الحركة العلميّة والثقافيّة والاجتماعيّة في النبطية ومنطقتها.. جديد علي مزرعاني
صدى وادي التيم – ثقافة /
صدر أخيرًا عن دار الأمير للثقافة والعلوم مؤلَّف “الحركة العلميّة والثقافيّة والاجتماعيّة في النبطيّة ومنطقتها، 1805- 2023” من إعداد وأرشيف علي مزرعاني، من الحجم الكبير (قياس 21.5×28.5)، يضمّ بين دفتيّ غلافه الأفقيّ 504 صفحات مكثّفة بالصور الفوتوغرافيّة القديمة بالأبيض والأسود، وكذلك الملوّنة، وهي السائدة منذ الربع الأخير من القرن العشرين.
يستكمل علي مزرعاني رحلته التوثيقيّة لمدينة النبطية التي بدأها منذ العام 1999، حيث أصدر بعد رحلة عقدين اثنين من جمع صور الذاكرة والأرشيف كتابه الأول “النبطية في الذاكرة، صور ووثائق 1860- 1999” يحتوي على 900 صورة ووثيقة نشرها كلّها بالأسود والأبيض، بحسب مصدرها الأساس، خصوصًا وأنّها تتناول الذاكرة المصوّرة الموثّقة بالأحداث والتواريخ.
دأَب علي مزرعاني منذ سنواتٍ طويلة، على تقفّي أثر المقوّمات التاريخيّة لمدينة النبطيّة ومنطقتها، من الذاكرة المسجّلة كتابةً أو المُحقَّقة تتبّعًا، أو تلك التي واكبها بنفسه، من خلال المقابلات واللقاءات مع مرجعيّات وثيقة كانت قد عايشتْهَا، قبل رحيلها أو غيابها، أو استنبطها من السجلّات والأوراق والأدراج المخبّأة أو المطمورة أو المُهملة، إلى الذاكرة المصوّرة التي كانت قد بدأت تتلاشى شيئًا فشيئًا أو تتبدّد لعوامل مختلفة، فسبر غورها قبل أن تضيع.
في كتابه الجديد “الحركة العلميّة والثقافيّة والاجتماعيّة في النبطيّة ومنطقتها، 1805- 2023” يلتقط علي مزرعاني الذاكرة المصوّرة، للتاريخ العلميّ- التربويّ والثقافيّ والاجتماعيّ للنبطيّة وجوارها القريب أو البعيد، ليضع بين أيدينا كتابًا معرفيًّا توثيقيًّا حافلًا بالمشاهد المصوّرة، لتاريخ عاصمة جبل عامل، في ما يزيد على مائتي وعشرين سنة، أو أقلّ بقليل.
طبعًا، سيشكّل مرجعًا تاريخيًّا مصوّرًا، وحتمًا، ستستفيد منه الأجيال التي ستأتي لاحقًا وتطّلع من خلاله على الموروث العلميّ والثقافيّ الذي رافق النبطيّة وجلّلها منذ قيامها الأوّل، ومنحها سمعة ما فتئت تلازمها إلى يومنا الحاضر.
من الكُتّاب إلى المدارس الأولى، فالمدارس المتطوّرة، وحركة الأندية والجمعيّات، التي واكب نشاطها بنفسه، يترصّدها بالخبر والصورة، ما يدنو على خمسين عامًا، إلى ما جمعه من أرشيف السابقين وسجلّات المدارس والجمعيّات والحركات الثقافيّة والاجتماعيّة، الجماعيّة أو الفرديّة، والشخصيّات العلميّة والأدبيّة والفنّيّة، العالميّة والعربيّة، التي حطّت رحالها، مرّة أو أكثر، في عاصمة القضاء النبطيّة أو حولها، في سياق التبادل المعرفيّ والعلميّ، متتبّعًا كذلك الحركة العلميّة والثقافيّة لأبنائها في دول الاغتراب والهجرة، وفي المناطق التي وفدوا إليها.
بفضل الجهد المبذول سنوات وسنوات، من الكاتب علي مزرعاني، نقع اليوم على “كتاب” معرفيّ توثيقيّ غنيّ، ناهيك عن الذاكرة المعزّزة بآلاف الصور، التي التقطها بنفسه، أو بأعين المصوّرين الأوائل، على مدى قرن كامل.
إجحاف غير مقصود؟
نحا علي مزرعاني في كتابه الأخير منحى سلفه كتاب “النبطية بالأبيض والأسود 1920- 1980، ألفُ صورة وصورة” الصادر بالحجم كبير سنة 2018، وذيّل مؤلّفه بعبارة “الألبوم الأول”؛ ولولا تبدّل الاسم لكنّا ظننّا إصداره الأخير هو “الألبوم الثاني”، إذ يتطابق مع الأول بالتصميم وفرد الصور الكثيفة على الصفحات “الوجيزة”، متجاهلًا في جميع صفحات الكتاب الهوامش الفارغة والمساحات البيضاء.
في “ألبومه” الجديد، لا أدري لماذا أجحف علي مزرعاني في المعلومات والمواد المكتوبة التوثيقيّة، مع أنّه يمتلكها ويقدر عليها، فأفاض في الصور والمشاهد واللقطات لتاريخ عريق خاضته النبطية ومنطقتها طوال أكثر من قرن ونصف القرن، على المستويات العلميّة والثقافيّة والتربويّة والاجتماعيّة وحتّى الفكريّة من أجل إثبات جدارتها على الخارطة الثقافيّة العلميّة ليس على مستوى الجنوب فحسب، بل على مستوى الوطن برمّته، وحقّقت ذلك بفضل حشد من المهتمّين بالثقافة والتربية والسياسة ووجوه عريقة في الثقافة والشعر والأدب، ثمّ خلقت لها بين أواسط الستينيّات والثمانينيّات الأحزاب اليساريّة ثمّ الحركة الوطنيّة اللبنانيّة أرضيّة ملائمة، بل دعمتها وجعلتها في صدارة نضالها.
ترك مزرعاني لأعيننا متعة الاستعراض والمشاهدات، لكنّه في الوقت عينه جعلنا في حيرة أمام الكمّ الهائل من الصور المتنوّعة، التي أحصاها في تمهيد الكتاب بـ4050 صورة ووثيقة وبطاقة دعوة، ونسأل من هم أشخاصها؟ إذ اقتضب كثيرًا في تعريف الصور ومناسباتها. لقد ابتعد (عن قصد أو غير قصد) عن تحديد وتوصيف محتويات الصور وحتّى تاريخ التقاطها، مع أنّه أغنى مجمل النشاطات بصور متعدّدة وكثيرة.
ربّما سيتعرّف أصحاب الصور، ممّن هم على قيد الحياة في الصور العتيقة، والمتابعين حاليًّا للنشاطات الثقافيّة والتربويّة والاجتماعيّة في النبطية وجوارها، على وجوههم ووجوه أهلهم وزملائهم، لكنّ السؤال الذي يلحّ: كيف ستتعرّف الأجيال القادمة التي لن تعرف من يقع في المشاهد على محتوياتها؟ إلّا، إذا عادت في بعضها وليس كلّها إلى كتب مزرعاني السابقة حيث سعى مليًّا إلى تحديد تواريخ الصور والمناسبات ومن تضمّه من يمينها إلى يسارها، من أفراد تركوا آثار وجوههم وذكرياتهم ومناسباتهم من خلال صورهم.
بداية العمل المسرحيّ
اكتفى علي مزرعاني بدراسة في مطلع “الألبوم” عن “بدايات التعليم في النبطية والجوار” من تسع صفحات. وبثلاث صفحات حول الحياة الثقافيّة والأدبيّة والاجتماعيّة في النبطية في النصف الأوّل من القرن العشرين”، وأربع صفحات عن “الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة في النبطية”.
وبتعريف موجز لأهمّ الأندية الثقافيّة في النبطية ومنطقتها: نادي الشقيف، المجلس الثقافيّ للبنان الجنوبيّ، مركز كامل يوسف جابر الثقافيّ، جمعيّة هيئة حماية البيئة والتراث، هيئة تكريم العطاء المميّز وجمعيّة تقدّم المرأة في النبطيّة، مع اختصار عدد من الجمعيّات الأخرى، من خلال ذكر أسمائها فقط.
أمّا من الصفحة 65 إلى 67، فقد أفرد علي مزرعاني مساحة لدراسة قيّمة من ذكريات الدكتور (المسرحيّ) مشهور مصطفى حول “بدايات العمل المسرحيّ لاتّحاد الشباب الديموقراطيّ في النبطية” وفيها خلاصة تطوّر الحركة المسرحيّة في عاصمة القضاء (في حينه) فيُورد: “كان اتّحاد الشباب الديموقراطيّ وهو أحد ركائز الحزب الشيوعيّ الشبابيّة، قد أنشأ فرعًا ناشطًا في مدينة النبطية في العام 1972 وأسّس فرقة “المسرح الشعبيّ”.
وأقامت أوّل عمل لها بعنوان “الفجر” في العام 1973، ومسرحيّة “الغربال” في صيف العام 1974 من تأليف فيصل جميل وإخراج حسين ياغي، وعُرضت أعمالها في العديد من قرى النبطية، ومنها كفررمان وجباع وميفدون، وعلى مسرح سينما ريفولي (النبطية). كذلك مسرحيّة “ومرقت الغيمة” والتي نالت نجاحًا كبيرًا بعد أن عُرضت على مسرح سينما ريفولي، ثم عُرضت على مسرح قصر الأونيسكو في بيروت في الثامن من آذار 1975 بمناسبة يوم المرأة العالميّ…”.
الكتاب الألبوم
في تقديمه لمؤلَّف علي مزرعاني، كتب الزميل عبد الحليم حمود: “تتنوّع تلك الأنشطة التي يرصدها مزرعاني، وتتمدّد بما يتخطّى حدود النبطية كمدينة لها أسماؤها وجمعيّاتها، لنجد أنّ المدينة فتحت ذراعيها لحدث عن الفنّان الفلسطينيّ ناجي العلي، أو الشاعر الفلسطينيّ تميم البرغوثي، أو الفنّانة السوريّة منى واصف..”.
ويتابع:” كذلك سوف نشاهد تكريمًا لمرسيل خليفة، وتحيّة لأحمد قعبور، وأمسية لمحمّد علي شمس الدين، واحتفاءً بالتشكيليّ عبد الحميد بعلبكي، وللمرأة مكانها الواسع في الكتاب، الألبوم، حيث تحضر في جلّ الصفحات كفاعلة ومتفاعلة، متقدّمة للصفوف، ومعتلية للمنبر، وصاحبة لمشروع”.
ويضيف حمود: “إنّه كتاب للمقتنيات التراثيّة والقصيدة واللوحة والفكرة والمسرح والسينما، والمباراة والمعزوفة والصحيفة والعدسة والخطّ والعملات النادرة، والمدرسة والجامعة والمستشفى، إنّه كتاب النبطية. وكأنّ علي مزرعاني قطّر تلك المدينة بين الصفحات، حبرًا لكلام، وألوانًا لصور، تاركًا مساحة في كلّ صفحة لقلب ينبض، فلا نشعر كأنّه مجرّد ماضٍ مضى، بل هي سلسلة متّصلة، لا نرى أوّلها في بداية الكتاب، ولا ينتهي مداها عند نهايات صفحاته”.
في التمهيد للكتاب “الألبوم” كتب مزرعاني: “استعملتُ في هذا الكتاب 4050 صورة ووثيقة وبطاقة دعوة، انتقيتُها من آلاف الصور ومئات المناسبات المؤرشَفة والمحفوظة عندي. هذه الصور هي تاريخ الأندية والجمعيّات والمدارس والأشخاص والمراكز الثقافيّة والفنّيّة، التي اندثرت أو لا تزال صامدة”.
ويضيف:”هذه الصور تاريخ الأشخاص المشاركين في هذه المناسبات، لأنّهم صانعو الحدث وفي قلبه، تبقى صورهم حيّة للأجيال التي تأتي بعدنا، إنّها وجه النبطية الحضاريّ والثقافيّ، أحببنا أن نؤرّخها بالصورة والكلمة وبالخبر وحتّى ببطاقة دعوة كي لا يضيع هذا الإرث الثقافيّ ونبكي على الذكريات”.
ويتابع: “لا نستطيع في كتاب واحد أن نوثّق كلّ النشاطات التي حدثت في النبطية ومنطقتها، أو أن نحصيها، وأنا المهتمّ بالأرشفة لا أدّعي أنّني أحطت بها جميعها، ولكن تمكّنت من جمع نسبة كبيرة منها، ووضعت مجموعة من النشاطات والمناسبات التي حَصَلَتْ، قدر ما يستطيع تحمّله هذا الكتاب، كما أضأنا على بعض الشخصيّات الأدبيّة والثقافيّة والاجتماعيّة قدر المستطاع؛ كنت أتمنّى أن أوثّق أخبار الجميع، ولو استطعت ذلك لما قصّرت، فالتوثيق عالم واسع المجال، ومتعدّد الأبواب، ممتع ومتعته لا توصف”.
صمّم غلاف الكتاب الإعلاميّ كامل جابر، فزيّنه بلوحة “حيّ السراي” للفنّان التشكيليّ الراحل (ابن النبطية) زعل سلّوم، لوحة زيتية من سنة 1988. أمّا الخطوط فتناوب عليها الفنّانان زاهد قبيسي وحسين يونس. وإلى جانب لوحة للأمين العام للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي الأديب الأستاذ حبيب صادق (1931- 2023)، رسمتها التشكيليّة الفنّانة خولة الطفيلي كتب مزرعاني في الصفحة رقم أربعة إهداء إصداره: “إلى روح الحبيب حبيب صادق”.