فهْمُ تفاعُلات الجلد والدماغ مفتاحٌ لحلولٍ طبيّة جذريّة
صدى وادي التيم-طب وصحة/
الجلد أكبر أعضاء الجسم حجماً، وصِلة وصلِنا مع العالَم المادي. لا بل هو مسرحٌ لملايين أجهزة الاستشعار التي تُساهِم في منْحنا القدرة على الإحساس الجسدي (Somatosensation). لكن علاقة الجلد العضوية والتكاملية مع الدماغ هي ما يجعل من ذلك النظام التحسّسي آلة على قدرٍ هائلٍ من الضبط والدقّة. والدراسات لا تنفكّ تذهلنا بخفايا الديناميّة تلك وخباياها.
سبق لعديد الأبحاث الحديثة أن أشارت إلى وجود بُنيةٍ صغيرة الحجم في جذع الدماغ تلعب دور “الحارس الأمين” لإشارات الجسم. وفي نهاية العام 2021، توصّل فريق باحثين من جامعتَي نورث وسترن وشيكاغو، ومعهد سالْك للدراسات البيولوجية، إلى أن الدماغ في الواقع لا يتكفّل عناء التفاعل مع جميع المدخلات الواردة من الحواس، عموماً، ومن الجلد وأجهزة استشعاره، خصوصاً.
ويقول الباحثون إن البنية تلك – المسمّاة النواة الإسفينية (Cuneate Nucleus) – تضطلع بِدورٍ حاسمٍ في انتقاء الدماغ للإشارات الحسّية، تعزيزاً لبعضها وتصفيةً لبعضها الآخر. إذ وِفق ما كان سائداً، تستدعي تحرُّكاتنا، أو لمْسنا لشيء ما، استجابة الخلايا المتخصّصة داخل الجلد وفي العضلات. فالإشارات الكهرو – كيميائية تنتقل من هناك عبر الألياف العصبية إلى الحبل الشوكي والدماغ، حيث تشارك القشرة الدماغية في تعزيز الإشارات الحسّية أو تصفيتها انتقائياً. أما النواة، فكان يُنظر إليها كمجرّد محطة نقْل للإشارات من الجسم إلى القشرة الدماغية.
لدراسة النواة، الواقعة عند تقاطُع الرأس والعنق البالغ الحساسية، أجرى الفريق اختبارات على قرودٍ من خلال زرْع مصفوفات صغيرة من الأقطاب الكهربائية لمراقبة خلاياها العصبية الفردية. ومكّنهم ذلك من دراسة كيفية استجابة خلايا الدماغ الفردية في هذه المنطقة بالذات لتحرُّك أحد القرود أو لمْسه شيئاً ما. وتَبِع ذلك مقارنة الاستجابات في الجهاز العصبي المركزي مع نشاط الألياف العصبية المغذّية للنواة.
التجربة بيّنت ما يلي: لو اكتفت النواة بتمرير المعلومات المستقاة بواسطة الخلايا الحسّية للجلد، لكان النشاط العصبي في الجهاز العصبي المركزي ردّد بشكل أساسي نشاط الألياف العصبية. لكن المفارقة تجلّت بعدم تمرير الخلايا العصبية للنواة لمدخلاتها فقط، بل إخضاعها لتحوّلٍ معيّنٍ أيضاً. أي أن معالجة الإشارات الآتية من الجلد دماغياً بدأت فعلياً عند بلوغها النواة.
ننتقل لدراسة أخرى أجراها علماء كلية الطب في جامعة هارفارد ونُشرت في آب الماضي في مجلة Developmental Cell. فقد وجد الباحثون أن نوع الجلد، وليس البرمجة الجينية المسبقة، هو ما يوجّه الخلايا العصبية – وهناك ما يقارب 20 نوعاً مختلفاً منها يحفّز الجلد للكشف عن مجموعة واسعة من الأحاسيس – نحو نضجٍ يخوّلها القيام بمهام حسّية محدّدة. وقد أظهرت النتائج أن الإشارات الواردة من الجلد هي ما يحدّد إذا ما كانت النهايات العصبية تتطوّر للكشف عن الأحاسيس في الجلد المشعّر (ويغطي أكثر من 90% من سطح الجسم) أو الخالي من الشعر.
أثناء النمو، ترسل الخلايا العصبية امتدادات من أجسام الخلايا الموجودة بالقرب من الحبل الشوكي إلى الجلد. وعندما تصل الامتدادات إلى وجهاتها النهائية، تشكّل ما يُسمّى نهاياتٍ مصمَّمة لملاءمة وظائف الخلايا العصبية. علماً أن للخلايا العصبية التي تستشعر اللمس الخفيف، وتُسمّى المستقبِلات الميكانيكية ذات العتبة المنخفضة، نوعين من النهايات: إحداها ذات حساسية عالية موصولة بالجلد الخالي من الشعر (كراحتَي اليدين)؛ والأخرى أقلّ حساسية موصولة بالجلد المشعّر.
وباستخدام تقنية التوسيم الجيني، قام الباحثون بتوليد خلايا عصبية حسّية (مرئية في الجلد) في مجموعة فئران، تتبّعاً لنموّها قبل الولادة. وعلى الرغم من أن النهايات العصبية – في كلّ من الجلد الخالي من الشعر والمشعّر – باتت قابلةً للتمييز بعد أسبوع على الولادة، إلّا أن الخلايا العصبية بدت متطابقة قبل الولادة. ومعنى ذلك أن الاختلافات ظهرت في مراحل لاحقة، ما دعّم فكرة تطوُّر النهايات بناءً على إشارات من الجلد بالذات وتبعاً لنوعه.
في السياق عينه، كشفت دراسة أوردتها مجلة Science Advances قبل أيام عن طريقة رائدة يمكن من خلالها الشعور باللمسات الخفيفة مباشرة من خلال بصيلات الشعر المنتشرة فوق الجلد. ذلك خلافاً لما كان يُعتقد من أن نقل الأحاسيس هو رهن بالنهايات العصبية الموجودة إما في الجلد أو حول البصيلات.
فريق الباحثين من إمبريال كوليدج في لندن استخدم عملية تسلسل الحمض النووي الريبوزي (RNA) ليستنتج أن الخلايا الموجودة في جزء من بصيلات الشعر تُسمّى غمد الجذر الخارجي – وهي المنطقة الممتدّة من الجلد حتى بصيلة الشعر – لديها نسبة أعلى من المستقبِلات الحسّاسة للّمس مقارنَةً مع خلايا بصيلات الشعر. وهكذا، لدى تحفيز خلايا البصيلات ميكانيكياً، تمّ أيضاً تنشيط الأعصاب الحسّية المجاورة، ما يدلّل على تسجيل فعْل اللمس. كما كشف الاختبار أن السيروتونين والهيستامين، كناقلَين عصبيّين، جرى إطلاقهما بواسطة خلايا غلاف الجذر الخارجي، كوسيلة بثّ إشارة إلى الخلايا المحيطة.
والحال أن التفاعل البيولوجي بين خلايا غمد الجذر الخارجي والمستقبِلات الميكانيكية ذات العتبة المنخفضة كان له وقْع المفاجأة على الفريق. ويعود ذلك لسببين: تجاوُزه الاستجابة الميكانيكية البسيطة؛ وتسليطه الضوء على دور غير واضح في السابق لخلايا البصيلات في معالَجة اللمس الخفيف.
الدراسات المذكورة، وسواها طبعاً، تضيف الكثير إلى فهْمنا لدور “البيئة” الجلدية في تفعيل الاستجابات الدماغية للإشارات الحسّية. والأهم هو تفاؤل العلماء بأن ينعكس الجهد المختبري تطبيقاتٍ طبية تحسيناً للعلاجات والتدابير الوقائية. والمقصود: معالجة الأمراض الجلدية الإلتهابية، أولاً؛ إصلاح الأعصاب التالفة وفهْم الاعتلالات والعيوب العصبية الخُلقية، ثانياً؛ وتحقيق مقاربة أدقّ للاختلالات الوظيفية في الأطراف كما استعادة فاقدي القدرة على الحركة إمكانية إدراك أجسادهم – وبالتالي العالَم من حولهم – ثالثاً.
المصدر: روني عبد النور- الصفا