التّعليم في زمن الحرب…بقلم ريمه كمال علامه

صدى وادي التيم – رأي حر بأقلامكم /

لأنّها الحربُ … وبراثنُ الحربِ لا توفّر جمالًا ..فهي تُتقنُ فنَّ تشويه الحجرِ والبشرِ وخطفَ الفرحِ كلّما ضوّأَ القمرُ .

لأنّها الحربُ الموجعةُ التي تشي بكلّ أشكال الشّقاء والألم كلّما طلعت شمسٌ وانكشفت أشلاء الحياة وبقايا نبضات القلوب.

لأنّها الحربُ وكلّ حروب العالم خاسرةٌ وعبثيّةٌ حتى المحقّةَ منها لا تقطرُ الّا حقداً وقهرًا ودماءً .

لأنّها الحربُ ومن الصّعب تدريس الرّومنسية وجمال الطّبيعة وحقوق المرأة والسّعادة بينما الحربُ تشتعلُ بجانبنا وتلتهمُ طبيعتَنا وتهجّرُ عصافيرَنا.

لأنّها الحرب ومن الصّعب تدريس الأدب على وقع الصّواريخ وأزيز طائرات الاستطلاع فوق نوافذنا التي نتنفس عبرها رائحةَ الخوف ودخان الحزن الأسود يلفحنا من الحدود.

لأنّها الحرب ُ وفي الحروب تُمطر سماء الامّهات دمعًا وفقدانًا ولوعة . وأنا أمٌّ عرفتُ طعمَ الفَقدِ فلا يمكنني أن أكون حيادية أمام ما يحدث من مشاهد وأن لا أسدَّ أذنيّ حتى لا أسمعُ بكاءَ أيّ طفل يتوجّع..

لذلك  تجاوزتُ تسلسلَ الدّروس والمحاور وانتقلت مباشرة في الأوّل الثانوي إلى المحور السّابع وهو محور العنف. وفي الثّاني الثانوي إلى محور حقوق الإنسان والطّفل .أمّا في الثّاني انسانيّات إلى دراسة “الاحمر والأسود” ل”ستندال” .

في المحاور التي ذكرت تسنّى لي أن أستحضرَ عددًا من الأدباء الفرنسيين واللّبنانيين الذين كتبوا بالفرنسية أدبًا يصحّ تسميتُه بأدب الحرب وشكّل عند كتابته سلاحًا لهم في مواجهة الحرب وتمرّدا عليها، وجهدًا لتوعية الشّعوب وردع الحكومات عن العنف فالشّعراء و الكتََّّاب  في كلّ الأزمان والأماكن وإن قدّر لهم أن يكونوا محاربين أحيانا ولكنهم يظلّون دومًا إلى جانب الضّعفاء والمقهورين .

تناولنا أوّلًا، الرّوائي الفرنسي  ستاندال، (1783-1842)، الذي  كان يُعدّ مقاتلًا شرسًا في صفوف قوّات نابليون ولكنّه ينتقد في روايته «الأحمر والأسود» بشدّة، وبسخرية بارعة، تلك الاستعدادات العسكرية للحروب التي شهدتها القارة الأوروبية ويقول على لسان  أحد أبطال روايته ” فبريس والحرب” :                                                               “لم تعد الحرب هذا الاندفاع النبيل والمشترك لنفوس تعشق المجد “.

         بعدها ،درسنا مع اندريه شديد وهي روائية لبنانية ( 1920 _ 2011) ، في رواية “منزل دون جذور ” تردّدات الحرب الأهلية في لبنان وأهوالها وما يدفعه الأفراد من ثمنٍ لها وذلك من خلال شخصيات الرواية المتحدّرة من عائلة واحدة متعاقبة الأجيال تقطّعت بها الجذورُ وتفرّق افرادُها تحت كلّ سماءٍ حتى اذا ما عاد بعضُهم الى الوطن في لحظة تاريخيّة حرجة تطيح بهم الحرب ومآسيها .وضممنا أصواتنا إلى صوت الروائية تتساءل:
“هل ستغرق هذه المدينة التي تلمع على سطح البحر أيضًا في الهاوية؟!!”

أمّا في محور حقوق الإنسان فتعرّفنا إلى فيكتور هيجو ( 1802_1885) الفيلسوف والسياسي الملتزم الذي كان صوته يصدح في البرلمان الفرنسي نصرةً لقضايا الإنسان و رفضًا لقوانين الإعدام وعمالة الأطفال وتهميش المرأة . ودرسنا قصيدة “ميلانكوليا” وهي قصيدة انسانيّة وجدانيّة ،في نهايتها ردّدنا مع الاطفال يستصرخون ربّهم بقولهم :
أبانا !أنظر ماذا فعل بنا البشر!”

ثمّ مررنا بخجلٍ على شرعة حقوق الإنسان والاعلان العالمي لحقوق الأطفال اللذين أُعلنا بعد الحرب العالمية الثانية ، فبأيّ عينٍ يمكننا أن نتمعّن في حقوق الاطفال بالأمان واللعب والتعليم وكلّ حقوق الإنسان مهشّمةً  ومهمّشة في محيطنا. لعلّنا نستفيد منها لاحقًا في محور الأدب الخرافي!

بعد ذلك  سمحت لنفسي أن أترجمَ وطلّابي قصيدةً للشّاعر المتمرّد آرثر رامبو (1854-  1891)،   بعنوان ” النائمُ في الوادي” وهي لوحة تصوير لجنديٍّ ترك في المعركة، ووصفٌ حزينٌ وراقٍ لهذا الشّاب مجهول الهويّة الذي لا يحمل ايّ علامة تمييزية الا الثّقبين الأحمرين اللّذين يكشفان عن وفاته. انه ليس شخصا معيّنا !إنّه جميع الرّجال الذين سقطوا في المعركة.
في هذه القصيدة  جاء انتقاد “رامبو” للحرب رقيقًا للغاية، فالشّاعر ينبذ الحرب ويبتعد عن ذكرها فبخلاف كلمة “الجندي”، لا يوجد شيء من قبيل المفردات العسكريّة والحربيّة؛ وهذا ما يُضفي على النّهاية قوّتها، حيث تتناقض بشكل مفاجئ مع وصف الطبيعة السّعيدة والمهدّئة التي سبقت مشهديّة العنف.

“الجبل ينظر إليه بفخر..

ينام في سريره الأخضر..

رجلاه في السّوسن

أيتها  الطّبيعة، احضنيه بدفء أكثر إنه يشعر بالبرد!

ينام مبتسمًا مثل طفلٍ مريض…

ويداه على صدره حيث رصاصتان اخترقتا جانبه الأيمن.”

ثمّ اخترنا في حصة التّواصل الشّفهي أن نستمع إلى  “ماتيلد بانوت” وهي  نائبة في البرلمان الفرنسي تُدين النّظرة العنصريّة  الذي تشجّع على المذابح. فتقول:

” جرائم ُالحرب ليست مبرّرة بأيّ حال من الأحوال. فحياة جميع البشر متساوية ودموعنا لا يجب أن تغيّرها الجغرافيا”

ولم ننسَ أن ندرس الصّور البيانيّة مع الشّاعرة الفرنكفونية ناديا تويني ( 1935-1983)  في مجموعتها “لبنان، عشرون قصيدة من أجل حبّ”، وفيه توحّدت الشاعرة ، بأرض مزّقتها الحرب، فكتبت لها ولأهلها نشيد حبّ ؛فها هي “بيروت” ماتت ألف مرة وعاشت ألف مرّة من جديد ” ولكنّها تظلّ “الملاذ الأخير في الشّرق حيث يمكن للإنسان دائماً أن يرتدي الضوء”. وها هي بعقلين الشّوف حيث وُلدت” قرية منحدرةٌ مثلُ دمعةٍ على حافةِ جَفن “.  وكم أظهرت قدرتها على  تجنيد كلمة “حرب” ضدّ الحرب، وعلى استعارة الكثير من لغة الحرب المدمّرة، لتصنع وطن الحلم الذي تُنشد .

لقد صنعت من” الرّصاص عِقداً ” وغرفت في  قصائدها من بشاعة الواقع ما جعلت منه كلمات حبّ. وإذا ما أمسكت كلام الموت بين يديها، أنبتت له أجنحة كما في “محفوظات عاطفيّة لحرب لبنان”

في فم المدن الأسود

يدقّ جرسُ الزّهور الحزين

مات البلدُ جمالًا

مقتولًا بقهقهة

قنبلة في الارض حفرت بسمة.

أخيرًا طَوينا هذه ” المحاورَ” الأليمةَ ومعها  نطوي صفحةَ الحزن ،على أملٍ أن نُصبحَ على زهورٍ وجمالٍ وبسمة.

 

             ريمه كمال علامه  /االفرديس١٥/١١/٢٠٢٣

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى