60% من اللبنانيين عاجزون عن تغطية احتياجاتهم
صدى وادي التيم-اقتصاد/
منذ بداية الأزمة، ازداد الحدّ الأدنى للأجور، على مراحل، من 675 ألف ليرة شهرياً إلى 9 ملايين ليرة، وزيد بدل النقل من 10 آلاف ليرة عن كل يوم حضور إلى العمل الى 250 ألفاً. وفي القطاع العام، رُفعت الرواتب والأجور أربعة أضعاف وقرّرت الدولة أن تسمّيها مساعدة اجتماعية وأن تلغي وجودها من أساس الراتب. عملياً، كل هذه الزيادات لا تعوّض ما أكله التضخّم من القوّة الشرائية. فالأسعار ازدادت منذ بدء الأزمة بمعدل 39 مرّة، فيما زاد الحدّ الأدنى للأجور بمعدل 13 ضعفاً فقط، وفي القطاع العام بمعدل أربعة أضعاف فقط. وإذا اعتُمد معيار الدولرة لقياس الخسارة أو التعويض اللاحق بالأجور، فإن الحدّ الأدنى كان يبلغ 447 دولاراً وأصبح اليوم 99 دولاراً، أي أنه فقد 348 دولاراً أو نحو 77% من قيمته. وخسر القطاع العام أكثر من ذلك بكثير، إذ إن أساس راتب موظف فئة رابعة مثلاً، أصبح 82 دولاراً بعدما كان يفوق 1000 دولار. وقد بُنيت كل الزيادات على عملية ترقيع بلا أي رؤية اقتصادية واجتماعية، وتزامنت مع تخلّي الدولة عن الدعم تدريجياً.
في المقابل، تدولرت الأسعار في السوق المحلية بشكل متدرّج، حتى إن بعضها عوّض كامل ما فقدته خلال الأزمة. فأسعار الغذاء، مثلاً، تضخّمت بمعدل 178 مرّة، وزادت أسعار النقل بمعدل 108 مرات، وفق أرقام إدارة الإحصاء المركزي. أي أن أرقام التضخّم تفوق الزيادة في سعر الدولار مقابل الليرة من 1507.5 ليرات إلى 91000 ليرة، أي بمعدل 60 مرّة. ومعدل مضاعفة سعر الدولار يتجاوز بكثير معدلات التصحيح في الأجور. يمكن الاستنتاج، بسهولة، أنه رغم ارتفاع الأسعار العالمية اعتباراً من مطلع 2022، ومع وقف الدعم، فإن الأرباح التجارية ازدادت
أيضاً بمعدلات كبيرة وسط فوضى التسعير وغياب الحدّ الأدنى من الرقابة في الأسواق. فعلى سبيل المثال، كان أدنى سعر لكيلوغرام اللحمة يبلغ 8 دولارات قبل الأزمة، وهو الآن أعلى من ذلك. والأمر نفسه ينطبق على كثير من السلع والخدمات.
استهلاك مموّل خارجياً
ثمة سؤال أساسي وسط هذه التطوّرات: إذا كانت الأسعار قد ارتفعت بهذه المعدلات الهائلة، فلا بد أنها انعكست سلباً على معدلات الاستهلاك، وهذا بدوره ينعكس مباشرة على أرباح التجّار. لذا، كيف يمكن تفسير ذلك؟
في الواقع، تصحيح الأرباح صار معتمداً على التحويلات الخارجية التي تعزّز الاستهلاك. ويقدّر البنك الدولي أنه في عام 2022، بلغت قيمة التحويلات الوافدة إلى لبنان من المغتربين نحو 6.4 مليارات دولار، وباتت تمثّل نحو 35.7% من الناتج المحلي الإجمالي في 2022 ونحو 53.8% من الناتج في 2021. وبالتوازي مع التحوّل نحو الاقتصاد النقدي (اقتصاد الكاش)، ومع انكماش الناتج المحلي الإجمالي من 55 مليار دولار قبل الأزمة إلى 16.2 مليار دولار مقدّرة في 2023، فإن الكثير من المؤسسات أقفلت أو أفلست، ومن استمرّ نال حصّة سوقية أوسع مموّلة بتحويلات وافدة بالدولار. لكن تحويلات المغتربين ليست الوحيدة الوافدة إلى بنية النظام اللبناني، إذ هناك أيضاً تحويلات آتية من الأمم المتحدة للسوريين تقدّر بنحو 1.2 مليار دولار، وتحويلات إلى منظمات المجتمع المدني والأحزاب والقوى السياسية تقدّر بنحو 2.4 مليار دولار، أي ما مجموعه 10 مليارات دولار. هذا المبلغ يوازي أكثر من ثلثَي الناتج المحلّي الإجمالي، ويعزّز الدخل المتاح لدى الأسر التي بات استهلاكها يمثّل 120% من الناتج بحسب أرقام البنك الدولي. عملياً، تحوّل الاقتصاد إلى الاستهلاك بشكل شبه كامل، وما بقي من أنشطة اقتصادية محليّة هو نسبة ضئيلة من الناتج.
أسعار الغذاء تضخّمت 178 مرّة والنقل 108 مرات والدولار 60 مرّة
رابحون وخاسرون
الرابحون في هذا التطور الطارئ على كلّ من الأجور والأرباح هم التجار الذين استغلّوا التحويلات لتعزيز أرباحهم وزيادتها، فيما يحجمون عن تصحيح أجور موظفيهم. أما الحكومة، فبحسب الخبير الاقتصادي إيلي يشوعي، فصارت أمام خيارَين تجاه موظفيها؛ دفع الرواتب والأجور بالدولار، وهذا أمر مستحيل لأن مداخيل الدولار لا تتوافر لدى الخزينة إلا قليلاً، أو رفع سقوف الأجور بالليرة اللبنانية بما يتناسب مع الأسعار في السوق، وهو أمر سيجعل الكتلة النقدية المتداولة ضخمة ويرفع التضخم إلى أرقام قياسية.
ولدى النقيب السابق للمحاسبة أمين صالح تفسير آخر انطلاقاً من سرعة فلتان سعر الصرف في اقتصاد مدولر بنسبة 77%، إضافة إلى فشل السلطة في مقاربة الأزمة، ما كبح محاولات التدخل لتصحيح الأجور، وأتاح تعزيز الأرباح. فالانهيار في قيمة الليرة «لم يترافق مع تدخل معقول في تصحيح الأجور، لتصبح هذه الأخيرة موازية لنحو 6% من قيمتها السابقة» وفق صالح.
ويرى يشوعي أن الاقتصاد النقدي «قائم الآن على 7% من مجموع الودائع في القطاع المصرفي قبل الأزمة، أي ما يوازي 15 مليار دولار يقوم عليها التبادل والاستهلاك»، وهي لا توزّع بشكل عادل بل تذهب الحصّة الكبيرة من قيمها المضافة إلى جيوب نسبة قليلة حتى بات 60% من المقيمين في مرحلة العجز عن تغطية احتياجاتهم.