الفريق، يشير إلى أن بعض سلوكيات الإيثار ترتبط بشعور المرء بالضغط حيال القيام بما هو متوقَّع منه. فعندما تكون عواقب الاختيارات واضحة، قد يُضطر للتضحية والتحلّي بالسخاء مع الآخرين. لكن متى أُتيحت له الفرصة، فقد يرغب في تجاهُل عواقب أفعاله كون ذلك يحميه من تيقُّن الضرر الذي تلحقه أفعاله بالآخرين، ما يلجم شعوره بأنه شخصٌ سيّئ. وبالفعل، مثلاً، بيّنت دراسة نُشرت سنة 2017 في مجلة “National Library of Medicine”، أنّ 10% من أصل 3990 شخص خضعوا لاختبار فيروس نقص المناعة البشرية في أحد مستشفيات الكاميرون سنة 2009، لم يتكبّدوا أصلاً عناء المراجعة للاطّلاع على النتائج.
هكذا، دونما اكتراث لإمكانية تعريض الآخرين للأخطار، تبحث عقولنا باستمرار عن وسائل إقناعٍ ذاتيّ بأن شيئاً لم يكن. الإقناع ذاك يستدعي تجنُّبناً للمعلومات التي تؤثّر على مشاعرنا وأهوائنا في معرض تحديد الـ”صح” والـ”خطأ”. لكنّه تجنُّبٌ يستحيل مُنطلَقاً لكثير من الإشكاليات الأخلاقية. فخلاصة تحليل فريق جامعة أمستردام واضحة: يغذّي اعتقاد المرء بإمكانية تحقيق مكاسب على حساب الآخرين نزعته لتوخّي الجهل المتعمَّد. والدافع عادةً ما يكون خوفاً متجذّراً من أن تتطلّب إماطة اللثام عن خفايا مسألة ما اتّخاذ قرارات شائكة لمواصلة الظهور بمظهر الإنسان الصالح. إنّها، والحال كذلك، لإشكالية تستحقّ التوقّف عندها مليّاً في عالَم تتآكله المصالح النفعية – فرديّاً وجماعيّاً – من كلّ صوب.
المصدر: روني عبد النور -موقع الصفا